الثلاثاء ٢٠ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٩
بقلم لطفي زغلول

قراءة في حـرية التفكير والإبداع

تهب على العالم العربي بين حين واخر عاصفة ثقافية، قد تكون فكرية مجردة أو إبداعية يقف في الغالب وراءها روائي أو أديب أو شاعر، أما أنهم يبحثون عن شهرة من خلال طرح عمل ما ايا كان شكله، يعمل على خلخلة الامن الثقافي والفكري للمجتمع.

او أنهم أصلا ينتمون الى شريحة من أوساط فكرية أو إبداعية، اطلقت على نفسها مسمى المثقفين الحداثيين، قد سمحت لنفسها اجتياز سياج محرمات فلسفة المجتمع السائدة والتسلل عبره منتهكة بذلك منظومة القيم والتقاليد، وماسة بالموروث العقائدي والفكري ومستبيحة اياه.

وفي نفس الوقت فهي تناقض ما تدعي أنه حقها في حرية التعبير والإبداع والتفكير، فتهاجم بضراوة كل من يتصدى لها مدافعا عن قيمه وتقاليده ومثله وتراثه، ناعتة اياه بأنه ظلامي خرافي جاهلي رافض للعصرنة والحداثة والتطوير، الى اخر ما في هذه المنظومة من اوصاف.

وقبل الخوض في غمار هذا الموضوع ثمة حقائق لا بد من طرحها هنا وتتصدرها حقيقة حساسية الجماهير العربية في كل جغرافيا عربية تجاه معتقداتها وقيمها وموروثاتها الايديولوجية والثقافية، وبخاصة في هذه الايام التي تتسرطن فيها ثقافة العولمة التي تهدف الى تدمير ما لدى الشعوب من ثقافات وفي مقدمتها الثقافة العربية الاسلامية.

وثانية هذه الحقائق أن المدافعين عن الثقافة العربية بكل ابعادها واتجاهاتها لم يبدأوا هم المعركة، وكانوا على الدوام مدافعين ومنافحين ليس الا. وانما بدأها اولئك الذين يطلقون على انفسهم مسمى الذين يشنون هذه الهجمة الفكرية الثقافية الإبداعية الشرسة، ويختارون المواقع الأكثر حساسية في فلسفة المجتمع السائدة ليقصفوها بافكارهم العولمية المستوردة.
واخيرة هذه الحقائق لا اخراها أن المساس بالفكر العقائدي بأية حال من الأحوال، أو الاقتراب منه هو عمل خطير غير مسؤول يجر الى عواقب وخيمة وتداعيات خطيرة. وهو لا يمكن له أن يتم تحت ظلال ما يسمى حرية التفكير والإبداع والتحديث والتطوير ومسايرة روح العصر والحداثة، أو تحرير العقل العربي، تلك الذرائع التي يدعي هؤلاء المثقفون الحداثيون أنها تشكل برنامج اجندتهم. وهي في الواقع عملية نزع جلود ثقافية في اطار التخلي عن كنوز الثقافة العربية الاسلامية وقطع الصلات معها والتنازل العبثي عنها.

وانطلاقا مما سلف، فثمة تساؤلات تطرح نفسها في هذا السياق تخص هذه الهجمة الشرسة على مجمل الثقافة العربية. والسؤال الأول حول ما اذا كان هؤلاء المثقفون الحداثيون وقد اضافوا الى مسماهم فعالية جديدة بشأن الدعوة الى العولمة - يتحركون من تلقاء انفسهم ام أن هناك جهات معينة تتولى تحريكهم لقاء اهداف ومرام ومغاز لم تعد خافية على احد.

والسؤال الثاني في ما اذا كان كثير من هؤلاء يقترفون هذه الافكار طلبا للشهرة ولفتا للأنظار وجنيا للمكاسب. وهي آلية ليست جديدة، اذ ليس اسهل على كاتب أو مفكر أو شاعر أو روائي مغمور من أن يتطاول على مقدسات امته باسم حرية الفكر، لكي يصبح عندها مادة اعلامية وحديثا على السنة الناس، لعله بذلك يخرج من ظلام التنكير الى فضاء الانوار والتعريف.

وسواء كان هذا الاحتمال أو ذاك أو كلاهما معا أو غيرهما، فالمحصلة واحدة هي التشكيك بالثقافة العربية بكل إبداعاتها اصيلها ومعاصرها، ومحاولة لاقتلاعها من جذورها خدمة لأغراض واهداف لم تعد خافية على كل ذي بصر وبصيرة.

وجراء كل ذلك وعلى خلفية تكراره، ففي اعتقادنا أن شرائح عريضة من المجتمعات العربية، قد اصبحت ذات حساسية تجاه اعمال أدبية أو فكرية أو إبداعية اخرى تصدر في العالم العربي وتفوح منها رائحة المساس بالمعتقدات الدينية والتي يحاول البعض الذي نصب نفسه قيما على الثقافة العربية أن يدافع عنها تحت ستار حق الحرية، متذرعا بحجة تطوير هذه الثقافة وتحديث الوان مشهدها، والتحدث مع الآخرين بخطاب عصري آخر مقبول لدى الأوساط الثقافية العالمية.

وفي حقيقة الامر أن المساس بالمشاعر الدينية من خلال اعمال إبداعية باسم حرية التفكير أو التعبير أو بقصد السير في ركب الحداثة مرفوض كونه (كما اثبتت كل المحاولات السابقة) كان عامل هدم وتمزيق وتفسيخ لكل البنى الاساسية التي تقوم عليها المجتمعات العربية، اضافة الى أنها تعميق للصدوعات التي تعمل على انقسام هذه المجتمعات من الداخل، وانكسار تضاريس لحمة وحدتها انكسارا حادا. وهي في المحصلة حرية عبثية تهدم لا تبني، وتبدد لا تصون، وتهدد لا تحمي.

وخلاصة القول أن مبدأ حرية التعبير والإبداع حق لا جدال فيه. ولكن قبل أن تطالب اية فئة بحقها هذا فان عليها أن تحترم حرية الاغلبية في عقائدها وتوجهاتها الثقافية والفكرية. وهذه الاغلبية الساحقة ليست مجدر فئة أو طائفة أو جهة أو حزب أو حركة، وانما هي امة عريقة لها جذورها الضاربة في اعماق الحضارة الانسانية ولها منجزاتها وإبداعاتها وتراثها، وقبل كل شيء تميزها وتفردها.

وثمة ميادين كثيرة لهؤلاء المثقفين الحداثيين غير المساس بالمعتقدات، لا ينبغي لهم أن يلتفوا عليها أو أن يتجاوزوها، أو أن يخرجوا اقلامهم وادوات إبداعهم الأخرى من معركتها.

هناك موضوعات جمة وقضايا اساسية ما زال العالم العربي يفتقر اليها نسوق منها مثالا لا حصرا الحريات السياسية والاجتماعية، والديمقراطية وعدالة توزيع الثروات وتكافؤ الفرص والصحة العامة والمحافظة على البيئة، علاوة على حق الحصول على رغيف الخبز والتعليم والدواء، ومحاربة الجشع وتمركز الثروات لدى فئات محدودة من المجتمع العربي.
في اعتقادنا أن هذه موضوعات تشكل وليمة دسمة لكل صاحب قلم أو اداة إبداع اخرى لا يهرب منها الا من كانت نواياه لا تتقاطع وتطلعات مجتمعه وامته. وليس هؤلاء بحاجة الى تذكيرهم بان مناطق هامة من العالم العربي ما زالت تناضل من اجل التحرر والسيادة والرجوع الى احضان العالم العربي. أن هذه وتلك موضوعات اساسية لا غنى عنها وتستحق أن تظل الاقلام وادوات الإبداع العربية تدور في افلاكها حتى النهاية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى