الخميس ٢٨ أيار (مايو) ٢٠٠٩
بقلم محمد البوزيدي

قراءة في تحولات المغرب القروي

لقد اهتمت السوسيولوجيا دوما بالعالم القروي، لكن لوحظ في الآونة الأخيرة أن العالم يعرف فيه تطورات كبيرة بعثرت العديد من الأدوات المفاهيمية المتعارف عليها، فالقرية أضحت عالما بلا حدود مختلف عن ماكان سائدا ومعروفا ومانظر له المفكرون المغاربة خاصة بول باسكون، فقد جرت مياه عديدة ومتنوعة تحت جسور كثيرة بسرعة مذهلة دون أن ينتبه الباحثون لأدق التفاصيل التي أصبح تصنع الحدث بعيدا عن الأضواء.

وفي هذا الإطار يمكن اعتبار الكتاب الصادر مؤخرا للباحث عبد الرحيم العطري تحت عنوان: تحولات المغرب القروي: أسئلة التنمية المؤجلة قراءة وتحليلا جديدا لملف أصبح يثير شهية وجشع السياسي والاقتصادي باعتبار خزانه الانتخابي، لكن دون أن يحفز المثقف على البحث في ثناياه واستفزازه فكريا لتأمل مختلف تيماته.

فالكتاب يحاول الحفر والتنقيب في ثنايا العالم القروي بكل تفاصيله المختفية على مختلف الأصعدة، ويحاول تقكيك وفهم طبيعة التحولات التي تعصف بالقيم والعلاقات والرموز والأنساق داخل القرية، والتي تستحيل في كثير من الأحيان مجرد تغيرات ضمن نسق الاستمرارية وإعادة الإنتاج

1 بين ثنايا الكتاب

يتوزع الكتاب الذي قدم له السوسيولوجي مصطفى محسن ورسمت بعناية غلافه الفنانة رجاء الإدريسي الأزمي على أكثر من 136 صفحة من القطع المتوسط، ويتضمن سبعة فصول رئيسية وهي على التوالي: من يملك الأرض؟، المخزن في المجتمع القروي، مؤسسة (اجماعة) في المجتمع القروي، الأعيان في المجتمع القروي، الثابت والمتغير في وظائف العائلة القروية، تحولات المجتمع الواحي، زمن الهجرة بالمجتمع القروي

2 من يملك الأرض؟

حاول الباحث الوقوف طويلا عند هذا السؤال العريض والذي يمتلك مرجعيته الخاصة من كون أن ملكية الأراضي لها التأثير الحاسم في الحال والمآل القروي بالمغرب، فهذه الأراضي التي تتوزع على الملك الخاص، والأملاك المخزنية، وأراضي الأحباس، وأراضي الجموع تتسم بالتشتت والتمركز في آن تؤثر حتما على الإنسان، كما حلل القوانين التي مازالت تؤطرها والتي يرجع بعضها إلى العهد الاستعماري مما يدل على قصور جمعي في التعاطي مع الميدان من الناحية القانونية ناهيك أن استمرار مختلف طرق الاستغلال التي تتوزع على الخماسة" و"الرباعة" و"المشاركة" و"الخبزة دليل على جمود المجتمع المغربي وعدم استطاعته التخلص من أعراف وقوانين خاصة بالمجال القروي والذي تكون له تداعيات على المستوى المعيشي للساكنة،و في هذا الإطار أورد الباحث أرقاما صادمة إذ أن 67% من مجموع الملاكين لا يستغلون غير مساحات لا تتجاوز الواحدة منها 5 هكتارات، بما يمثل 24% من مجموع الأراضي الزراعية، وهم في الغالب يستغلون أراضي مهددة بالتفتت بسبب الإرث والمنازعات والهجرات وانتشار البناء على حساب الزراعة

2 المخزن والحضور المتجدد

ومن جانب آخر حلل الباحث حضور المخزن في المجتمع القروي بدءا من المقدم والشيخ والقايد محاولا تحليل الأسباب التي تجعل القرية دائما في خدمة المخزن،و كيف أن نفس المعادلة التي كانت سائدة في قرون ماضية لا زالت تتكرر في القرن الحادي والعشرين محللا بدقة الظاهرة القايدية "المحلية الإنتاج"، وهي مؤسسة أصبحت حاضرة بقوتها في القرية خاصة أنها ترعرعت في أحضان القبيلة انطلاقا من الزعامات والعلاقات المخزنية/القبلية، وفي نفس الوقت حاول من خلال دراسة ميدانية بسبت البريكيين بمنطقة الرحامنة تحليل علاقة السكان بالمخزن من خلال أرقام ناطقة تعبر عن نفسها جيدا عبر حقائق ومعطيات تكشف طبيعة المخزن وآليات اشتغاله واختراقه في مجتمع الدراسة. هذا الاختراق الذي يؤسسه انطلاقا من رهانات القوة والفعالية والتي تكرست وتقوت في مغرب اليوم، كما خلص أن العلاقة مع المخزن تميزت دائما ولاتزال عبر التاريخ بالنظرة المشوبة بالحيطة والحذر وعدم الثقة والخوف اتجاه كل ما هو مخزني،مبرهنا على هذه الخلاصات عبر أمثال شعبية مازالت تلقى صدى لها في الممارسات اليومية للقرويين.

إن هذه الخلاصة تأتي انطلاقا من سلوك يومي يحدد أن المجتمع القروي ما زال يعتبر حقلا للتجارب المخزنية، إذ لا يكتفي بالمراقبة بل يعمد إلى التوجيه والتدبير والمشاركة أيضا في صنع ملامح المستقبل، وبذلك لا يمكن تخيل فعـل ما أو لحظـة ما، يسلم أو تسلم من المخزنة. إنه الحضور الكلي والمتجدد لجهاز مؤسسي يجيد الاختراق منذ البدء.

3- مؤسسة اجماعة والمهمات الجديدة

لقد ظلت مفهوم اجماعة التي تتألف من الأعيان وممثلي العائلات الرئيسية المؤسسة التشريعية والتنظيمية والقضائية الوحيدة في النظام القروي،لكنها الآن انحرفت عن وظائفها الأصلية وتم تحويرها،وهكذا فإن الكاتب يعتبر أن مجموع هذه التحولات التي خضعت لها القرية كان له الأثر البالغ في تغيير ملامح هذه المؤسسة وتطوير أدوارها، بل إن التغير سيصير في بعض الأحايين تحويرا للمهام الأصلية التي حتمت الانوجاد الأولي في تضاريس النسق المجتمعي. وقد انطلق من دراسته لوضعية هذه المؤسسة في دوار هلال بأحواز مدينة سلا، من جميع النواحي بدءا من وظائف القضاء التي تؤديها وأدوارها في الصراع الانتخابي والفصل بين المتخاصمين...فالهوية الحقيقية لعالم قروي من ناحية التنظيم اختفت تلقائيا تحت ضغط الحداثة وتدخلات المخزن.

4 الأعيان:عين السلطة

تطرق الكتاب كذلك لمؤسسة خاصة هي الأعيان ومختلف الأدوار التي تلعبها في المجال القروي، فبعدما تم التطرق إلى التحديد المفاهيمي والمرجعية التاريخية التي تحكمها وتؤطرها، والأدوار التي كانت تؤديها يتضح جليا أنها مؤسسة تحولت عن أدوراها لصالح أدوار أخرى حددها المخزن،إنها خلاصات دراسة ميدانية للأعيان في دواوير السبيتات والحنيشات والحجرة البيضاء التابعة لجماعة البريكيين الواقعة غرب مدينة بن جرير،فالأعيان مازالت لهم نفس الأدوار لتي أدوها منذ مدة طويلة مما يعوق التنمية في عالم قروي يرتهن لهم، وقد زكى هذا الارتهان مايطلق عليه الكاتب بالعطب في التنمية القروية، ولم يكن ليتحقق ذلك إلا عبر آليات استقطاب الأعيان وإدماجهم في الأجهزة الإدارية الجديدة للدولة، أو في إطار أجهزة بعض الأحزاب التابعة للدولة، فتحولوا من خدام القبيلة في الماضي إلى خدام المخزن في الحاضر تتمثل أبرز مهماتهم في إنتاج للخريطة السياسية للقرية وفق أهواء وحسابات السلطة المضبوطة.

5العائلة القروية

العائلة القروية كان لها مبحث خاص حيث تمت المقارنة بين وظائفها في القدم والوضع الحالي عبر محاولة اكتشاف وضبط حدود التغير والثبات في مختلف وظائفها البيولوجية والاجتماعية والاقتصادية التي تراجعت نتيجة تطور أبنية العائلة الممتدة، ناهيك عن التغيرات العميقة في مختلف ألوان النشاط والفعالية الاجتماعية التي تعتمل في رحاب هذه العائلة من ناحية المهن والحميمية ووظيفة التعاضد الاجتماعي التي قاربت على الانمحاء.

وفي ظل هذه الدراسة يعمد الباحث إلى طرح تساؤلات عميقة حول النسق العائلي القروي بالمغرب مثل: إلى متى ستصمد الأسرة المغربية؟ وإلى متى ستحافظ على وظائفها واختصاصاتها في ظل هذه التحولات التي يجيش به عالم اليوم؟ وما العمر الافتراضي المتبقي لقيمها وجيناتها في مواجهة كل أشكال الانمساخ والتفسخ التي باتت تهدد كل الأنساق؟

6قرية الواحات: الهروب إلى عالم أرحب

ومن أجل تكوين صورة متكاملة عن العالم القروي بمختلف تضاريسه، اتجه الباحث إلى الجنوب الشرقي لدراسة قرية الواحات من خلال نموذج مجال تيمتيك الوسطانية إحدى واحات وادي درعة بإقليم زاكورة متطرقا للتغييرات الحاصلة فيها من ناحية التراتب الاجتماعي والنشاط الفلاحي وانتقال القرية من مجالها الخاص جانب الوادي إلى مجال آخر يقترب من المدينة ويؤسس لبنياتها المختلفة وهو مايسمى بالحدب.

فقيم التراتب الاجتماعي مازالت واقعا مكرسا ومؤطرا لاشتغال النسق الواحي، بالرغم من كل عوامل التنخيب والترقي التي حققتها مجموعة من العائلات التي كانت إلى حد قريب تنتمي إلى الفئات الدنيا عن طريق الهجرة والنجاح المهني والدراسي فالأدوار والممارسات تظل عصية على التغيير
الماء الذي هو أصل الحياة في عمق الصحراء كان له نصيب وافر من الدراسة حيث تم تحليل التحولات الحاصلة في تدبير الماء في المجتمع الواحي، فمياه درعة صار التي تضبط الحياة الفلاحية للسكان صار متحكما فيها بعد إقامة الدولة لسد المنصور الذهبي. لقد تغيرت طبيعة الماء لدى الساكنة، فمن ماء السماء إلى ماء الدولة، خصوصا وأنها تعمد إلى تسجيل حضورها في المجتمع الواحي عن طريق بناء قنوات التوزيع والتحويل الكبرى والتصفية من الرمال والأوحال
شيخ القبيلة بدوره صار أكثر ارتباطا بالمخزن بدل الارتباط بمصالح السكان، وبذلك فالجماعة ذاتها لم تعد تلتئم بدرجة أعلى من أجل التداول في شؤون المشترك، بقدر ما تلتئم من أجل الاستعداد لاستقبال وفد رسمي أو المشاركة في احتفال ما، أما شؤون ترميم القصر والسواقي فنادرا ما يتم التطرق إليها بعد هجرة القصر إلى الحدب.

التحولات في قرية الواحات ظهرت أيضا في تغيير مواد البناء فالطوب والإسمنت سيصير بديلا عن الطين في عملية البناء، وسيقتصر الطين في بعض الأحيان على الواجهة فقط لتأكيد الانتماء إلى عمق المجال وثقافته.

7- موت القروي وميلاد الزماكري

إنها النتيجة التي وصل إليها الكاتب، فبفعل التحولات الجارية التي جعلت الجميع بغادر مهاجرا إما إلى المدينة أو خارج الوطن،أصبح الحديث عن القروي متجاوزا، وظهر مصطلح الزماكري الذي يحيل على العائد من الهجرة إلى المدن أو الخارج. هذه الخلاصة كانت حصيلة دراسة ميدانية لدوار ولاد ركيعة بإقليم بني ملال حاولت رصد ميكانيزمات الهجرة وحيثياتها ونتائجها الرهيبة على كل المستويات،فالسيول البشرية المنزلقة من الأرياف نحو المدن أو نحو الخارج في شكل هجرات موسمية أو دائمة أو هجرات شرعية وغير شرعية، لا تكون بمحض الصدفة، بل هي نتيجة للعوامل الإيكولوجية أو السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية أيضا، وكلها عوامل رئيسية تسهم بشكل أو بآخر في إنتاج وإعادة إنتاج ظاهرة الهجرة القروية نحو المدن أو الخارج.

فالعودة إلى القرية صيفا تحيل إذن على التجرد من الهوية القديمة وارتداء هوية جديدة فالمهاجرون الذين يزورون الوطن والبلدة صيفا لا يكتفون في غالبيتهم باستقدام هذه السيارات الفارهة، بل يصرون على السياقة بسرعة جنونية ورفع صوت الموسيقى المنبعثة من سياراتهم، وكأنهم يودون إعلان الحضور والتميز، فالأمر يتعلق بمحاولة لإثارة انتباه الجميع، وإعلان الهوية الاجتماعية الجديدة التي تؤشر على الحراك الاجتماعي الرأسي، والانتهاء بالتالي من شروط السابق المفتوحة على الفقر والعطالة وسوء الاندماج
إنه معطى جديد يؤكد الكاتب أنه نتيجة مركبة لأسباب يتدخل في صناعتها السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي.. والذي يتجاوز مجالات القرية والهجرة إلى التدبير الدولتي للمسألة القروية والتعاطي مع المسالة الاجتماعية، فالهجرة مغربيا لا تكون حصريا بسبب العوامل الطبيعية، وإنما تغذيها أسباب أخرى أكثر حسما للحال والمآل، من قبيل البحث عن ظروف عيش كريم بعيدا عن الفقر والعطالة والتهميش، وهي الأعطاب الأكثر بروزا في جغرافيا المجتمع القروي المغربي.

وختاما يمكن القول أن الباحث قد رسم منحى جديدا في إطار السوسيولوجيا القروية عبر هذا المؤلف القيم الذي أكد انه لا يدعي امتلاك الحقيقة ولا الكمال أو الاكتمال، خصوصا وأنه يهم مجالات لا تمثل إلا جزءا من حيوية مجتمع قروي في محك التحول، إنها محاولة معرفية لاكتشاف منطق الخلل قد تشفع لهفواتها وبياضاتها محدودية الإمكانيات المادية والزمنية، التي لم تقف حاجزا أمام قلق البحث عن المعنى.

محاولة استطاعت الجمع بين التحديد المفاهيمي المضبوط، والتحليل الذي يمتح من حقول معرفية مختلفة، إذ يمتزج حضور المؤرخ الذي يؤصل للظواهر الاجتماعية الحاضرة انطلاقا من الماضي والجغرافي الذي لايتوانى في تحديد المناطق جيدا،وعالم الاجتماع الذي ينطلق من الاستمارة الميدانية لصياغة استنتاجاته، والإحصائي الذي يعزز خلاصاته بإحصائيات مدققة،مستقرئا لها محللا لها بأدوات معرفية تضفي على النتائج صبغة المعرفة العلمية، والباحث الذي ينتبه ويلتقط أدق التفاصيل المتعلقة بعالم القرية ليقدم مقاربة جديدة من أجل تجاوز العطب المستشري الذي يهيمن على المجال القروي مؤكدا أن المدخل الرئيس للتنمية القروية بالمغرب يكمن في الأرض وأنماط استغلالها، فإعادة النظر في أنماط الملكية العقارية وطرق الاستغلال الزراعي يمكن أن يشكل معبرا أثيرا ونوعيا إلى الإقلاع التنموي المؤجل أو المعيب في العالم القروي. لقد تم تجريب مشاريع الكهربة وفك العزلة والقروض الصغرى...و مع ذلك ظلت القرية غارقة في الفقر والاختلال ومنتجة لكثير من مشاكل المدينة، فلماذا لا يتم تجريب مقاربة الأرض؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى