قص ولزق يسأل: العيب في البلد ولاّ فينا؟
في فيلم قليل التكلفة الانتاجية، راقي في أبجدياته الفنية:
فيلم يحتفي بتفاصيل الحياة اليومية للطبقة المتوسطة في القاهرة اليوم
ويعيد الاعتبار لقيمة بناء وتطوير الشخصية في السيناريو من خلال شباب يواجه الخوف من اهتراء الواقع بالاتكاء على الحب وصلابة العلاقات الانسانية
ويطرح قضايا الشباب في الحب والعمل والظلم الاجتماعي
بعيداً عن البطل الأسطوري الذي يغير العالم في الأفلام القديمة، وبعيداً عن البطل المثير للسخرية في الأفلام الكوميدية الحالية، يقدم لنا "قص ولزق" أبطالاً حقيقيين، بشر من لحم ودم، بهم مزايا وعيوب، لديهم طموحات ومخاوف، معجونين في مدينة صار الزيف والنصب هما الهواء الذي يتنفسه قاطنوها، ومضطرين للمشاركة في هذا النصب بالحد الأدنى الذي يتطلبه استمرارهم في هذا الواقع، لكنهم ليسوا نصابين محترفين كأولئك الذين يحققون ثراء فاحشاً في وقت قياسي، أولئك لم يقدمهم الفيلم، بل اكتفى بعرض ناطحات السحاب وبذخ الفنادق ليعبر برهافة عن وحشية التفاوت الطبقي في مصر اليوم.
"جميلة" بطلة هذا الفيلم "الفنانة حنان ترك" : توفي والدها وهي طفلة واضطرت أمها "سوسن بدر" للعمل طوال اليوم، لدرجة أنهما لم يتناولا الغداء أبداً معاً، لأن عمل الأم أهم كي يكون لديهما غداء أصلاً، تكبر جميلة وتصبح شابة عملية، تحسب كل خطوة تخطوها، لا وقت لديها للحب، تمتلك حس المبادرة، وتخوض صراعات صغيرة وتكسبها، وقد تخسر بعضها، لكنها تعبر جرحها وتنتظر النصر في المرة المقبلة. تسعى جميلة "دون علم أمها" للهجرة إلى نيوزيلنده يأساً من أوضاع البلد، تظهر أزمتها عندما تبلغ الثلاثين من العمر ويصبح مشروع الهجرة مهدداً، إلا إذا غيرت الحالة الاجتماعية، أي إذا تزوجت، هنا تلتقي ببطل الفيلم: "يوسف" الفنان "شريف منير".
يوسف يختلف عن جميلة في الشخصية وفي النظرة للحياة، فهو مهذب، شديد الاستقامة، يتقبل ما تهبه الحياة إياه ويزهد فيما تبخل عليه به، تربطه بأخيه أخوة حقيقية ومميزة، لذا تبدأ أزمته عندما يستعد أخوه للزواج ويصبح واجب يوسف هو ترك الشقة لأخيه وزوجته، ولكن إلى أين يذهب؟ هنا: تصبح فكرة الهجرة مقبولة لديه على أمل أن يعمل لنفسه قرشين بالخارج ثم يعود لبلده.
يقبل يوسف اقتراح جميلة أن يتزوجا صورياً في مصر على أن يستأنف كل منهما حياته بمفرده بعد الهجرة، وبداية من هذه اللحظة يتورطا في مآزق متفاقمة، فأم جميلة ترفض العريس "يوسف" لأنه لم يتكلم في الشبكة والمهر، لذا تسحب جميلة مدخراتها من دفتر التوفير "لأول مرة تسحب فهي تودع فقط في العادة" كي تشتري الشبكة، وتتم الخطبة، المأزق التالي هو أن أم جميلة تريد حفلاً كبيراً لزفاف ابنتها الوحيدة، وليس عقد قران "ع الساكت"، وتعد يوسف بتحمل نصف التكاليف وبالإقامة معها بالشقة، لكن يوسف وجميلة لم يعد لديهما مال لحفل الزفاف، ويكاد المشروع يتوقف لولا أن الفندق الذي يعمل به يوسف بشكل مؤقت يقترح إدراجهما في حفل زفاف جماعي "دعائي للفندق"، يتم الزواج إذن، ولكن بشكل بائس، ويسبب قبول جميلة بهذا الحفل صدمة لأمها تجعلها تشك بمصداقية هذا الزواج من الأساس، لذا تفتش أغراض جميلة وتجد استمارة الهجرة، تغضب من جمود مشاعر ابنتها جميلة تجاهها "مش إنتي بس اللي قلبك جامد"، وتطردها "تقريباً" هي ويوسف. بداية من هذه اللحظة تجد جميلة نفسها بعيداً عن أمها وبيتها، فقط مع يوسف "الزوج الصوري"، ويضطرا للإقامة مع أخو يوسف بالشقة التي قبل يوسف بالهجرة فقط ليتركها لأخيه، ويعيشا مواقف حاسمة إلى أن يكتشفا حبهما "كل للآخر" ويختارا !؟ أن يصبح زواجهما حقيقي، ولكنه، رغم الحب، زواج "قص ولزق".
الخط الثاني في الفيلم هو قصة الحب التي تنشأ بين "سامي" صديق يوسف الذي قام بدوره "الفنان فتحي عبد الوهاب" و"زينمب" صديقة جميلة "الفنانة الجديدة مروة"، التي تؤدي دور شابة ريفية فقيرة، أتت للعمل بالقاهرة، متوقعة أن تجد الحب، فلا تجد سوى الكذب: بنات يدعين الحب ليوقعوا بالرجال في الزواج، ورجال يدعوا الحب ليقيموا علاقات مع البنات، تُصدم عندما تطالب الشاب الذي يدعي حبها بالزواج فيتهرب منها، ثم تلتقي بصديق يوسف في أسانسير الفندق الذي يتعطل بهما وتصاب بإغماء، فيبقى بجوارها "حسيت إني مسئول عنك"، ثم تجمعهما 13 ساعة "فقط لا غير" يتعارفا فيها ويقررا الزواج.
بناء وتطوير الشخصيات في قص ولزق:
أول مشهد في الفيلم يكشف الاختلاف بين البطلين: يوسف يطلع السلم للدور العاشر حاملاً الدش لأنه صدق ادعاء البواب عن عطل الأسانسير، عكس جميلة التي لم تصدقه لذا تغافله وتطلع في الأسانسير، وتصل أولاً، ثم تتوالى الملامح: فجميلة تتكلم وتتحرك بسرعة، انفعالية وحادة اللسان، تثابر لتأخذ حقها، تدخر المال، علاقتها بأمها مضطربة، تتطور درامياً مع أحداث الفيلم فنراها تهتم بالعصفور، وتكاد تلقي بنفسها في النيل وراء يوسف، أي لأول مرة لا تحسب كل خطوة تخطوها. أما يوسف فهو بطئ في حركته وكلامه، شديد التهذيب، لا يتشبث بما يريد، مرتبط بالبيت، يجيد الطهي، يهتم بأخيه، يتطور درامياً فنراه يرفض، بحسم، إقامة جميلة زوجته "صورياُ" في بنسيون، نراه أيضاً يلقي بنفسه بالنيل كي لا يضيع منه الدش، يصبح أكثر إيجابية.
الاحتفاء بالتفاصيل:
بداية من سرقة وصلة من الدش، ثم الصديق الذي يستلف قميص صديقه لأجل لقاء عمل، كلام الجيران من البلكونات، تعليمات أم جميلة لابنتها مكتوبة على ورق لأنهما لا تلتقيان أثناء النهار، ثم دولاب الملابس سامي المتهالك، وفكرة تزويج صديقه منم أي واحدة منم أخواته، بالإضافة لتفاصيل الطهي المصري الصميم: قلي السمك، تقشير الثوم، وصولاً إلى شهقة الملوخية المميزة.
العيب في البلد ولاّ فينا:
لم يكن مجرد سؤال أتى على لسان البطل، بل عبر كل النصف الأول من الفيلم عن هذا السؤال، وهو يقدم الضجيج والفوضى المستشرية في كل العلاقات والمعاملات، وتعنت الشرطة مع المواطنين "المشتبه بهم"، ثم البطالة التي تضطر الشباب لأن يقَلِّبوا رزقهم بكل شكل ولون، دون شعور بالأمان أو الأمل في الغد، لكنهم "هؤلاء الشباب"، رغم ذلك، يواجهون اهتراء الواقع بالاتكاء على الحب وصلابة العلاقات الانسانية.
ملحوظات بسيطة على الفيلم:
أتت علاقة جميلة وأمها بالأب المتوفي من خلال الحكي بعدة مشاهد وليس بالتعبير عنها درامياً، وجاء مشهد النهاية أطول من اللازم.
– هالة خليل المخرجة: تمكنت من إدارة أدواتها بثقة واقتدار، فخلا الفيلم من الترهل وجاء إيقاعه سريعاً أغلب الوقت، وحركت الأبطال باحتراف، وتألقت الفنانة حنان ترك في دور من أجمل أدوارها وأدى شريف منير دوره الصعب باقتدار، ولمع فتحي عبد الوهاب، وأدت مروة دورها أداء تلقائياً صادقاً
– قص ولزق فيلم يجعلك تضحك من قلبك، وقد تدمع عيناك أيضاً، وفي كل الأحوال هو فيلم لن تنساه.