الأربعاء ٢٥ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٦
بقلم محمد دلة

قراءة في قصائد للشاعر "موسى حوامدة" ج "1"

يتعالى بيت الشعر تمثالا نورانيا فوق عرش المدرج الروماني، يعيد كتابة العناصر بريشة الصخر والصمت، ويزيح عن عنق ربة عمون دوار النهار، يغمرها بفتنة ليلها الفضي. ولا تكاد تحضن ما يتقطر من عناقد الرمز وخيلاء المشهد حتى يمتد قريبا من قدميك المبتلتين بغبار الطريق خصر المدرج هبوطا دائريا، كخطوة حصان غجري يدق بحافره قرن الشمس متحفزا للمجالدة.

موسى حوامدة يفتش عن نصه الضائع في فوضى الورق

ربة عمون تفرد شرفتها انتظارا للفتى القادم من خزنة الحكمة ومن عليقة النشيد، أي أبابيل جاء يسرها في كنانة الروح؟ أجاء بما لم تقله المزامير ليوقظ سلالة الريح التي حملت عبء تجوال الكلمات.

بيت الشعر مكان مؤثث بالأسطورة والصدى، وإليه جاء موسى حوامدة متحفزا ليضرب بقصيدته الصمت فتنطلق الخيول تجوب وحدانية العالم، بيت الشعر خير عكاظ تقرأ فيه قصائد "للخديعة طعم الأبوة"، "يدها للنهر"، أقل مما يحبذ المزمار"، "سلالتي الريح"، "لا ندَّعي وَرَعاً في المُوسيقى"، وذلك أن القصائد كما المكان يضربان عميقا في وحدانية الثقافة وأسرار الميثولوجيا.

نذكر أن الشاعر قرأ القصائد بين يدي روح والديه، ويصر الفتى السموعي أن لا يتوقف عن حك صرة المسك بالأسئلة فهو يضع الشعر عاليا في أقاصي النصوص التي تقرأ على أرواح الموتى، وكأن الشعر ما زال ديوان الخليقة، وما زال أول جواب نقدمه على مذبح الجرح والموراء، ترك لهما مقعدين على شرفته، إذ أوى إلى ثالث المقاعد وأكثرها انحيازا لليسار، وكانت القصيدة الثالثة مهداة الى عبير الحاضرة لحسن الحظ وإلا لكان عليه أن يقرأ واقفا، ولأنه طفل عاص لم يجنح للطاعة إلا بأقل مما يليق بالولد الطيب، وذهب بعيدا نحو سواري اللعنة والخطيئة، تلاحقه لعنة الكائنات، وعبثا تُدجّن فوضى الطفل الدائري، فرغم كل التحضيرات والوصايا العشر إلا انه ضيع الورقة التي تحمل خاتمة النص الأول كما ضيع بالتجريب والثورة بر والديه، وكان علينا أن ننتظره يفتش بين أوراقه البرية عن امتداد النشيد، ولولا برهان تلك الصبية التي تحفظ القصيدة عن ظهر قلب، والتي تطوعت بكتابتها من ملكوت ذاكرتها لانتظرنا طويلا، وربما لخرجنا عليه نماحك فوضاه وعصيانه، نعم ما زال في امة النص نساء يحفظن كل شيء ونأخذ عنهن كامل الشعر ومفتتح القصيدة.

ويقرأ منطلقا من هامة المجتمع الذكوري رثاء الآب، ومن ثمة رثاء الأم، ويقدم بكائية عشق لامرأة من حبق ومن هال ومن ثمة يرثى نفيه ويتمادى في النشيد، وحين تتم الاقانيم الثلاثة تتساوى الأشياء، وكل الأشجار صغيرة اللون والرائحة أمام غطرسة تفاح الحكمة.

لا أقدم هنا دراسة أكاديمية في شعر موسى حوا مدة وإنما أبوح انتشاء بخمرته، وأحاول أن أتوحد بالنص وأقدمه من رؤية قارئ شغف بالإبداع والتجديد.

القصائد التي نأوي إليها تشكل منوالا واحدا وتعبر عن صدمة وجودية وترابية بالحاضرين أبدا أب وأم، وبالحاضرة أبدا، امرأة نكسر في البحث عنها كثيرا من فخار الدروب، ووسط الأسئلة الملحة تنشب في جلد الكائن أسئلة الأنا وقد غاب الاشيبان، وقد غابت حاضنة المكان وعلينا أن نقيم في حضن امرأة تنكأ على لدونة الامكنة.

"شعرية العناوين" تكشف قدرة الشاعر على اصطياد المعاني وعلى تسمية المكنون والكائن، ونلاحظ أن موسى تخدمه العناوين حيث أراد، فإصراره على إعادة كتابة الميثولوجيا شعريا يتجلى بوضوح من خلال العناوين "فللخديعة طعم الأبوة"، ويدها للنهر، وأقل مما يحبذ المزمار تشدك الى نشيد الإنشاد ومزامير العهد القديم وبالأساس للميثولوجيا الشامية والعراقية التي أسست لنصوص العهد القديم، ولأن نصوص العهد القديم حاولت إنتاج الفلسطيني لتسهل إلغاءه وإبادته، فان موسى يحاول أن لا يدير خده الأيسر لصفعة النص المقدس ، بل يقلب ظهر المجن ويقاوم النص بالنص.

ومن خلال هذه النقطة المشتبكة المليئة بحفر اللايقين والخديعة والفجيعة على موسى أن يفجر خطاب اللغة ليخدم دولبة النصوص وإعادة إنتاجها إنسانيا، والتربة حبلى بالمزالق والطين، ولان الاغيار_ من شكهم، من إجاباتهم النيئة، من وعيهم الزائف_ قدموا لنا يقينا لا يقبل النقض يعلن موسى انتماء للجملة الاسمية الخبرية التي تقول لنا الحق وعلينا أن نقبل حكمتها دون تساؤل، فيقينه أعلى من كل يقين وفي حضرة الآب من يستطيع أن ينتمي الى الفعل، علينا أن نتلقى فقط أمام هذه السطوة الماحقة، حضور أبيه فعل مواز لعملية الخلق والكشف والتنزيل، وغيابه يلغي فينا صيرورة الفعل كحضوره تماما، فقد صادر من وعينا إمكانية الفعل، وتركنا اسارى لطغيان الحزن والفقد، ففي القصيدة الأولى"للخديعة طعم الأبوة" تمتد الجملة الاسمية لتستهلك غالب النص، لتعبر بمطابقة عن نفسية الشاعر بحضرة والده حيا وميتا بما يشبه المعجزة اللفظية، فنص لا تشكل الأفعال أكثر من تسعة بالمئة من كلماته وبقائه محافظا على علويته لنص جدير بالاستقصاء بعيدا عن أسس البلاغة الكلاسيكية وتنظيراتها المغرقة في شكلياتها التي أظن أنها فقدت دورها التاريخي، وإصرار البعض على أن لا يتجاوز سقفها ما هو إلا اكليريكية لغوية بغيضة.

كلماتُه ترنُّ في أذن الجبالْ

سعالُه يَصدحُ عاليا

بياضُ حَطَّته

تَهدُّل عِقاله

حزامه الجلديُّ العريض

ظهره المنحني

جبهتُه الموشومة بتعاريج الصخور

بياضُ صَدْرِه

سُمْرَةُ وجهه

نَقيضان للطبيعة

شَبيهان بالوريث.

آنَ تَقهرنا الفكرةْ

تصنعنا الحسرةْ

آن تَسْحَرنا الخطيئة

ومن خلال هذه المرثية أن صح التصنيف يحاكم موسى كل شئ، فوالده اتخذ بعدا آخر، يتقاطع مع صورة الآب في المزامير الذي منه انبجاس الظواهر واليه تعود العلل، ويمتلك قدرة كلية على إنتاج القوة وتوظيفها ضد الشرير، فالأب هنا فردوسه الضائع، والصورة الجمعية للفلسطيني الذي برأ اللغة وزين الموائد بالكروم والآلهة، وأخيرا يقتله خنزير في براري الصيد. ويأتلف الأتباع لمحقه وإخراجه من الدائرة.

هنا دمعه المتدفق

هنا ماؤه العذب

هنا جنته الضيقة

هناك خلفَ اللاشيء

بنى للكلماتِ قبرها وللغيابِ وَصيته،

أبي الذي كان

أبي الذي يكون

أبي الذي لم يكن

لا يريد الشاعر هنا أن يعلو صوته، فهو لم يكن شاهدا على اقتلاعه، وليس شاهدا على حالة النفي المكاني والإنساني والمعرفي والنفسي، ولكن يهمس مرتعدا بفيضية جارحة كشجرة تنز تحت جنزير دبابة الغزاة.

أينَ يَدفعُ البحرُ ماءه؟

أينَ يَكنزُ الغريبُ جثة أبيه؟

كيف يرتقُ المكلومُ شقوقَ كلماته؟

الصراخ ظاهر الفجيعة وباطنها الصمت، والحزن الواخز يتخذ وديانه خلف ستائر الروح

لستُ شاهداً على الفتنة

كنتُ حطبَها المحترق

ويعبر تخوم الحزن، إلى وجه أمه معلنا "أقل مما يحبذ المزمار، يدها للنهر" وكأنها عرش النبوءة يعمد الأشجار والقديسين وسنبلة تسمح لحنطتها الارتطام بالأسئلة، أي وجع ترابي يحفر ذاكرة الشاعر ؟ أي نص يعيد كتابته بملح الفقد وخبز الدموع المحترق

نعم تسمح الأم

"الأم تسمح حنطتها للسنابل أن ترتطم بالأسئلة"

أن يطلق مدارات أفكاره، وان يعلن احتكاك غرته بأيائل الشمس، فيترك يقين الجمل الاسمية التي تليق بمقام الوالد، وينشب أظافره بالجمل الفعلية ما بين طلب وأمر ونهي، وما بين صيرورة تتبرج بالمضارع، وعبر تقص إحصائي سريع نجد أن الأفعال تشكل أكثر من ربع الكلمات في النص، ولو أضفنا إليها الكلمات التي تحمل في ظلالها معنى الفعل كالمصدر واسم الفاعل لتجاوزت النسبة التوازن السائد فيما توارثنا من نصوص.

امْتَزجي بأولى القطرات،

امتدّي بين اليقين والجحيم،

الْتَبِسي بالنثر

تكلَّلي بالخليط المتشكل في ساقية النجيع.

عَمِّريني ببيتٍ يتيم من صَنيعك

امنحيني شعباً ليِّناً

وأتباعاً مَأْخوذين،

ولأنها الأم، نستطيع بحضرتها أن نعلن كل معاركنا، كل تفاصيل اعتزازنا بالذات، دون أن نخدش حضورها البهي، فها هو المتنبي يذوب حزنا وشوقا وينشد:

لك الله من مفجوعة بحبيبها

قتيلة شوق غير ملحقها وصما

......

تغرب لا مستعظما غير نفسه

ولا قابلا إلا لخـــــالقــــه حكمــــــــــا

يقولون لي ما أنت في كل بلدة

وما تبتغي ما ابتغي جل أن يسمى

واني لمن قوم كأن نفوسهم

بها أشم أن تسكن اللحم والعظمــــــا

وها هو شاعرنا يدخل ملكوتها مشتبكا بانتصاراته وهزائمه، ليقول كل ما لم يجرؤ على قوله في حضرة الوالد الذي أعطاه بعدا ميثولوجيا ليعبر عن علاقته المشتبكة به والمتشكلة من حب واضطهاد ولوم وسطوة وفقدان تشبه العلاقة بوطن نحبه ولا ننتمي إلا لفقره وتهميشه وسجونه،

مع بالغ الأنانية للجَدْيِ الرضيعْ

يَحْضُرُ الراعي خيالٌ من قفقاسيا

وَلَدٌ من جبال الألب

ناسكٌ في معبد بوذي

راقصة في ملهى ليليّ

سكيرٌ في ساحة الكرملين.

وفي "اقل مما يحبذ المزمار"

مضى نحوَ باب الخطيئة طفلُ الحرمان

مضى يجر أذيالَ الخليقة

يطوي الكتابَ على عجلْ

تباركَ الجنون

تباركت المخلوقات

تبارك سعيُ المحرومين

للقاء الكثبان،

تباركَ شلالٌ غامض

ينبعُ من بحيرات الحسرة،

وها هو يستعير خطاب المسيح حين طلبت منه أمه مريم أن يبدأ معجزة الخمر قائلا لها:

"إليك عني يا امرأة فهذا ليس أوانك"

سامحيني يا امرأة

ما كنتُ أدركُ رعشةَ القتيل

ولا أحملُ ميراثَ الأجداد

سامحيني يا مليحة

تحت عينيك أقيمُ خَرابي

ومن بين يديك أصنعُ تماثيلي.

ويعترف الشاعر بكل أخطاء الكون، لعل الموت يترفق ويعيد قلب أمه

اعترف للنار بأخطاء المجوس

أعترف للكاهن بآثام الصليب

أقرُّ هنا أن الأنبياءَ شعراءُ الزمان

دهنوا الشعرَ بالتراتيل

كسروا الدائرة

نفذوا لمعاصي الطين.

بدد الحزن والوهم كل صلة للشاعر بالوجود، وكان عليه أن يجيب على عناكب الأسئلة، ويمشي على بحيرة الدمع، وكانت سلالتي الريح نصا رعويا يجيب ويطلق كل مركبات الأسئلة رغم ما يطفو على موج القصيدة من يقين خائف يؤكد حضور الشاعر ويكشف مساحات خوفه الوجودي.

سفر تكوين نقيض، وكأن الشاعر أراد بكلية نظرته دفاعا عن تجزيئه ورميه بالزندقة والتجديف يحاول أن يحدد نصوصا إنسانية تنتمي لوحدانية العالم وتتخذ من محراب الجمال هيكلها يضع فيها عن يمينه وشماله كل من سكبوا مخمل النور على عورة الكائنات.

قَبْلَ أنْ تَرتطمَ الفكرةُ بالأرضِِِ

قبْلَ أنْ تفوحَ رائحةُ الطينِ

تَجولتُ في سوق الوشايات

أحملُ ضياعي

أقتلُ نفسي

أنا هابيلُ وقابيل،

آدمُ أنا وحواءُ

نسلُ الخطيئةِ

وزواجُ السوسنِ من بيتِ الطيوبْ

انه لا ينتمي لانعزالية الواحد، هو في صيرورة الظاهرة ولا يقيم كلاجئ على حواف الفكرة والعبارة، لذا سمموا وطنه، ويحاولون شده إلى عبودية الانعزال، وكما ابن عربي..

لقد صار قلبي قابلا كل صورة

فمرعى لغزلان ودير لرهبان

وبيت لأوثان وكعبة طائف

وألواح توراة ومصحف قرآن

أدين بدين الحب أنى توجهت

ركائبه فالحب ديني وإيماني

إلا أن شاعرنا يوحد نفسه ليس مع فكر ضفاف النهر وإنما مع ماهية الماء، ويناجز من يجنحون الى الوشل، ولا يدعي ولعا باليقين وإنما يمارس غوايته في مسامات الدهشة.

معي ومضةٌ من سلاح الإله مارس

قبسٌ من نار بروميثيوس

ومعي آياتٌ من القرآن

مزاميرُ من داود

تراتيلُ من بولص

مقاطعُ من بوذا

كلماتٌ من عبد البهاء

لستُ عارفاً مطالعَ الفُلْكِ ولا مغاربَ الخلق

بدأتُ أعتادُ الدهشة

وأتجلَّى في مراياي!.

وبعد أن تعب الشاعر من حاجته للإجابة العرفانية على كل الموضوعات ليقاوم سطوة النص الالغائي، وليؤكد حضوره رغم مر الفقد وتشفي الحزن يكمل دورة الكرم، ويعود لدورة الطفل الذي لا يبحث عن عقلانيات، ولا تهمه صحة الصورة وإنما قدرتها على حفز الفرح والتخيل. ورافضا تنميطه بين فكي اسم مهما علا طنين الأسماء.

ربما وُلدَ مني مزارعٌ فرنسي

أو سياسي مخادعٌ في ايطاليا

ربما جئت من تراب لوس انجيلوس

أو من طين أثينا

من يعرف تاريخ جسدي قبل ألفي سنة

من يملك بيضةَ الرُخِّ في يده

من يدلني عليّ؟

قلبي مليءٌ بوجيب العالم

خطواتي تأخذني لبيت النار الأول،

لعلَكَ أنتَ مني وأنا من ثرى المريخ

لا أنكرُ صلتي بزيوس

ولا أقرُّ بدمه في عروقي

لا أطعنُ في صحة النهر

ولا أخبئُ البحر في خزانتي

سلالتي الريح وعنواني المطر

وبعد أن يكتب السيرة الذاتية لمسيرة الحزن، آن له كفارس قديم جاب سهوب الأسطورة، أن يستريح في كف حبيبته، أن يعد تعرجات النهر والتواءات السوسن، وأن يأتلف بالأشياء التي هجرت بريته في حديبية العاشق، فرأس الرجاء الصالح سيتخلى عن مهمته في خدمة الأساطيل والقراصنة وسيمد القلب بالمسك والعود والتوابل:

أديرُ رأسَ الرجاء الصالح

إلى جهة القلب

هنا

تعود أفريقيا شهيةًً مثلَ قرعِ طبول الزولو،

تمائمُ السحر تحيط جِيْدَ الغزالة،

ترانيمُ الغروب

تقيم في بيت النار.

وتتجلى في قصيدة لا ندعي ورعا في الموسيقى انتشاءات موسى بالفرح الجديد وها هو يأنس للأفعال المضارعة لينتمي للمستقبل عبر رصف القصيدة بشكل مكثف بالأفعال المضارعة بما يختلف اختلافا عن كل ما سبق من قصائده.

يمتلك الشاعر موسى الحوامدة نفسا بنائيا مختلفا للقصيدة، ولن أتحدث هنا عن وحدة النص فالقصائد التي نحن بصددها تكاد تشكل نصا واحدا، وإنما عن تجزيء الشاعر لقصائده لتشكل مقاطع متناسقة الجرس الموسيقي، ومتناسقة الخطاب اللغوي

للغيومِ نهارٌ آخرُ

للخديعةِ طعمُ الأُبوة

للمشانق حكمةٌ تُخْفيها الرهبة.

آنَ يحملُنا النهرُ إلى أخطائنا الأولى

آنَ يجمعنا النهارُ في وجبةٍ سيئة

آنَ يحرِقُنا العجزُ في أتون المنفى

فنراه في المقطع الأول يبدأ الجمل بالجار والمجرور كمتعلق بخبر محذوف، وفي المقطع الثاني بالفعل الماضي مكررا في الجمل الثلاث لتبدو كأنها أغصان شجرة واحدة، ورغم خطورة اللجوء الى التكرار كداعم بنائي إلا انه وظفه بطريقة خلاقة جعلت من استبداله مهمة مستحيلة، وينوع الشاعر في أساليبه اللغوية بما يخدم فكرته وحالته النفسية لتخرج قصائده مؤتلفة ناضجة مؤثثة بالمعنى والصنعة الجيدة، وكأنه خزاف أتقن صنعته حتى آخر التكوين.ويتناص الشاعر مع نصوص وحالات ميثولوجية لا تطغى على نصوصه بل يوظفها لصالح رؤيته وصالح إعادة إنتاج الأسطورة.

فتناصه مع نصوص المزامير لم يك اتكاء وإنما صيرورة أخرى تؤكد حدوث الذات ونفي النص السائد الذي ينافي انسانيية البوح، ألم يساوي الشعر بالنصوص المقدسة، أولم يعلن صراحة نبوة الشعراء؟

كلماتُه ترنُّ في أذن الجبالْ "تتزعزع الجبال بطموها" مزمور 46

سعالُه يَصدحُ عاليا "صوت رعدك في الزوبعة" 77

بياضُ حَطَّته "المصعد السحاب من أقاصي الأرض

تَهدُّل عِقاله "الصانع بروقا للمطر" 135

حزامه الجلديُّ العريض "المخرج الريح من خزائنه"

ظهره المنحني

هنا لا يمكننا الحديث عن تناص مسطح بل عن تناص مركب يستحضر الحالة، وذهنية الخطاب وبعض الخيوط اللغوية ليغزل منها قميصا آخر للعبارة وفضاءا مختلفا للرؤية.

الآخرونُ لا يقيمون في مآتمنا "ومعذبونا سٍألونا فرحين قائلين رنموا لنا من ترنيمات صهيون مزامير 137

الآخرون لا يشاركوننا الفضاء"كيف ترنم الرب في الأرض الغريبة"

بعيونه المشعةِ في الظلام

بعيونه المختفية خلف نهر الصور القديمة

تلاشى سليلُ النار

غطَّت سُخونة العَبَرات

ما تبقى من ضياء،

"صعد دخان من أنفه ونار من فمه أكلت، جمر اشتعلت منه"طأطأ السموات ونزل ضباب تحت رجليه"18 مزامير

ويتضح ذلك أيضا في التناص مع حالتي مالك بن الريب في رثاء نفسه وحالة المتنبي يرثي أمه، وحالة ابن عربي يعلن وحدانية الوجود، وحوارية الشاعر مع نصوص العهد القديم والتي تحاول أن تقدم نقضا للنص من خلال تقديم بديل أكثر إنسانية، أو من خلال تأصيل الأسطورة ووصلها بجذرها الحقيقي في ميثولوجيا وتراث الشاعر الذي يحاول الأغيار تأصيل محقه وقتله استنادا لنصوص وميثولوجيا مفتراة، ولأن الشاعر مقيم في منازل قلقه، ومنازله تهدمها معاول الأساطير مؤسسة لاستبعاده فأنه يشهر أول الكلمات ليجمر وعيا جديدا قادرا على الكشف مفجرا بدمه قيود الأيدولوجيا المسيطرة نحو رؤية شعرية تعود لمصبها الأول وترتقي ببنائية النص وفنيته وعمقه لتكشف مساحات أبعد من غابات وعي ولا وعي الإنسان المقتلع والمهمش الذي يقف فقط على قوائم النزف والريح.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى