الأربعاء ٩ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٩
بقلم توفيق العيسى

قراءة في أيديولوجية المسرح الصهيوني

فرقة الهابيما نموذجا...

يعد الحديث عن بداية المسرح الصهيوني وانتقاله فيما بعد إلى فلسطين عقب إصدار وعد بلفور في العام 1917 وحتى العام 1948 صورة سريالية لفكرة النشوء والإرتقاء.

ولادة المسرح اليهودي – وباقي المؤسسات اليهودية- لم تكن ولادة طببيعية ولا قيصرية، فعلى عكس الحقيقة العلمية ولد الأبناء، نموا وكبروا ثم انتخبوا أما لهم ينتمون وينتسبون لها.

صبغ المسرح اليهودي منذ بداياته بتوجهات عنصرية وشوفينية أي قبل ظهور الأفكار الصهيونية وبعدها، أما قبل الأفكار الصهيونية فيرجع السبب إلى طبيعة الثقافة اليهودية وثقافة الجيتو تحديدا التي تتميز بالانطواء والشعور الدائم بالاضطهاد وثقافة(شعب الله المختار) التي تخلق لدى الإنسان نوعا من أنواع التعالي والعجرفة، وما كان لظهور الحركة الصهيونية سوى تعزيز هذه المفاهيم وتنظيم التجمعات الصهيونية في شكل تنظيمي جديد مع الحفاظ على الموروث الثقافي اليهودي وتنميته.

مع ذلك لم يكن لينشأ المسرح اليهودي بشكله الثقافي لولا ظهور الحركة ودعمها له باعتباره أداة من أدوات الصهيونية لإحياء اللغة والثقافة اليهودية وتعزيز الروح والمشاعر القومية والدينية لدى اليهود،

في حين أن اللغة العبرية لم تكن متداولة بين يهود أوروبا بل كانت مقتصرة على رجال الدين وتستخدم في الصلوات والشعائر الدينية فقط، فاللغة وعدم وجود صلة بين الثقافة اليهودية وأرض ما، عملت على إخضاع الكاتب اليهودي إلى التقاليد المسرحية السائدة في البلد الذي يتواجد فيه وهذا نتيجة طبيعية لافتقار الأفراد للاستقلالية واستقلالية نتاجهم الفني والأدبي، الأمر الذي يمنع قيام مسرح يهودي خالص، ولوعيها بدور المسرح في التعبير عن الثقافة والسياسة فقد حدد مؤتمر الصهيونية الأول في بال من العام 1897عدة أهداف والذي كان منها " تقوية الشعور والوعي القومي اليهودي وتغذيته باستمرار" و" إعطاء صورة أفضل لهذا اليهودي العائد من الشتات الذي جاء ليعمر ويزرع الأرض ويستزرع الصحراء ويصلحها".

وطالما أن المسرح اليهودي عد أحد أذرع الحركة الصهيونية فإنه وبلا شك سيسير بذات الطريقة التي تسير بها باقي مؤسسات الحركة، حيث امتازت الهوية الثقافية بالتعصب لكل ما هو يهودي والنهل من التراث الديني والقومي ونستطيع أن نلاحظ ذلك من خلال حديثهم عن الجذور التاريخية للمسرح اليهودي فقد اعتبر الكثيرين منهم أن المسرح يعود تاريخه إلى أعماق التاريخ وهم بذلك يؤكدون فكرة أن الثقافة اليهودية هي أم الثقافات وحضارتهم أصل الحضارات، أما الرأي الأكثر شيوعا وقد تبناه الكثيرين ومنهم مؤسس فرقة (الهابيما) (ناحوم زيماخ) وهو أن المسرح موجود منذ اكتمال التوراة ويستدلون على ذلك بقولهم أن التوراة صيغت بصياغة درامية، هنا فهم إذ يتفقون مع الفكرة الأولى لقدم المسرح فهم يضفون عليه القداسة الدينية، أما الآراء الأخرى فهي تراوحت بين اعتبار أن أي مسرحية يكتبها يهودي فهي تحمل بالضرورة أفكارا يهودية وبين أن المسرحية اليهودية هي أي مسرحية كتبت باللغة العبرية أو مشتقاتها (الييدية) وهي بمجملها أفكار تعزز القومية اليهودية من خلال محاكاة الدين والتاريخ، الأمر الذي سيلقي بظلاله طويلا على الشكل والمضمون في العمل الفني اليهودي في أوروبا وفلسطين لاحقا.

مع تنامي الحركة المسرحية الأوروبية اهتمت بالمسرح اليهودي أو العبري نظرا لوجود جاليات يهودية في البلدان الأوروبية ومنهم من ينتمي للطبقة الوسطى والتجار وهم بالتالي جمهورا مفترضا يتقبل المسرح اليهودي ويشجعه ومن جهة أخرى محاولة تقديم فن جديد للمتلقي الأوروبي.

الأمر الذي قد يفسر سطوع نجم فرقة (الهابيما) اليهودية في أوروبا حتى وصلت أخبارهم إلى فلسطين وبرغم وجود تجارب مسرحية سبقتها إلا أنها تميزت بتقديمها للعمل الفني باللغة العبرية فقط وبمستوى فني عالي.

(ناحوم زيماخ) مؤسس مسرح الهابيما في بولندا سنة 1912 لم يكن بعيدا عن الأفكار الصهيونية بل كان من أكثر مشجعيها ففي بداياته وقبل تأسيس المسرح انتمى لجماعة سميت بمحبي اللغة العبرية وكان هدفه الأساسي والمعلن تشكيل مسرحا يهوديا لنشر وإحياء اللغة العبرية على الرغم من أنه لم يكن من هواة المسرح ولا من المهتمين به، أضف إلى ذلك تأثره بالتوراة والموروث الثقافي اليهودي ومؤلفات هرتزل التي كونت ثقافته.
ومنذ اللحظة الأولى لجأ إلى السيطرة على المتلقي في اختياره لاسم المسرح (الهابيما) وهو اسم ديني وهي المنصة التي يقف عليها الحاخام في الكنيس ليقرأ التوراة.

نقول لجأ ومنذ البداية للسيطرة وذلك من خلال استغلال أو توظيف للرمز الديني وكلنا يعرف مدى تأثر الناس والبسطاء خاصة بكل ما هو ديني، وقد اعتبر أن خشبة المسرح اليهودي كمنصة الكنيس والممثل كالكاهن.
هكذا يستطيع نشر أفكاره الصهيونية وتمريرها بسهولة على المتلقي فمن يجرؤ أن يناقش كاهنا فوق منصة الكنيس أو الهابيما؟؟

وكانت أولى مسرحياته باسم (اسمعي اسرائيل)، وعلق على هذه المسرحية بقوله (لقد بذرت البذور في التربة، وسوف تكبر وتنمو، إن هدفي أرض اسرائيل) وكان زيماخ قد ألف ترنيمة خاصة لمسرح هابيما لرفع المعنويات لدى الممثلين وتشرح أهم الأهداف التي قامت عليها المسرح وهي"جهزوا من أجل الهابيما في أورشاليم سوف نبني الهابيما في أورشاليم" وقدمت الهابيما عددا من المسرحيات المأخوذة من التوراة وعرضت قصص الأبطال اليهود حيث كان زيماخ من المسرحيين الذي تبنوا الرأي القائل أن المسرح اليهودي نشأ بالتزامن مع نزول التوراة،
كذلك اعتمد في بناء الهابيما على ذات الأسس الصهيونية التي بنيت عليها الكيبوتزات الجماعية فكرة الإنتماء والتفرغ الكامل للعمل حتى أن بعضهم هجروا عائلاتهم ليعيشوا في مقر الفرقة وطلب من الممثلين أن ينذروا أنفسهم للدراسة الفنية كما لو كانت دراسة دينية والإنتصار على ذواتهم ورغباتهم الفردية في سبيل تحقيق الحلم الجماعي.

ولكن يبدو أن سنن الكون والقوانين المشكلة لسير المجتمع تثبت عدم نقاء الفكرة الصهيونية فعلى الرغم مما ذكرناه عن النشأة المتعصبة للمسرح اليهودي إلا أن الفضل الأساسي في ولادة الهابيما يعود للمخرج الروسي (ستانسلافسكي) حيث يقول زيماخ بأنه لم يترك وسيلة إلا وحاول بها إقناع ستانسلافسكي بضرورة مساعدته في إنشاء الهابيما حيث حاول إقناعه بمشروعه إحياء اللغة وضرورتها في التواصل بين الشعب اليهودي وحدثه عن تاريخ القمع الذي تعرض له الشعب اليهودي على مر العصور الأمر الذي حذا بستانسلافسكي بقبول المشروع وكما قال " لأن القضية لامست شغاف قلبه" وطبعا نحن لا نتهم ستانسلافسكي بالعمل في المشروع الصهيوني لكن النظرة الإنسانية لدى ستانسلافسكي وحبه لنشر المسرح هما الذي دفعاه لقبول هذا المشروع وما نستخلصه من هذه القصة يوضح أن فرقة الهابيما قد سارت فنيا على منهج ستانسلافسكي الأمر الذي يفسر المستوى الفني الرفيع للهابيما، ولولا الدعم الفني والمادي أيضا من قبل ستانسلافسكي لما كتب للفرقة النجاح في روسيا ومن ثم أوروبا.

في العام 1928 كتبت صحيفة (أجودات هاسوفريم) العبرية في فلسطين عن وصول فرقة الهابيما قائلة " ممثلي الهابيما كمجموعة من الكهنة الذين يضحون بحياتهم من أجل إقامة كيان فني عبري"
وهي بهذه العودة إلى أرض فلسطين تحولت من مجرد فرقة مسرحية إلى مؤسسة قومية، وعلى الرغم من أن الهابيما لم تكن الفرقة المسرحية العبرية الأولى في فلسطين إلا أن إقبال المشاهد اليهودي كان كبيرا باعتبار أن الهابيما وخلال جولتها في أوروبا وأمريكا قد حققت نجاحات لليهود والفكرة الصهيونية خاصة أنها قدمت أعمالها باللغة العبرية في بلاد أوروبا ولشعوب لم تكن تتقن العبرية واستطاعت أن تجذب الاهتمام، أضف إلى ذلك أن المهاجر اليهودي اعتبر وجودها كنزا يثري لغته القومية، كما كانت تجربة جديدة بالنسبة للهابيما التي لأول مرة ستعرض أمام جمهورا يهوديا خالصا يتقن اللغة العبرية وهو أيضا يشترك معها في الكثير من الأهداف وأهمها إحياء الثقافة العبرية. الأمر الذي حملها مسؤولية كبيرة، ووضعها أمام اختبار جديد ففلسطين ليست أوروبا.

أما الأعمال المسرحية التي قدمتها الهابيما فهي:
1- الجوليم 2- اليهودي الأبدي 3- حلم يعقوب 4- الدبوك 5- تاج الملك داوود
وعلى الرغم من أن الهابيما تعتبرا كنزا روحيا (للشعب) اليهودي بما أحرزته من سمعة فنية خارج فلسطين إلا أن هذا الأمر لم يشفع لها في بداية عروضها التي لم يرق بعضها للنقاد والجمهور خاصة تلك التي تتحدث عن الجيتو اليهودي في أوروبا فقد رأى الكثير من الجمهور والنقاد أن هذه المرحلة انتهت وواجب المسرح والفن عموما الآن هو التعبير عن المجتمع الجديد وعلاقاته وطرق إنتاجه الجديدة الأمر الذي جعل الهابيما تعيد حساباتها فوجدت أنها منذ سنوات لم تقدم عملا جديدا وأنها جاءت إلى فلسطين بذخيرة مسرحية قوامها خمس مسرحيات تقريبا عرضت في أوروبا ومع تحقيق هدفها الأساسي وهو العودة (لأرض الميعاد) إلا أنها اكتشفت مؤخرا أن الجمهور اليهودي قليل بالمقارنة مع جمهور أوروبا وأمريكا لذا فإن تكرار ذات المسرحيات على هذا العدد القليل سيفقد الجمهور حماسه وبالتالي قناعته بدور الفن في بناء المجتمع الجديد.
يبدو أن الشتات والتيه اليهودي كان لعنة تطارد أبناء هذه الديانة فقد تعرضت الفرق المسرحية اليهودية في أوروبا للمعاداة من قبل بعض الجمهور الأوروبي خاصة في ظل تنامي الروح القومية لدى الأوروبيين وتعميق الكراهية لدى اليهود، ففي روسيا وبعد محاولة اغتيال القيصر الكسندر الثاني من العام 1881 أصدرت الحكومة السوفيتية قرارا بمنع عرض المسرحيات (الييدية) أي اليهودية وظل هذا القرار قائما حتى قيام الثورة الروسية في العام 1917 ورحلت بعض الفرق اليهودية إلى لندن ونيويورك لتصبحا بديلا عن موسكو، ومع تأسيس فرقة الهابيما في موسكو على يد ستانسلافسكي واجهت أيضا محاربة شديدة من قبل اليهود الشيوعيين الذين اعتبروا أن تعيق الثقافة والقومية اليهودية هو مخالف لمباديء ثورة أكتوبر البلشفية.

أما في فلسطين وبعد أن واجهت الفرقة حقيقة وجودها وعدم تأقلمها مع متطلبات المجتمع الجديد عصفت عدة مشاكل بالفرقة الأمر الذي أدى إلى انشقاقها ففي العام 1929 بدأت تظهر بوادر التذمر والتمرد من المهاجرين اليهود الذين فقدوا الثقة بحلم (أرض الميعاد) وراحوا يحرضون على العودة إلى موطنهم الأصلي وكانوا في معظمهم من المناطق السوفيتية ولم تكن الهابيما بعيدة عن هذا العصف، انقسم المسرح إلى المقتنعين بالفكر الصهيوني وفكرة الإستيطان والذين كانوا مع خروج الهابيما إلى أوروبا في جولة فنية ورأوا أن مركزهم يجب أن يكون موسكو، كما أن هناك مشاكل اجتماعية وثقافية واقتصادية لعبت دورا في انشقاق المسرح.

لعبت الهابيما ومنذ العام 1931 دورا رئيسيا في ترسيخ سياسة الاستيطان الإسرائيلي في فلسطين، فنشأتها الحزبية إذا صح لنا القول كانت وراء ايمانها المطلق بحتمية لدولة اليهودية / الصهيونية في فلسطين وما كانت رحلتها الأولى إلى فلسطين سوى محاولة للتعرف على الأرض الجديدة ودراسة إمكانية الإستيطان في هذه الفترة.

بعد عودتها من رحلة أوروبا في العام 1931 كانت الهابيما قد استفادت من التجربة السابقة ومن جولتها الأوروبية فقد عادت باصرار أكبر على الإستيطان نظرا لما واجهته في اوروبا من تنامي العداء لليهود وتعرضها للأزمات المالية، وقد واجهت أيضا الميل عند جمهور المثقفين والنقاد إلى ضرورة الإستيطان في هذه الفترة بالذات، فمنذ العودة خصصت إدارة بلدية تل ابيب قطعة ارض لبناء مسرح للفرقة ودعمت ماديا من قبل الوكالة اليهودية وروحيا من قبل الجمهور اليهودي الذي كا يساند الفرقة فيما تقدمه وإن اعترض على بعض عروض هذه الفرقة كعرض مسرحية تاجر البندقية لشكسبير.
عادت الفرقة وفي جعبتها هذه المرة تسع مسرحيات اثنتان منها عرضت سابقا بفلسطين وبذخيرة مسرحية من التراث العالمي.

وتميزت أعمال الفرقة في هذه الفترة (1931-1948) مع بقاء النص التوراتي المسيطر على أعمال وتوجهات الفرقة وكانت هذه إحدى الأزمات التي تعرضت الفرقة لها في مسألة ايجاد النص المسرحي فالنص التورتي يعرض للمشاهد الصورة القديمة لليهودي وهي نصوص جامدة لا يمكن تطويرها الأمر الذي خلق معارضة شديدة عندما حاول الكاتب (ماكس برود 1943) مسرحية (ميكال ابنة شاؤل) تطوير النص التوراتي حيث أن تطوير يعتبر مسا بقدسية النص.
وعلى صعيد التأليف المسرحي فقد عرضت الفرقة مسرحيات عن الشتات اليهودي في أوروبا وقد كتبت هذه النصوص باللغة اليدية من قبل الكتاب المهاجرين خاصة أن هذه اللغة ظلت هي المسيطرة في المجتمع اليهودي لفترات طويل،ويعتبر من أهم كتاب الايدية في تلك الفترة:

 شالوم عليخيم، الذي كتب سبع مسرحيات
 جاكوب جوردين، مسرحيتان
 بيريتز هيروشبين، مسرحيتان
 أنسككي، وكتب مسرحية واحدة
 ليفياك، مسرحية واحدة
 مينديل، موخير مسرحية واحدة

وقدمت هذه العروض إلى جانب التراث العالمي (الشكسبيريات) وبعضها مترجم وأغلبيتها قدمت باللغة الألمانية (تاجر البندقية لشكسبير) اخراج ليوبولد جاسنر، ولكن الغريب أن تاجر البندقية قدمت كمسرحية تدعو للتمسك باليهودية وقد جابهت عاصفة من الغضب من قبل الجمهور والنقاد الذين دعوا إلى محاكمة شكسبير والمخرج والهابيما.
في تلك الفترة قدمت الهابيما 79 عملا مسرحيا 44 عملا منها يهوديا و35 عملا غير يهودي وتناولت مواضيع عدة الدين ومشاكل المجتمع الجديد وتجميل الحياة الجديدة في فلسطين وتعزيز الاستيطان كحل لخلاص الشعب اليهودي (هذه الأرض) لأهارون اشمان1942 وعودة الأبناء للمؤلف أشير بيلين 1944.

ويمكننا القول أن تجربة مسرح «الهابيما» لولا توجهاته الاستيطانية والعنصرية تعتبر تجربة ثورية من خلال الخلق والنشأة والإصرار على الإستمرار نحو تحقيق هدف شعبها، فالهابيما ومن اجل هذه الغاية (نحتت بالصخر) لإحياء اللغة والثقافة القومية اليهودية.

فرقة الهابيما نموذجا...

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى