الاثنين ٢٧ آب (أغسطس) ٢٠٠٧
سميرة عزام.. أربعون عاما من الرحيل
بقلم عادل الأسطة

قراءة في قصة "فلسطيني"

تعد سميرة عزام، كما يذهب بعض دارسيها ودارسي القصة القصيرة في فلسطين، رائدة القصة القصيرة الفلسطينية. وربما ذهبوا إلى أبعد من ذلك، فعدوها رائدة القصة القصيرة العربية. هذا إذا ما قصرنا الأمر على الكاتبات.

ولقد صدر للكاتبة التي توفيت في 8/8/1967، إثر نكبة حزيران، لأن قلبها لم يحتمل الهزيمة المذلة، لقد صدر لها، في حياتها وبعد وفاتها، خمس مجموعات قصصية هي: "أشياء صغيرة" (1954) و"الظل الكبير" (1956) و"وقصص أخرى" (1960) و"الساعة والإنسان" (1963) و"العيد يأتي من النافذة الغربية" (1971).

ولقد لفتت قصصها الأنظار، فأنجز عنها غير دارس مقالة أو دراسة، وهو يدرس فن القصة القصيرة في فلسطين، وخصها بعض الدارسين بكتاب خاص، مثل وليد أبو بكر، وعرفت أن هناك أطروحة دكتوراة أنجزت عن أعمالها، ولا أدري إن كانت صدرت في كتاب.
وكانت دار الأسوار في عكا كرمت القاصة التي ولدت في المدينة، وذلك بإصدار مجموعتها "الساعة والإنسان" في نهاية السبعينات، وإعادة إصدار مجموعاتها الخمس في العام 1987. ومن خلال دار الأسوار، عرفنا نحن قراءة الأدب في فلسطين سميرة عزام وقصصها.
في آب من هذا العام تصادف الذكرى الأربعون لوفاة القاصة، وبهذه المناسبة أقدم هذه القراءة النقدية لإحدى قصصها، وهي قصة فلسطيني.

دال العنوان:

إن قراءة بدئية لدال العنوان، دون ربطه باسم سميرة عزام، ستسفر عن معان متعددة، ذلك أنها ستستحضر في أذهان القارئ أزمنة مختلفة، اختلفت النظرة فيها إلى الفلسطيني. تماما كما أن النظرة إليه ستختلف في الزمن نفسه باختلاف المكان. النظرة إلى الفلسطيني في العام 1948 حتى العام 1967 هي غير النظرة إليه ما بعد 1967، سواء من الآخر أو من الفلسطيني ذاته. الفلسطيني قبل العام 1967 هو اللاجئ الذي لا يفعل شيئا سوى الانتظار، وهو العالة على الأمم المتحدة. والفلسطيني بعد العام 1967 هو المقاتل الذي يريد محاربة دولة إسرائيل التي هزمت ثلاث دول عربية. إنه الفدائي الذي يصمد في معركة الكرامة ويرد للجندي الإسرائيلي المتغطرس الصاع صاعين، ويكبده، بإمكانات قليلة، خسائر فادحة.
والفلسطيني في الأردن في العام 1970، في نظر النظام هناك، في حينه، هو غير الفلسطيني في سوريا في العام نفسه، في نظر النظام هناك. ونظرة الفلسطيني لذاته،في العام ذاته، هي غير نظرة آخرين له قاتلهم وقاتلوه.

وستظل النظرة إليه تختلف من مكان إلى مكان، ومن زمان إلى زمان، وسيعترف به من أنكر وجوده. بل وستختلف نظرته هو إلى ذاته، في الزمان وفي المكان أيضا، وحسب الموقع الذي يكون فيه. قد ينظر الفلسطيني إلى ذاته بإعجاب، وقد يحتقر نفسه أو بعض أخوانه. وقد تختلف نظرته إلى فلسطينيته ما بين فترة وأخرى، ويغدو غير ذاته.

وقد لفتت صورة الفلسطيني في الأدب الفلسطيني، بل وفي الأدب العربي، أنظار الدارسين، فأنجزوا عنها دراسات في الشعر وفي القصة وفي الرواية، ولاحظوا أنها صورة متغيرة في الزمان وفي المكان. إنها ليست صورة واحدة إيجابية في المطلق، أو سلبية في المطلق. بل إنها صورة متنوعة في الزمان نفسه وفي المكان نفسه. ويلحظ من يقرأ أشعار إبراهيم طوقان، على سبيل المثال، إنه كتب عن الفلسطيني الفدائي فمجده، وكتب عن الزعيم الفلسطيني فسخر منه بشكل عام، وكتب عن السمسار، فرأى أنه ينتمي إلى عصابة، عار على أهل البلاد بقاؤها. إنها عصابة ألعن من إبليس. كان ذلك قبل العام 1948.

وقارئ الأدب الفلسطيني عموما، الأدب الذي أنجز بعد العام 1948، قادر على استحضار هذه المفردة بدلالات مختلفة سلبية وإيجابية. تبدو صورته، في القصة موضع الدراسة، كما سنرى، لا تسر بال صديق، ولكنها في بعض روايات جبرا إبراهيم جبرا ستبدو إيجابية مشرقة، وستبدو لدى شاعر فلسطيني هو علي فودة مدعاة للافتخار، فالفلسطيني كحد السيف. ويعلن أحمد دحبور اعتزازه بفلسطينيته، فلو كانت يد الفلسطيني مشركة لكفره الجليل. كان هذا بعد العام 1967. بعد أن تحول اللاجئ إلى مقاوم يرفض الخنوع والذل. ولكن محمود درويش بعد أحداث غزة في 14/6/2007 سيتساءل: من قال إننا استثناء.

سميرة عزام وصورة الفلسطيني:

إذا أراد المرء أن يكتب عن صورة الفلسطيني في قصص سميرة عزام، فلا مناص أمامه من استعراض النماذج الفلسطينية التي برزت في قصصها، ولا بد أيضا من الإطلاع على ما كان عليه الواقع الفلسطيني في الفترة التي أنجزت فيها الكاتبة قصصها. ما بين العام 1948 و1967 لم يكن الواقع الفلسطيني عموما مشرقا.

لقد تحول الفلسطينيون إلى لاجئين، وغدوا، كما في قصة "لأنه يحبهم" لصوصا وبغايا ومفسدين ومخبرين. لقد فقدوا الأرض ففقدوا الكرامة. كانت الأرض مصدر رزقهم، وفي المنفى ما عادوا يجدون فرص عمل، ولأن الفضيلة في الزمن الصعب، كما يقول أحد أبطال غسان كنفاني في قصة "الصغير يذهب إلى المخيم"، تكمن في البقاء على قيد الحياة، إذ لا فضيلة بعدها، فقد أراد الفلسطينيون ألا ينقرضوا، حتى لو سرقوا ومارسوا الرذيلة.
لكن تحول الفلسطيني إلى لص وبغي ومخبر ليست الصورة الوحيدة له، فالفلسطيني قاتل في العام 1948، ودافع عن أرضه ومدينته وفضل البقاء فيها حتى اللحظة الأخيرة، وهذا ما يبرز في قصة "خبز الفداء"، وهو أيضا يحب العمل، ويفضله على الكسل، وعلى أن يكون عالة على الآخرين، حتى لو كانت أمه من الآخرين، وهذا ما يبدو في قصة "سأتعشى الليلة".

قصة فلسطيني:

الفلسطيني في القصة هو اللاجئ، وإذا كان لا بد من تحديد الزمان والمكان، فالزمان هو ما بعد النكبة، نكبة العام 1948، والمكان هو لبنان. وهكذا تكتب سميرة عزام عن لاجئ فلسطيني في لبنان، ولا تكتب عن اللاجئين كلهم، وإن لم يختلف واقعهم في أماكن اللجوء كلها، في الأردن وسورية وقطاع غزة والضفة الغربية، إلا اختلافا طفيفا. ففي حين منحت بعض الدول الجنسية للاجئ، أو الوثيقة، لم تمنحه إياها دول أخرى. وفي حين عاملت بعض الدول اللاجئ معاملة قاسية، عاملته دول أخرى معاملة أقل قسوة. وربما تذكر المرء على سبيل المثال، هنا قصيدة عبد الكريم الكرمي "سنعود"، وفيها يقارن بين حياته في دمشق قبل اللجوء، يوم ذهب إليها ليدرس فيها قبل النكبة، وحياته فيها لاجئا، حيث أقام فيها بعد العام 1948. هل بالغ أبو سلمى، وبالغت سميرة عزام مثلا؟ هذه قضية أخرى.
والعنوان نكرة. فلسطيني. وتتكرر اللفظة في القصة خمس مرات على النحو التالي:
  يطلب الفلسطيني صاحب الدكان من جاره اللبناني هويته، ليقارن هويته اللبنانية المزورة بها، فيسأله اللبناني:
"وما تفعل بهويتي يا فلسطيني؟". ولا يناديه باسمه.

  يدرك السارد معنى وجود الفلسطيني بعيدا عن فلسطين. إنه غريب ومضطهد وغير معترف به:
"فهو في هذا الركن الذي تقوم فيه دكان لا تختلف في شيء عن أكثر الدكاكين ليس أكثر من فلسطيني... بهذا ينادونه ويعرفونه، ويشتمونه إذا ما اقتضى الأمر.
  يستعيد السارد أيضا ما يدور في أعماق الفلسطيني الذي يريد أن يتلبنن، فيتذكر جده أبا صالح في الرامة:
"ولكنه يستأذنه في أن يعدل من صدفة جغرافية تعفيه من كلمة فلسطيني تشده إلى قطيع امحت فيه معالم الفردية، يتلفظون بها مشفقين حين يرفض أن يكون موضع شفقة أو...."

  ومع أنه يحصل على الهوية اللبنانية، مقابل مبلغ ألفي ليرة، تعادل نصف محتويات دكانه إلا أن المرأة اللبنانية "تمد صوتها الأرعن جسرا عبر الشارع تبلغ به صبحي الكراج المواجه وتقول له بلهجتها الممطوطة الخلية: "وينك يا ولد قل "للفلسطيني" أن يضع لي في السلة زجاجة كولا".
  وتنتهي القصة، بما يورده السارد العليم عن إحساس الفلسطيني حين سمع العبارة من المرأة مع أنه امتلك هوية لبنانية:
"وأحس "الفلسطيني" في وقفته المرتعشة خلف الطاولة بالصوت الممطوط ينفذ من سترته إلى جيبه الداخلي فيحيل البطاقة إلى مزق، مزق صغيرة تخشخش في جيبه، في غير عنفوان".

ومع أن السارد/ الكاتبة عَرّفَت مفردة فلسطيني، إلا أنها ظلت، حتى في تعريفها، نكرة، فلم تبرز له اسما خاصاً به.

واقع الفلسطيني في لبنان ما بين 48 و1967:

إذا كان بعض الدارسين قال إن الشعر ديوان العرب، فيمكن أن أقول: إن القصة القصيرة الفلسطينية ديوان الفلسطينيين. وقصص سميرة عزام، وغسان كنفاني من بعدها، وغيرهما ممن كتبوا القصة القصيرة ما بين 48 و1967، تعد ديوان الفلسطينيين بحق، فهي تسجل ما مروا به ما بين تلك الأعوام، وربما ارتدت إلى ما قبلها، بخاصة في المنافي. ولمن يريد أن يعرف معاناتهم قبل النكبة وبعدها، فما عليه إلا أن يعود إلى مجموعات القصاصين ليقرأها.

قصة "فلسطيني" تعبر عن معاناة الفلسطينيين اللاجئين في ذلك القطر العربي، من خلال تصوير حالته ومقارنتها بغيرها من الحالات: الأرمني واللبناني. تشبه حالة الفلسطيني حالة الأرمن الذين تجردوا أيضا، بسبب نكبتهم، من ملامحهم الفردية، وغدوا ينادون يالأرمني، حتى لو أقام الواحد منهم في الحي خمسين عاما. الأرمني أرمني بغض النظر عن اسمه وملامحه الخاصة، وكذلك الفلسطيني. ويختلف عن هذين ابن البلد، حتى لو تشابه معهما- أي الأرمني والفلسطيني ، وحتى حين يحصل اللاجئ الفلسطيني على هوية لبنانية، ويرغب في أن يتلبنن، ويبحث عن جذور له في قرية لبنانية، يظل فلسطينيا، بما تعنيه الكلمة من اضطهاد واحتقار وشتيمة.

وعليه لا يستطيع الفلسطيني أن يسافر، وأن يمارس المهن التي يمارسها اللبناني، وإذا ما ظلم واضطهد فعليه أن يصمت، وإذا ما باع من دكانه للزبائن ونصبوا عليه، فعليه أيضا أن يصمت. وهكذا لا يمارس الفلسطيني حياته الطبيعية، لأنه مهاجر ولاجئ، وغريب عن سكان المكان الذي لجأ إليه. ولنقرأ الفقرات التالية من القصة:

"حين تخرج ابنه من المدرسة مثلا، فما لَمَّه عمل واحد أكثر من أسبوعين "القانون صريح... ومحظور العمل في المصالح والشركات على غير أبناء البلد، فما وجد الشاب بُداً من أن يطير إلى صحراء من هذه الصحاري التي تجمع الناس أخوة على شقاء، وتتسامح في أشقائهم ولو اختلفت الجنسيات".
"إنه في الحي الذي يعيش فيه، والذي افتتح فيه دكانا تعامل معها الحي أكثر من عشر سنوات نقداً أو دينا أو (نصبا)، لم يستطع أن يفرض لنفسه اسماً..".

الأسلوب واللغة:

يبدو في القصة غير ضمير للسرد. السارد كلي المعرفة يقص عن بطله، وهكذا نقرأ قصا عبر الضمير الثالث، وبهذا تبدأ القصة: "قال متردداً والكلمات تجرح حلقه المتيبس". ولا يقتصر هذا الأسلوب على فاتحة القصة. إنه يبرز في مواطن عديدة منها، وتنتهي القصة، كما لاحظنا، به: "وأحس الفلسطيني....".

وتترك سميرة عزام، عبر ساردها، المجال لشخوصها لكي ينطقوا، وهكذا نقرأ عبارات يتفوه بها الفلسطيني واللبناني والمرأة اللبنانية.
ولكن اللافت في هذه القصة هو بروز أسلوب المخاطب- بكسر العين- والمخاطب- بفتحها. ولا يبرز في موطن واحد، إذ نقرأه في مواطن عديدة، وغالبا ما نتساءل: من هو المخاطِب، ومن هو المخاطَب؟ وإذا كنا نستطيع تحديد الثاني- أي المخاطب بسهولة، وهو الفلسطيني، فإننا بصعوبة يمكن أن نُحَدد المخاطب. أهو سارد القصة يخاطب بطلها، أم أنه بطلها يخاطب نفسه، ومما يزيد الأمر صعوبة أن المستوى اللغوي في القصة كلها واحد، وهو العربية الفصيحة التي لا تتخللها سوى مفردة عامية واحدة تنطق بها المرأة اللبنانية، وهي مفردة: وينك- أي أين أنت؟ أو يا أنت.
ولو كانت سميرة عزام أنطقت شخوصها بلهجتهم، لربما استطعنا تحديد من هو المخاطب. أما وأنها لم تفعل، وكانت لغة قصتها، من ألفها إلى يائها، العربية الفصيحة، بغض النظر عن المستوى التعليمي لهذه الشخصية أو تلك، فإننا لا نستطيع تحديد هوية المخاطب، حين يُخاطب الفلسطيني. ولربما لا تقدم معرفة هويته ولا تؤخر ما دام سارد القصة كلي المعرفة، يدخل إلى أعماق شخصية أبطال القصة- وهم قلة-.

وحدة الانطباع:

من أبرز خصائص القصة القصيرة خصيصة وحدة الانطباع، كما ذهب (أدجار ألن بو)، فهل تحققت هذه في قصة سميرة عزام؟
ما يظل عالقا في الذاكرة، بعد قراءة القصة، يتمثل في أن الفلسطيني، بعد النكبة، في لبنان، عاش بلا ملامح فردية، فلم تكن له ملامح خاصة. إنه اللاجئ الغريب، وسيظل كذلك حتى على الرغم من حصوله على الهوية اللبنانية. وأصبحت كلمة فلسطيني سبة وشتيمة، مثل كلمة أرمني للأرمن، ويهودي لليهودي في المنفى، وتحديدا في أوروبا العصور الوسطى وما بعدها حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. كانت مفردة يهودي أيضا شتيمة، وإذا ما أردت أن تشتم شخصا غير يهودي ألصقت به هذه المفردة. طبعا لم يعد الحال بعد الحرب العالمية الثانية كذلك.

كلمة أخيرة:

لئن كنت في هذه المقالة ركزت على قصة واحدة لسميرة عزام صورت واقع الفلسطيني في المنفى، فإنني أحب أن أوضح أنها لم تقصر قصصها على موضوع واحد هو الموضوع الفلسطيني. لقد كان موضوع المرأة ومعاناتها أيضا من الموضوعات التي أبرزتها القاصة، فصورتها مناضلة وأما وربة بيت، وهو ما بدأ في "خبز الفداء" و"دموع للبيع" و"الثمن". وربما يربط المرء بين الأخيرة وقصة فلسطيني، رغم اختلاف الموضوع.
للحصول على الهوية اللبنانية ثمن لا بد من دفعه، ولكي تصمت المرأة وترضى ببقائها في البيت ثمن أيضا يدفعه الرجل: الرشوة. رشوة المرأة، ولكنها تعبر عن امتعاضها.


مشاركة منتدى

  • السلام عليكم انا اقوم ببحث عن القصة القصيرة جدا، وقد وجدت في هذا المقال ما يفيد بحثي، فارجو منكم ان توضّحوا لي المرجع للمقال، هل نشر في مجلة ما ام هو موجود فقط على النت. ارجو التوضيح لاسجل المصدر. ارجو الرد باسرع وقت ممكن. وبارك الله بكم

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى