الثلاثاء ٢ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٧
بقلم عادل الأسطة

قراءة في قصة (الكلب سمور) لتوفيق فياض

الكلب سمور قصة من عشر قصص قصيرة أصدرها توفيق فياض في مجموعة واحدة هي " الشارع الأصفر " في العام 1968 وهي لا تأتي على أحداث حرب حزيران في الأدب العربي، على الرغم من صدورها بعد الهزيمة بعام.

نها يمكن أن تدرس ضمن أدب النكبة – أي الأدب الذي عالج نكبة العام 1948، ذلك أن أكثر قصص المجموعة أبرزت ما فعلته النكبة في سكان فلسطين وما عانوا منه نتيجة هجرتهم من وطنهم في العام المذكور، أو ما ترتب على بقائهم فيه – في الوطن، بخاصة من لم يهاجر وغدا أقلية تحت الحكم الإسرائيلي.

ولا أدري بالضبط متى كتب القاص قصته، فلربما يكون أنجزها قبل العام 1967 ونشرها في الصحف والمجلات،قبل أن يجمعها معا في كتاب. ولابد ونحن ندرسها من أن نراعي هذا ونلتفت إليه، فعام النشر قد يوحي لقارئها أنها مستوحاة من الهزيمة، وستقول لنا القصص غير هذا، وسيرتد زمنها القصصي إلى ما قبل العام 1967،وسيبدو هذا أوضح ما سيكون في القصة المعالجة هنا، قصة "الكلب سمور"، وهذا ما سأبرزه.
موضوعات قصص "الشارع الأصفر" إذن مستوحاة من نكبة العام 1948 وما ترتب عليها. ولم تترك النكبة أثرها في قصص فياض وحده،إذ برز تأثيرها على كتاب كثيرين،خارج فلسطين وداخلها، شعراء وقصاصين وروائيين. ويكاد المرء يجد أكثر من وشيجة تربط بين النصوص الأدبية التي أنجزت مابين 1948و1967. ولعل أبرز هذه الوشائج هي تصوير معاناة الشعب الفلسطيني لفقدانه وطنه، أو لبقائه فيه تحت حكم جديد، حيث غدا الباقون أقلية تعاني من حكم عنصري، يميز بين مواطن ومواطن.

كنت تناولت قصة سميرة عزام "فلسطيني" وأبرزت معاناة الفلسطيني فيها في المنفى، وكنت عالجت قصة غسان كنفاني وأظهرت المال الذي آل إليه اللاجئون. وفي قصة "المتسللون" عن إبراهيم أتيت على تشتت العائلة الفلسطينية، وهذا ما بدا أيضا واضحا في قصة توفيق فياض "الحارس" وقصة نجوى قعوار فرح "أمر الخيارين".لقد توزع الفلسطينيون، مابين عشية وضحاها، أيدي عرب وأيدي يهود، وغدت الأسرة تقيم في غير مكان، بعد أن كان يضمها مكان واحد.

وتنتهي قصة الكلب سمور بالأسطر التالية:

"ما كاد بو قاسم يرى قاسم يدخل الخيام منكسا رأسه حتى،اغرورقت عيناه بالدموع، فانضم إليهما جميع أهل البيت لاسيما الصغار، ثم ساد الخيمة صمت حزين، قطعه بو قاسم صافقا كفا بكف:
  لا حول ولا قوة إلا بالله.. رجع سمور عالبلد يا قاسم.ورد قاسم بصوت كسير
  على الأقل رجع يموت في الدار يابا.. مش مثلنا، نموت مهججين من الجوع والعطش، لا بيت ولا مأوى".

والأسطر السابقة تشير إلى حياة اللجوء بسب حرب العام 1948، الحياة الصعبة المرة القاسية التي مر بها أهلنا بسبب الهجرة، وتعزز فكرة ركز عليها الأدباء الفلسطينيون، في الداخل وفي الخارج، وهي أن الخطأ الأكبر الذي ارتكبه أهل فلسطين كان يتمثل في خروجهم من مدنهم وقراهم. ولقد لاحظنا قسوة حياه المنفى في قصة فلسطيني،
وفي قصة القميص المسروق، وفي رواية كنفاني "رجال في الشمس" (1963) وفي أعمال أدبية أخرى أبرزها أيضا قصة سميرة عزام"لأنه يحبهم".ولقد لاحظنا أيضا محاولات بعض الفلسطينيين العودة إلى ديارهم، رافضين حياة اللجوء، في أعمال سابقة لهذه القصة وأعمال لاحقة لها. وأحيانا كانت هذه العودة تؤدي بالعائدين إلى الهلاك، كما في قصة "المتسللون"،وأحيانا قد يفلحون في العودة وينجون، كما في رواية إميل حبيبي "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل.(1974)، حيث نجا سعيد، وهو عائد،من الموت بأعجوبة،فقد نفق الحمار، حين صوب الجندي الاسرائيلي رصاصة نحو سعيد، لينجو الأخير، وتغدو حياته، في اسرائيل فضلة هذه
الدابة المسكينة. وأيضا في كتاب محمود درويش في حضرة الغياب "(2006)حيث يسترجع تجربة كان هو وأهله مروا بها، فقد هاجروا إلى لبنان، ولما اكتشفوا قسوة حياة المنفى، وعدم امكانية العيش بعيدا عن الأرض، عادوا متسللين بواسطة سمسار حنين.

الفكرة إذن مطروقة في الأدب الفلسطيني قبل كتابة القصة، ولربما تظل تطرق في نصوص أخرى ستكتب، ذلك أن الأدباء،وأهلهم من ورائهم،أدركوا أن البقاء في أرض الوطن فضيلة ما بعدها فضيلة. أليس لهذا طلب إميل حبيبي أن يكتب على شاهدة قبره: "باق في حيفا"،هو الذي كتب غير مرة،اثر ما تعرض له الفلسطينيون في المنافي العديدة، أن الجلوس على الخازوق في الوطن،أفضل من الجلوس على خوازيق الغربة العديدة ؟ ثم أليس محمود درويش هو من كتب،من قبل، ما يلي:

"وأبي قال مرة:
الذي ماله وطن
ماله في الثرى ضريح،
ونهاني عن السفر،،

وحين هاجر،في العام 1970، اكتشف أنه أخطأ، وظل يعبر عن ندمه باستمرار،ذاهبا إلى أن غصنا من الكرمل الملتهب يعادل كل خصور النساء،وكل العواصم (1974)، سائلا نفسه باستمرار:"لماذا نزلت عن الكرمل ؟"
نتذكر هنا أيضا ما كان توفيق زياد كتبه من قبل في قصيدته: "هنا باقون "،فقد رأى المتكلم فيها، وهو يتكلم باسم عشرين كاتبا ومثقفا ضايقتهم الأحزاب الصهيونية الحاكمة،أن البقاء فضيلة، حتى لو عانى الباقون من الظلم والاضطهاد،وحتى لو،اضطروا لممارسة مهن وضيعة، بل حتى ولو اضطروا لان يستفوا ترب الأرض.

القصة والموازنة:

لتعزيز فكرته المتمثلة في أن الرحيل والهجرة خطأ كبير ارتكبه الفلسطينيون،يلجأ توفيق فياض إلى اتخاذ الكلب عنصراً للكتابة عنه؟، ليتحدث عن وفائه،حيث لم يكن الناس أوفياء لأرضهم، كما كان الكلب وفيا. وربما قسا الكاتب كثيراً،حين جعل الكلب،في سلوكه، أفضل من الناس. حقا أن أهلنا ارتكبوا جناية،حين تركوا مدنهم وقراهم، لكن من يدري ماذا كنا نحن سنفعل لو مررنا بالظروف التي مروا فيها، وكان وعينا على قدر وعيهم في تلك الأيام. ولا أدري أن كان أهل توفيق فياض أنفسهم،وأهل قريته، تعرضوا لما تعرضت له مدن مثل حيفا ويافا،وقرى مثل الطنطورة وقبية وكفر قاسم.ولربما،حين يقرأ المرء كتاب (ايلان بابيه): "التطهير العرقي "، لربما يتراجع عن أقوال يقولها، وهو يمر في ظروف غير تلك الظروف التي مر بها الشعب الفلسطيني في العام 1948. لربما. اننا نوافق الكاتب فيما يدعو إليه،بل ونحن أيضا ندعو إليه – أي البقاء على أرض الوطن، ولكن ماذا كنا سنفعل لو مررنا بالفعل بما مر به أهلنا ؟ هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، فقد حاول فلسطينيون،ولو بطريقة فردية، العودة كما عاد الكلب سمور، فماذا كانت النتيجة: السجن، أو الإعادة إلى المنفى، أو القتل، وتبرز لنا قصته منا إبراهيم " المتسللون " بعض هذا. وأيضا لقد حاول الفلسطينيون، منذ العام 1965، العودة، وماذا كانت النتيجة ؟ مازال اللاجئون لاجئين،وما زالت المخيمات تزداد اتساعا والحياة فيها تزداد قسوة وبؤساً.

وربما يتذكر المرء وهو يقرا الصورة الجميلة التي أبرزها توفيق فياض لكلبه، حيث وفاؤه لصاحبه ولأرضه، وحيث مقاومته للجنود الانجليز، ربما يتذكر المرء كلب عساف في رواية عبد الرحمن منيف " النهايات "، فلقد ظل الكلب فيها وفيا لعساف، هذا الذي ظل وفيا لأرضه، للصحراء وربما تذكر المرء أيضا ما قاله مظفر النواب في وتريات ليلية عن العرب والقردة.

بناء القصة: قصة شخصية

يركز توفيق فياض في بناء قصصه على الالتفات إلى الشخصيات، وربما يكون من ابرز الكتاب، في القصة الفلسطينية، في داخل فلسطين، الذين كتبوا قصة شخصية – أعني أن الكاتب يلتفت إلى الشخصية لتكون محورا رئيسيا.
وان لم تكن قصصه كلها قصص شخصيات،فان قسما منها كان قصة شخصية بالدرجة الأولى،ومنها هذه: الكلب سمور، ومنها أيضا: الشيخ لافي الملك،والبهلول، وأبو جابر الخليلي، من مجموعة البهلول. ويلاحظ أن مكون العنوان فيها كلها مكون شخصي،مكون فاعل،ولأن العنوان في القصة التقليدية الكلاسيكية يلخص القصة كلها،ولا يحتمل تأويلات عديدة،فان عناوين قصص فياض المذكورة تخبرنا عن محتوى القصص. القصة تتمحور حول العنوان وتتركز خلاصتها فيه.

حقا إن هناك شخصيات ثانوية في قصة الكلب سمور،مثل قاسم وبو قاسم، ولكن الكلب سمور هو المحور الرئيسي.
تبدأ القصة به وتنتهي بذكر اسمه على لسان قاسم،ولا تخلو فقرة محورية من الفقرات الرئيسية في القصة من حديث عنه، أو وصف سلوك قام به. كانت ولادته حزينة، وربي تربية صعبة وقاسية،بعد أن فقد أمه وأخوته، وعاش في كنف أم أخرى، وفي البراري،ولما دافع عنه صاحبه، هو الوفي، فقد سجنه الانجليز أيضا،وتنتهي القصة،كما لاحظنا، بعودته إلى المكان الذي نشأ فيه،لأنه يرفض أن يحيا حياة اللجوء،حياة الشتات، ولأنه يؤثر أن يموت في الأرض التي ولد فيها. وهذا هو الانطباع الذي يظل عالقا في الذاكرة لفترة طويلة،بعد قراءة القصة.

ولأن القصة قصة شخصية، بالدرجة الأولى،فان التركيز جاء عليها،منذ لحظة ولادتها،حتى لحظة عودتها،والزمن يبدو فيها محددا،وهو من العام 1945، في خريفه إلى العام 1948، عام اللجوء. ومن المؤكد أن الزمن زمن السرد هنا لا يتطابق والزمن القصصي إطلاقا. الزمن القصصي،كما لاحظنا،يمتد ثلاث سنوات،فيم حجم القصة لا يزيد عن إحدى عشرة صفحة، وإذا ساوينا زمن السرد بزمن القراءة – أي الزمن الذي يحتاجه المرء لقراءتها،أو بزمن القص – أي الزمن الذي يحتاجه قاص القصة لقصها هنا، فان إحدى عشرة صفحة لا تحتاج قصاً أو قراءة إلى أكثر من أربعين دقيقة. ولا أقصد هنا بزمن السرد الزمن الذي سرد فيه السارد قصته،أو الذي قص فيه القاص قصته.
يمتد الزمن القصصي إلى ثلاث سنوات،وتسرد في أربعين دقيقة على الأكثر،ما يعني أن السارد لجأ إلى ما يعرف بالخلاصة، أي قص إحداث بإيجاز، فحذف واختصر وأهمل ما لم يره ضروريا.

الزمن الكتابي والزمن القصصي: دلالات

حين كانت الأحداث في القصة تجري، لم يكن توفيق فياض تجاوز التاسعة من عمره،فلقد ولد في العام 1939،ما يعني انه أصغى إلى القصة في فترة لاحقة، وقصها حين غدا كاتبا، أعني كتبها.
وما بين كتابتها وجريان ما جرى مع الكلب سمور فيها حوالي خمسة عشر عاما على الأقل، هذا إذا كان فياض كتبها في العام 1963، أما إذا كتبها في العام 1966 مثلا فان المسافة مابين جريان الأحداث وما بين زمن الكتابة ترتفع لتغدو ثمانية عشر عاما. ولربما تساءل المرء: هل ثمة دلالات لهذا ؟ وهل ثمة تأثير للزمن الكتابي على الزمن القصصي ؟
لا أدري ماذا كان فياض سيكتب لو كان عمره ثلاثين عاما في العام 1948. هل كان سيتصرف تصرف أكثر أهل فلسطين أم انه كان سيتصرف تصرف الكلب سمور ؟

ولعل الأهم مما سبق أن هذه القصة قصة أدب مقاوم بكل معنى الكلمة، مثلها مثل قصص فياض التي ظهرت في مجموعة" البهلول ". وإذا فهمنا أدب المقاومة كما فهمه غالي شكري في كتابه " أدب المقاومة " (1970)، فلا شك أن توفيق فياض ليس من أدباء الاحتجاج، بل من أدباء المقاومة.انه يوضع هنا إلى جانب معين بسيسو، لا إلى جانب محمود درويش وسميح القاسم وآخرين، ممن رأى فيهم شكري أدباء احتجاج. لماذا؟ لان أبطال فياض الذين كتب عنهم يدعون إلى حمل السلاح،ويقاومون به المحتل،وهو ما نلحظه في هذه القصة،حيث يهاجم الكلب سمور الجنود الانجليز،بل وجنود جيش الإنقاذ الذين أحبطوا الناس ولم ينقذوا الوطن. وما نلحظه في هذه القصة نلحظه أيضا في القصص اللاحقة لفياض:
في قصة الشيخ لافي الملك، وقصة البهلول،وقصة أبو جابر الخليلي أيضا، وهي قصص أنجزها وهو في المنفى، وكانت الكلب سمور تحمل بذرتها،كأنها تعبر بأسلوب مباشر، عما لم يقو، وهو في فلسطين عن التعبير عنه إلا من خلال الترميز.

مرايا الأخر: أخر الفلسطيني في هذه القصة هم الانجليز. وحين يأتي على ذكر اليهود لا يستخدم مفردة غير هذه: اليهود، فهو لا يميز بين يهودي صهيوني ويهودي غير صهيوني. وقد أتيت وأنا اكتب عن قصة الحارس على موقف فياض من الأخر،وهو هنا لا يختلف.

الاقتباس التالي من القصة يوضح كيف تعامل الانجليز مع أهل فلسطين:

"ولم يقتصر اضطهاد الجنود الانجليز على أهالي المدن وحدهم،بل تعداه إلى جميع القرى،ولاسيما تلك القرى التي كانت تجاور معسكرات الاحتلال وعلى الأخص قرى مرج بن عامر. ولما كانت قرية مقيبلة لا تبعد عن أحد المعسكرات – بل ومن أضخمها – غير مئات الأمتار، فقد كانت هدفا مباشرا لاضطهاد الجنود الانجليز، سواء كان ذلك في النهار أو في الليل،حيث كانت بيوت القرية عرضة للتفتيش في أي وقت في الليل،بحثا عن السلاح والمناهضين للاحتلال الذين كانوا يغيرون في الليل على مخازن الأسلحة في المعسكر ".

وعموما فان صورة الانجليز هذه لا تختلف في كثير عن تلك التي بدت لهم في نصوص أدبية كثيرة أنجزها توفيق معمر وآخرون. وأما جيش الإنقاذ العربي،فبعد أن رحب به أهل القرى، على أمل أن ينقذهم، غدا عبئاً عليهم وأصبحت العلاقة به يسودها الفتور وعدم الرضا.

لغة فياض:

في هذه القصة، كما في قصة الحارس، مستويان لغويان، العربية الفصيحة، وهي لغة السرد،والعامية الفلسطينية، وهي لغة الحوار.ولعلنا لاحظنا هذا من خلال النصوص المقتبسة سابقا. ويبدو فياض حريصا على أن تكون لغة الشخصيات في القصة كما هي في الواقع،تماما كما أنه حريص على أن تكون لغة السارد، ومن ورائه الكاتب، هي العربية الفصيحة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى