الأربعاء ٢٧ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢٤
بقلم عارف محمد نجدت شهيد

قراءة في كتاب الكبت لفرويد

"إن كل الانفعالات النفسية والأمراض العصبية وسر نجاح الإنسان في الحياة أو سقوطه مرده الجنس" ص6.

يستهل فرويد بالاقتباس السابق الفصل الأول من كتاب الكبت، وينطلق منه لوصف آثار الكبت على النفس البشرية، فالنفس البشرية المكبوتة كما يراها فرويد كإناء مملوء بالماء ومحكم الإغلاق والنار موقدة تحته، وإذا لم يجد الغليان مخرجاً من هذا الإناء، فسيحدث انفجار كبير!

ولأن المجتمع والدين والتقاليد تفرض قيوداً كثيرة على المرأة مقارنة بالرجل، فهي أكثر عرضة للكبت وهو ما يبعث في داخلها انفعالات قوية تودي بها إلى الأمراض العصبية! تخبرنا قصص التحليل النفسي أن معظم الأمراض العصبية مردها الجنس، ولذلك، إذا رفعنا الستار عن أسباب التوتر سنرى ميولاً جنسية مكبوتة! وإذا رفعنا الستار أيضاً عن الخلافات الزوجية سنرى ما أثبتته الدراسات؛ أن ثلثي الخلافات الزوجية تعود إلى عدم الانسجام الجنسي بين الشريكين!

يعتقد الكثيرون أن التكوين الجسدي هو المسؤول عن الميول الجنسية فالمرأة ذات الأنوثة الصارخة -على سبيل المثال- لا يمكن أن تكون امرأة شاذة وهو اعتقاد خاطئ وفق نظرية فرويد، فالجهاز الجنسي لا يتأثر بالغدد والعصارات، ولكنه يخضع بشكل مباشر لسلطان النفس! ولذلك، فإن الميول الجنسية لا تتبع التكوين الجسدي وإنما التكوين النفسي، وهو ما يفسر شذوذ امرأة صارخة الأنوثة، واعتدال الميول الجنسية لامرأة أقل أنوثة.

إذاً، فالأمراض النفسية جذرها كبت الميول الجنسية -سواء كانت سوية أو منحرفة- والتي تتبع تكويننا النفسي، والسؤال الآن، كيف تتشكل الميول الجنسية المنحرفة؟

يجيب فرويد عن السؤال السابق باقتباس في بداية الفصل الثاني من الكتاب لا يقل إثارة عن الاقتباس السابق فيقول: "إن كل العقد النفسية – أو بمعنى آخر كل الانحرافات الجنسية التي تظهر في حياة الإنسان مردها الطفولة" ص13، فشخصية الطفل عجينة لينة كما يراها فرويد، أو كشجرة تنشأ في أحضان الطبيعة فإما أن تنمو مستقيمة العود في الظروف الصحية وإما أن تنمو معوجة العود، ومرد ذلك كله إلى علاقة الطفل بأبويه!

ويستخدم فرويد مثالاً لطفل نشأ في كنف أب قاسٍ يعامل أمه بعنف، وهو ما قد يحمل الطفل على تقليد أبيه والتعامل بقسوة (ميول سادية)، أو يأنف من تصرفات أبيه فيميل إلى الخنوع (ميول مازوخية)، وقد يتقلب بين الحالتين، ولذلك، فإن بذور الميول السادية والمازوخية تُغرس في سنوات الطفولة ثم تنمو وتظهر عند البلوغ.

والطفل كالإنسان البدائي، يبالغ في الحب والكراهية، ويطالب الجميع بالحب وخاصة أمه، فإذا وجد منها نفوراً واعتقد أنها توقفت عن حبه أصابته هزة نفسية عظيمة! ويبقى حب الأم مع الطفل حتى بعد سن البلوغ، فيحاول البحث -بطريقة لا واعية- عن زوجة تشبه أمه، فما حب الرجل لزوجته إلا صورة من حبه لأمه!

إذاً، تنثر تجارب الطفولة بذور الصراعات النفسية في نفس الطفل، والتي تنمو معه بتقدم العمر، ويبقى المرء تحت وطأتها طيلة حياته، وعندما يعجز عن حسم تلك الصراعات، يلجأ المرء إلى آليات دفاعية ولعل أشهرها النكوص أو ما يعرف بالارتداد إلى عهد الطفولة؛ وتعني الارتداد إلى مرحلة مبكرة من مراحل الحياة للهروب من الصراعات الحالية. ويروي فرويد في هذا السياق قصة امرأة أربعينية متزوجة تجمع الدمى والعرائس وتلاعبها لساعات طويلة لتغرق معها في أحضان الماضي وتنسلخ عن ذاتها وصراعاتها النفسية لتشعر بأنها طفلة صغيرة لا تعرف إلا السعادة!

ينتقل فرويد إلى الحديث عن الميول الجنسية عند الأطفال ويؤكد وجودها كأي غريزة أخرى ولكنها ليست كاملة لأن الجهاز الجنسي للطفل لم ينضج بعد، ولكل غريزة شكل مختلف في مختلف المراحل العمرية للإنسان، فالخوف مثلاً موجود عند الطفل والرجل البالغ ويكمن الاختلاف في مظهره، فالطفل يخاف من الظلام والأشباح، أما الرجل فيخاف من اللصوص ومن فقدان وظيفته! وكذلك الغريزة الجنسية، إذ أن شكلها عند الطفل يختلف عن شكلها عند البالغين!

يتركز الإحساس الجنسي عند الطفل في فمه، فجهازه الجنسي كما ذكرنا لم يكتمل بعد، فيشعر الطفل بلذة في عملية الرضاعة، وإذا سحبت أمه ثديها من فمه سارع إلى وضع أصبعه في فمه وقد تستمر عادة مص الأصبع مع الطفل حتى بعد الفطام. وعندما يكبر الطفل، تنتقل اللذة من فمه إلى ظهره والمناطق المحيطة بالفخذين. ويبقى الطفل متعلقاً بأمه يغار عليها من الجميع حتى يبلغ ويستقر إحساسه العاطفي ويبحث عن شريكة حياته، وإذا لم ينجح فطامه النفسي عن أمه فقد يعزف عن الزواج ويختلق الأعذار وذلك لتعلقه الشديد بالماضي وحنينه لأمه ورغبته في استمرار الشعور بأنه طفل، وقد يجد امرأة تشبه أمه كثيراً بالشكل أو الصفات وقد تكون أكبر منه سناً فيكون الزواج منها مخرجاً من هذا المأزق إذ يستعيض بها عن أمه!

يروي فرويد في هذا السياق قصة رجل متعلق بعهد الطفولة تزوج من امرأة تكبره بأربعة أعوام، وكان يضربها كثيراً ويتهمها بالخيانة، وأظهر التحليل النفسي أن هذا الرجل نشأ في كنف أم قوية وأب ضعيف الشخصية، وقد انجذب إلى هذه المرأة وتزوجها لأن اسمها على اسم أمه، إلا أنها لم تكن قوية كأمه وهو ما حمله على الانتقام منها وضربها بشكل متكرر، وما إن يطلقها حتى يشعر بالندم على ما اقترفه فيسترجعها ثم يعيد فعلته مرة أخرى، وليست هذه الأفعال المتناقضة إلا تجسيداً للصراع الداخلي الناجم عن رغبات متعارضة؛ الحنين إلى الماضي من جهة، والرغبة في الانتقام من جهة أخرى.

وانطلاقاً من هذا التناقض، يخبرنا فرويد عن نشأة القلق فهو نتيجة تصادم رغبتين متعارضتين تحاول كل واحدة منهما أن تملي إرادتها وتزيح الأخرى. فمثلاً، إذا أهانك أحدهم، فقد تختار أن تنهال عليه ضرباً أو تؤثر الصمت، وإذا لم تحسم الأمر ستتصادم هاتين الرغبتين في داخلك؛ الرغبة في الانتقام والرغبة في الاستسلام، وينشأ القلق!

وسبب القلق في كل الحالات النفسية وفق نظرية فرويد هو الكبت الجنسي الناجم عن رغبتين متناقضتين؛ الأولى نفس المرء الأمارة بالسوء وميلها الجارف إلى إشباع الرغبة الجنسية، والثانية ضميره الحي الذي يبذل مجهوداً كبيراً في كبت هذا الميل، فما القلق إلا رغبة جنسية تعيش بين ضلوع المريض الحائر! وغالباً ما يقع مرضى الكبت في الإدمان وتنتهي قصصهم بالانتحار، فالموت أقدر على حسم هذه النزاعات!

لاحظ فرويد أن معظم حالات القلق التي تعامل معها كانت نتيجة التعلق الشديد بأحد أفراد العائلة، ويقول في هذا السياق: "لقد تحطمت كثيراً من الزيجات على صخرة التعلق بأحد أفراد العائلة" ص41، فالفتاة شديدة التعلق بعائلتها ستشعر بفراغ كبير بعد الزواج ويزداد إحساس الكراهية تجاه زوجها الذي يحول بينها وبين "معبدها الأول"؛ أي منزل العائلة. وقد لجأ فرويد إلى التنويم المغناطيسي لاكتشاف جذور التعلق ومحاولة تحرير المرضى منها إلا أن جهوده في معظم الحالات باءت بالفشل!

لا يخفى على أحد قدرات التنويم المغناطيسي في اكتشاف خبايا النفس البشرية واضطراباتها وأسبابها، ومع ذلك، يمكن اكتشاف أسرار النفس الدفينة بدقة الملاحظة دون اللجوء إلى التنويم المغناطيسي. إن الذين يكتمون أسراراً دفينة ويخشون انكشافها يميلون إلى المبالغة في كتمانها وهو ما يفضح أمرهم.

جاءت إلى فرويد فتاة تشكو برودها الجنسي مع زوجها، وقد حاول اكتشاف أسباب هذا البرود فلم تخبره شيئاً واكتفت بدموع صامتة. اكتشف فرويد من مبالغة الفتاة في الحفاظ على سرها أنها تعاني من شذوذ مقنّع، ولو أفصحت عن الأمر وعالجته ستفقد بذلك حب الفتاة الأخرى!

ويضيف فرويد: "وفي كل الحالات التي تضطرب فيها النفس يكون سبب الاضطراب سر دفين، وأن هذا السر إما معروف إلى المريض أو أنه غائب عنه في أغواره فلا يعرف كنهه. وأن العلاج لا يتم حتى يمكن لنا إزاحة الحجر الثقيل الجاثم على صدر المريض" ص54. لعل الاقتباس الأخير قد أثار في عقلك تساؤلاً عن السر الذي يغيب عن ذهن صاحبه، فكيف ذلك؟

تخيل طفلاً ينظر إلى جمرة حمراء قد سحره لونها ثم وضعها في فمه فاحترق لسانه، فماذا سيحدث؟ ستتولد في نفسه عقدة ضد كل لون أحمر، وستستمر معه طيلة حياته حتى لو نسي تلك الحادثة فإن آثارها لن تمحى بسهولة!
تنشأ العقد من الصدمات العاطفية، ولكل عقل قدرة محددة على تحمل الصدمات، فإذا تلقى صدمة تفوق قدرته على التحمل تحطمت تلك القدرة ونشأت العقدة النفسية! ولا تبقى ذكريات الصدمة في ذاكرة المريض إذ تحملها رياح الزمن وينساها المريض فلا يبقى منها إلا آثارها كالصخرة الجاثمة على صدر المريض، يئن منها ولا يذكر كيف وُضعت هذه الصخرة على صدره!

وإليك قصة مريض جاء إلى فرويد يعمل صرافاً ويعاني من الوسواس القهري إذ كان يعد النقود مرات كثيرة قبل استلامها أو تسليمها، اكتشف فرويد ميلاً جنسياً مكبوتاً لدى الرجل، إذ كان على علاقة مع امرأة متزوجة وكان يتردد عليها سراً، وقد اكتشفت زوجته هذه العلاقة فأخبرت زوج العشيقة لتصبح حياته جحيماً، فكان يذهب إلى منزلها ثم يقف حائراً خائفاً ليعود أدراجه، واستمر على هذا الحال حتى انعكست هذه الحالة النفسية على عمله فظهرت في عد النقود!

يخبرنا فرويد عن حقيقة مثيرة حول العلاقات مع شركاء من الطبقات الدنيا في المجتمع، فيقول بأن أصلها عقدة نفسية نبتت في عهد الطفولة، فالطفل الذي ينشأ في أحضان الخادمات ستتوق نفسه إليهن -أو من على شاكلتهن- في سن البلوغ.

جاء إلى فرويد مريض يشكو الوحدة، وأخبره بأنه عاش طفولته مع الخادمات ولم تهتم به والدته في الطفولة، وأصبح يرتاد الحانات ويلفي نفسه في أحضان فتياتها، ثم قرر أن يبدأ حياة جديدة بعيداً عن تلك الملذات فتزوج من امرأة طيبة وأخلص لها ولكن إخلاصه لم يدم طويلاً إذ وقع في غرام الخادمة التي جاءت للعمل في منزله، وعندما اكتشفت زوجته هذه العلاقة طلبت الطلاق فما كان منه إلا أن يتوسل إليها فغفرت له، ثم وقع في غرام الخادمة الجديدة. وما إقباله على فتيات الليل والخادمات إلا ارتداداً إلى عهد الطفولة، أما زوجته فلا يحبها ولكن وجودها في حياته ضرورة اجتماعية!

ولا يختلف حال النساء عن حال الرجال في هذا النوع من العلاقات، ويروي لنا فرويد في هذا السياق قصة امرأة صارخة الجمال جاءت إليه، عاشت هذه المرأة في بيت العز بين أحضان الخادمات ثم كبرت وتزوجت وبدأت علاقاتها المحرمة مع السائق والسفرجي، واكتشف زوجها هذه العلاقات الآثمة وطلقها فأصبحت ترتاد الأزقة ليلاً وألقت أنفسها بين أحضان الشبان فيها.

وهناك نوع آخر من النساء لا يدركن معنى الحياة إلا إذا شعرن بالخوف وهو ما يجعل شخصية العشيق أكثر إثارة لهن من شخصية الزوج، فالاتصال بالعشيق يتيح لهن إشباع طابع التلصص والخوف والإحساس بأنهن استثنائيات. كما تميل بعض النساء إلى الغدر بأزواجهن لاختبار ذكائهن، خاصة إذا اتهمن من أزواجهن بالغباء! يقول فرويد: "إن الذين لا يقيمون وزناً لعواطف نسائهم أشبه بمن يلعب بالنار بينما يحمل فوق رأسه صفيحة من البنزين" ص65.

تنشأ الانفعالات كردّات فعل على ما يخالج النفس من مشاعر، وعادة ما تفضح صاحبها الذي يبالغ في إظهار نقضيها ليخفي حقيقة مشاعره، فمثلاً، إذا التقيت بعدوك ستبالغ في إكرامه حتى تخفي بغضك له، وإذا أحببت امرأة ولم تبادلك الحب ستظهر كرهاً لها، وما هذا الكره إلا غطاء لحبك الحقيقي لها!

وبالمثل، فإن القسوة هي ردة فعل يخفي المرء بها ما يخالجه من شعور، والقسوة قد تكون مظهراً من مظاهر الطفولة التي ارتدت على كبر، فإذا تعرض الطفل للقسوة بشكل متكرر من شخص يحبه سيرتبط الحب لديه بالقسوة، ولذلك فإن القسوة تعد من أعلى مراتب الحب وقد تصل بصاحبها إلى إيذاء المحبوب أو قتله كما كان يصنع الكونت دي ساد الذي كان لا يشعر بالنشوة الجنسية حتى يقتل شريكته!

وقد تكون القسوة الجنسية غطاءً لما يصفه فرويد بالشذوذ المقنع، فالقسوة في هذه الحالة آلية دفاع نفسية تُعرف بـالتعويض (compensation)، يُظهر فيها الفرد سلوكاً مفرطاً في القوة أو السيطرة لإخفاء إحساسه الداخلي بالضعف أو الرغبات التي قد يعتبرها "غير مقبولة".

أما الانفعال الآخر الذي سلط عليه فرويد شعاع التحليل النفسي فهو الهوس الجنسي المرتفع جداً كالمرأة التي ترمي نفسها في أحضان الرجال كل ليلة أو الرجل الذي يرتمي كل ليلة في أحضان النساء، قد يبدو الأمر طبيعياً ولكن هؤلاء الأشخاص يعانون من كبت جنسي شديد. وإذا دخلنا إلى العقل الباطن لزير النساء، سنجد صورة خيالية لامرأة تعيش على سطح القمر، يحاول زير النساء يائساً الوصول إليها فيعجز عنها وهو ما يدفعه إلى رمي نفسه في أحضان النساء لعله يجد ضالته، ويقول فرويد: "لو جاز لك أن تقع في حب امرأة ثم لا تبادلك حباً بحب أو أنها ضت عليك فإن شغفك سيزداد لها، وبقدر حرمانك منها يزداد تعلقك بها، فإذا وجدت أن مرت بك في حياتك امرأة تشبهها في الوجه فستحب هذه الجديدة لأنه يبعق إليك بذكريات المحبوبة الأصلية، فإذا مرت بك امرأة ثالثة تشبهها في تكوين الجسم فستحبها أيضاً لأن فيها شبه بالأولى أيضاً، وإذا مرت بك رابعة تشبه الأولى في الحديث والفكر فستغرم بها ...، وهكذا كلما مرت بك امرأة بها ولو قليل من أوجه الشبه بصديقتك الأولى تنال منك القبول. في الواقع أنك لم تحب هاتيك النسوة وإنما أنت تحب امرأة واحدة هي الأولى التي خلبتك اللب، وما هاتيك النسوة مجتمعات إلا عبارة عن امرأة واحدة بمثابة بديل لحبيبتك الأصلية" ص83.

ينطلق فرويد من الاقتباس السابق لتفسير ميول بعض الرجال للزواج من نساء أكبر منهم سناً، وهو التعلق الشديد بالأم، فالمرأة الأكبر منهم سناً تشبه الأم وفي الارتباط بها تعويض عن الأم!

تتسامى النفس البشرية عندما تتعرض لصدمة عاطفية نحو الفنون كالشعر والموسيقى والرسم، وإذا تتبعت حياة الكتاب والروائيين والفنانين ستجد فيها صدمة عاطفية رفعت النفس إلى هذا المقام، وإذا كشفت الستار عن حياتهم ستجد شرخاً كبيراً في أعماقهم.

لنتحدث باستفاضة عن أصل كل الانحرافات الجنسية؛ الكبت، وإليك هذا المثال، افترض أن شاباً بلغ السن وحاول التقرب من النساء، سيقال له بأن النساء العلاقات الجنسية تجلب الأمراض وتضيع الوقت والمال، فماذا يصنع هذا الشاب؟ سيلجأ إلى العادة السرية، ثم يقال له بأنها عادة آثمة وتضعف الجسم، فيدفعه هذا الكبت إلى الشذوذ ثم يقال له بأن الشذوذ مرض اجتماعي خطير ولا عجب إن أصيب حينها بانهيار نفسي!

يحدثنا فرويد في هذا السياق عن قصة مريض كان ينتابه قلق شديد إذا تواصل مع النساء ولا يشعر بذلك حين يتواصل مع الرجال، وقد أظهر التحليل النفسي تفسيراً لحالته، إذ حذرته أمه كثيراً من ضرر الاقتراب من النساء وبذلك سلطت إيحاءً قوياً على ذهنه جعلته يشعر بالقلق البالغ كلما تعرف بامرأة! والخوف الشديد من النساء ليس إلا رغبة جامحة لوصالهن، فالعديد من المشاعر التي تكون في اللاشعور تعبر عن نقضيها! تكمن المشكلة في مثل هذه الحالات في تلقين النصائح والتحذيرات وهو الذي ينثر ألغام الكبت في نفس المريض لتنفجر لاحقاً بشذوذه أو بالاندفاع نحو أي امرأة ليثبت لنفسه أنه رجل!

يذكر فرويد قصة أخرى لرجل محافظ كان يثور إذا رأى امرأة متبرجة وفي أحد الأيام التقى بامرأة له بها معرفة بسيطة وكانت متبرجة فصفعها على وجهها فاستغاثت، وما إن اجتمع الناس حتى ارتمى على الأرض في إغماءة طويلة ولما أفاق واستجوبوه أنكر كل ما فعله! ولم يفعل الرجل فعلته هذه انتصاراً للعادات والتقاليد ولكنها نتيجة الحرمان الشديد الذي عاشه والذي خلق في أعماقه شذوذاً مقنعاً وهو ما يفسر كرهه المقيم للنساء! أما الإغماءة فليست إلا خدعة نفسية للتخلص من المأزق الذي تورط به. ويضيف فرويد: "وفي حالات الإغماءات أو الصرع النفسي، كثيراً ما يكون الدافع له شذوذ جنسي" ص94.

وليس الشذوذ هو المظهر الوحيد للانحرافات الجنسية فهناك مظاهر أخرى كالغيرة، ولا يقصد فرويد الغيرة كمظهر الحب وإنما الغيرة التي تزيد عن ذلك إلى حد المرض، وهي مظهر من مظاهر الشذوذ الجنسي العنيف، وإليك قصة هذه المريضة؛ امرأة صارخة الجمال متزوجة من طبيب محترم، تحبه حباً عظيماً وهي شديدة الغيرة عليه من مريضاته، يخبرنا التحليل النفسي أن هذه المرأة لديها شذوذاً جنسياً مقنعاً فهي لا تغار على زوجها من مريضاته وإنما تغار على المريضات منه، وعندما تعجز عن تلبية أو كبت هذه النزعة الجنسية تجاه المريضات فتشهر سلاح الغيرة على زوجها لتعذبه فهي في أعماقها تكرهه لأنه يحول بينها وبين إشباع نهمها الحائر نحو النساء. وفي حالة أخرى لامرأة فائقة الجمال، كانت شديدة الغيرة على زوجها وفي الوقت ذاته، كانت لا تقيم وزناً لحياتها الزوجية، فما إن يخرج زوجها من المنزل حتى تتصل بصديقها ليزورها في المنزل. وقد أظهر التحليل النفسي أنها في أعماقها تكره زوجها وما الغيرة إلا وسيلة للتعبير عن الكراهية والغضب تجاهه وهي في الوقت ذاته ستاراً لخيانتها، وتزخر قصص التحليل النفسي بالعديد من حالات الغيرة التي تخفي ورائها انحرافات جنسية عديدة. ويقول فرويد في هذا السياق: "وليست الغيرة بالمعنى الصحيح عربون الحب وإنما هي رمز الأنانية الشديدة كما أنها رمز البدائية الأولى ولعل الغيرة أقوى الأسلحة التي يمكن للإنسان -تحت ستارها- أن يشبع ميوله الشاذة" ص103.

وإذا كان إطلاق الغيرة من مكامنها يغطي انحرافات المرء جنسية، فإن كبت الغيرة يظهر صراعاته النفسية وانفعالاته، وعادة ما تظهر هذه الانفعالات في بيئة العمل! وإليك قصة هذا الرجل الذي يكتم غيرته على زوجته وتصيبه نوبات تشنج في فترات العمل، وقد أزاح التحليل النفسي عن أسباب هذه النوبات، فهو متزوج من امرأة صارخة الجمال ويحبها حباً شديداً، ولأن مرتبه الشهري ضئيل ولا يكفي متطلباتها الكثيرة فهو شبه متيقن من حقيقة خيانتها له مع رجل آخر، ولأنه لا يقدر على مواجهتها تظهر هذه النوبات في مكان عمله وهي ليست إلا احتجاجاً نفسياً على رؤسائه في العمل لزيادة مرتبه!
إن هذه الأعراض الجسدية ليست ناجمة عن خلل عضوي وإنما نفسي، على سبيل المثال، جاء إلى فرويد شاب مصاب من شلل في يديه ولا يوجد خلل عضوي أو حادثة أدت إلى ذلك، وقد كشف التحليل النفسي عن شعوره العميق بالذنب لممارسته العادة السرية بكثرة ولم يستطع الامتناع عنها فكان هذا الشلل النفسي وسيلة لحل هذه الصراع، وهو يشبه الشلل النفسي الذي يصيب الجنود في ميادين القتال كي تتاح لهم فرصة الإعفاء من القتال!

ولعل أعنف انفعال نفسي يخالج المرء هو قرار الانتحار ومرده الفشل في الحب، فالذي يعجز عن الحصول على فتاته يقدم على الانتحار ليحملها مسؤولية وفاته فلو أنها استجابت له لما قتل نفسه.

وفي الحديث عن الانحرافات الجنسية فلا يمكننا إغفال البرود الجنسي في المرأة والضعف الجنسي عند الرجل، فكلاهما نتيجة الكبت والحرمان الشديدين! يروي فرويد قصة امرأة تحب زوجها حباً شديداً ولكنها لا تشعر برغبة جنسية تجاهه، وبالبحث في ماضيها وجد فرويد أن زوجها قد عيرها بقبح ساقها في ليلة الدخلة وهو ما جرح كبريائها وكبت رغبتها الجنسية تجاهه فظهر البرود الجنسي عقاباً له على سوء أدبه! والبرود الجنسي عند المرأة يظهر لأسباب كثيرة تعد ولا تحصى، فقد تكره المرأة زوجها، وقد يكون لديها شذوذ جنسي، وقد يكون السبب إدمان العادة السرية أو وجود ميول سادية.

ولا يختلف حال الضعف الجنسي لدى الرجال عن البرود الجنسي لدى المرأة، إذ أن مرد الحالتين هو الكبت! فلو افترضنا أن رجلاً يميل إلى أن تعامله المرأة بقسوة وتزوج امرأة ضعيفة فإنه يكبت ميله الجنسي ويعيش حرماناً عاطفياً يودي به إلى الضعف الجنسي! يضيف فرويد في هذا السياق: "إن الانحرافات الجنسية عديدة وكثيرة في مظهرها، وأنت مهما حاولت أن تخفيها فلن تقدر على ذلك، والتفسير الصحيح لها أنها منفذ للرغبات المكبوتة التي تحاول الخروج من القاع إلى السطح" ص123.

يبدأ النمو الجنسي عند الطفل بحب الذات، ثم ينتقل إلى مرحلة حب الجنس نفسه، ويكتمل ببلوغ المرحلة الثالثة وهي حب الجنس الآخر. ولكل مرحلة من هذه المراحل أنواع خاصة من الشذوذ الجنسي تظهر إذا تعرض الطفل فيها إلى الكبت، ويقصد فرويد بالشذوذ كل محاولة للوصول إلى تلبية الغريزة الجنسية بغير الطريقة المعروفة التي تؤدي إلى النسل.
تمتد المرحلة الأولى حتى سن السابعة، ويظهر فيها "حب الرؤية" أي رؤية الآخرين وهم عراة أو خلال علاقة حميمة، وينشأ هذا النوع نتيجة قمع الآباء المستمر لأطفالهم وتحذيرهم من مشاهدة أو لمس أعضائهم، كما ينشأ عن الكبت في هذه المرحلة أيضاً "عقدة الإخصاء" عند الذكور وهو الخوف من فقدان أعضائهم إذ يميل بعض الآباء إلى تخويف أبنائهم من فقدان أعضائهم إذا لمسوها أو استعرضوها! تؤدي عقدة الإخصاء عادة إلى شذوذ آخر وهو "حب العرض" أي كشف العورة للآخرين.

وفي سياق الضعف الجنسي، يتطرق فرويد إلى الحديث عن السادية والمازوخية، ففي هذه العلاقات لا يوجد دور للأعضاء الجنسية، لأن العلاقة الجنسية استبدلت بالقسوة والتعذيب، ولا يشعر المريض بالرضا من السرور الذي يشعر به أو الألم، ولكن بالإحساس الداخلي الناجم عنهما، ولا يلجأ الساديون إلى القسوة تعطشاً لها وحباً بها، ولكنهم يتوقعون أنها تسبب السعادة لشركائهم وترضيهم جنسياً. يستشهد فرويد بنظرية العالم هانلوك أليس التي تقول بأن الساديين والمازوخيين هم غالباً ضعاف من الوجهة التناسلية ولا بد من منشط قوي يثير إحساسهم الجنسي، ومن أمثلة هذه المنشطات السرور والحزن.

ولفهم شدة هذه الميول السادية أوالمازوخية، يجب أولاً معرفة أن لكل إنسان طاقة حيوية تندفع من النفس في طريقين لا ثالث لهما؛ الأول حب السيطرة على كل ما يحيط به، والثاني تلبية الغريزة الجنسية، ولأن الكبت يسد الطريق الثاني، تتوجه الطاقة بأكملها في الطريق الأول؛ حب السيطرة، وهذا ما يفسر ظهور السادية أو المازوخية في حالة الكبت، وما المازوخية إلا سادية موجهة نحو الذات للسيطرة عليها! ولذلك، على المرء أن يوجه جزءاً بسيطاً من طاقته نحو الجنس وأن يصرف ما تبقى منها في تحسين مركزه الاجتماعي وأن يسمو بها كما فعل العديد من العظماء عبر التاريخ.

أما ميل المريض لجنسه فهو من أكثر أنواع الشذوذ الجنسي شيوعاً، وتبلغ نسبة المصابين به حوالي 3% من سكان العالم، وقد ازدادت هذه النسبة كثيراً في الحربين العالميتين الأولى والثانية. ومع ذلك فهو ليس شذوذ جديد أو موجود بين البشر فقط، إذ لوحظ انتشاره بين بعض الحيوانات كالخنازير والقردة، كما أن التاريخ يخبرنا عن انتشاره بين الفلاسفة القدماء كأرسطو وأفلاطون، ويقول الأخير مفاخراً: "من الظلم أن تتهم عشاق الجنس بعدم التواضع فهم لم يلجؤوا إلى هذا الطريق لقلة تواضعهم بل لأنهم أقوياء الروح والرجولة فهم يبحثون عن شركاء من نفس جنسهم لأنهم يقدرون جنسهم هذا" ص147.

ويعتقد فرويد أن منشأ الشذوذ يرجع إلى نقص في التربية الجنسية أثناء مرور الطفل في المرحلة الجنسية الثانية فيقول: "في جميع الأحوال، لاحظنا أن الشواذ في فترة من حياتهم ركزوا كل اهتمامهم في امرأة هي غالباً أمهم، فلما انقضت هذه الفترة ولم يجدوا أحداً يهتمون به أو من يمكن أن يحل محلها اهتموا بأنفسهم وبأمثالهم" ص148.

وقد يظهر الشذوذ في المرحلة الثالثة من النمو الجنسي؛ حب الجنس الآخر، إذ يميل فيها الطفل إلى الجنس الآخر فيظهر فيها حب الابن لأمه والابنة لأبيها، وهو ما يدفع الشاب إلى البحث عن فتاة تشبه أمه ويدفع الفتاة إلى البحث عن رجل يشبه أبيها، وإذا حدث خلل في هذه المرحلة فقد يتعلق الطفل بأبيه والطفلة بأمها ثم يتحول ميلهما إلى جنسهم.
أما آخر أنواع الشذوذ فهو عشق الذات أو ما يعرف بالنرجسية "نارسيزم"، وتعني تعلق المرء بنفسه، وسميت بهذا الاسم نسبة إلى "نارسيس" أحد أبطال الإغريق الخياليين الذي أولع حباً بنفسه حين رأى انعكاس صورته على مياه نهر كان يستحم فيه.

تظهر النرجسية عند الأشخاص الحساسين وخاصة النساء، كما تشيع بين الذين فاضت عليهم الدنيا بكرمها وأقبلت عليهم كالمشاهير إذ يغريهم إعجاب الآخرين بنجاحهم! وقد تتطور النرجسية لتصبح نوعاً من حب الرؤية فيميل المريض إلى مشاهدة نفسه على المرآة أثناء العلاقة الحميمة.

كما تعود جذور النرجسية إلى المرحلة الأولى في النمو الجنسي؛ حب الذات، فإذا لم يجد الطفل من يهتم به ويعطف عليه انصرف اهتمامه إلى نفسه، وفي حالة أخرى، إذا بالغ الأبوين في الاهتمام بالطفل فيرسخون حبه المبالغ لذاته.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى