الليل لما خلي
ما أن تجاوزت قدماها باب المستشفى حتى بدأت تقسم الطريق إلى بيتها، إلى ثلاثة أقسام كما اعتادت أن تفعل، أن تلهو، بافتعال لعبة تحترفها تماماً، لتحدي سأم الخمس عشرة دقيقة التي لابد أن تنقضي ريثما تصل إلى بيتها.
يبدأ القسم الأول بالسور العالي، يمتد أسفله الرصيف نصف المتهدم والظلمة الفاجعة، التي ما كان يقلل من فجاعتها سوى فتات الأحاديث التي تترامى إلى سمعها كلَ ليلة، بين أناس لا يبدو منهم سوى ظلال وجوهٍ، تشرذمها القضبان الحديدية للنوافذ الصغيرة البعيدة، وآخرين يقفون على الرصيف ليحادثونهم، ثم يتحركون بعد ذلك بكامل حريتهم مثلها، مثلها تماماً.
ما بين جهتيّ السور كانت تسمع مرة أحاديث عاطفية حارة، ومرةً تصل المشاحنات اللغوية إلى حد السباب والتوعد. لكنها لم تتوقف في أية ليلة عن أن تطرح على نفسها السؤال الذي لم تجرؤ قط على نطقه: " من هم السجناء الحقيقيون ؟ ".
سوف يوقظها من أفكارها صعق الأضواء في القسم الثاني من الطريق.
هنا، وأنت تسير بمحاذاة مقهى "العصر الجديد"، سوف تسمع شتائم ومعاكسات، ضحكات ومخاوف ومفاوضات، بين شبابٍ وشيوخ، شرطيين وخارجين على القانون، بين أرزقية العطف والحواري وأباطرة السوق، وهكذا سوف يستمر الصخب بعد أن تبتلعها الشوارع الخاوية في القسم الأخير من الطريق، الذي هو الأقل وحشة بالنسبة لها، لحفظها له عن ظهر قلب.
فبجوار السور الواطئ لبيت " برعي" سوف تسمع شتائم الأم لأبنائها "الرجال بفتل شواربهم ليس إلاَّ" على حد قولها، الذين باعوا ورشة أبيهم وبددوا ثمنها "على النسوان" على حد قولها أيضاً.
بعد قليلٍ سوف يتهادى صوت "سُمعة" الشجي، يشكو زوجته للحارة جمعاء بجمل موسيقية وإيقاع مميز، مسترسلاً في البوح: بدايةً من جيوبه التي تفرغها كل صباح ونهايةً بالمأذون الجالس مترقباً على عتبة البيت، ومروراً بتفاصيل أخرى دقيقة، من المفترض أنها سرية بين أي رجل وامرأته.
وهكذا ينتهي الطريق سريعاً لتجد نفسها أمام باب شقتها.
ما أن تضع المفتاح بباب الشقة حتى تسمع صياح أطفالها وزعيق أبيهم المعتاد، وقبل أن تنقضي الدقائق القليلة التي تحتاجها لالتقاط أنفاسها، يكون شريك حياتها قد ارتدى أزهى ثيابه وغادر.. ككل ليلة.
تبدأ سريعاً بإعداد العشاء للصغار واستكمال الواجبات المدرسية التي يتململ منها أبوهم، أخيراً يكون الأولاد في فراشهم بادئين في النوم بعد أن تقبلهم وتتمنى لهم أحلاماً سعيدة.
عندئذٍ يبدأ وقتها هي..
عفواً لم يبدأ بعد! فعلى عجلٍ ترتب الغرف التي تبدد نظامها، أثناء ذلك تدير الراديو وتبدأ في الغناء، ثمَّ تتذكر أن صوتها لا يعجب جارتها النكِدة فتصمت.
يكون الوقت قد اقترب من منتصف الليل عندما يبدأ وقتها هي..
تُخرج من حقيبتها بيدٍ مترددة علبة "المِعسِّل" التي اشترتها من الدكان المجاور للمقهى، تنظر إليها وتدخلها الحقيبة، ثم تخرجها مرةً أخرى..
تتأملها ملياً ثم تبدأ في نزع الكرتون، ثم فض السيلوفان.
تفاجئها صورة أبيها على الجدار المقابل لفراشها، سوف ترى عينيه تحدقان بها..
نعم. لقد أحبته بشدة ومقتته بشدة أيضاً.
آهٍ.. الأب العظيم.. كانت تتسلل إلى حجرته وإلى قلبه بابتسامة تصنعها خصيصاً لكي تليِّن قلب من يشهد الجميع بأن لا قلب له.. إلا معها.
حجرته المعبأة برائحة المِعسِّل، وعيناه القويتان الكاشفتان لكلِ ما يمكن مداراته، وصوته العميق الحاسم والشارب.. "آهٍ من شاربك يا أبي ".. كل ذلك أعطاه جلالاً وروعة تبعث شغفاً في القلب ورهبةً في اليد التي تمتد خجلة لأخذ مصاريف المدرسة، فيعطى بسخاءٍ ودون تردد.
كانت تغادر حجرته وتعلم أنه يرسل خلفها من يراقب خطواتها عن بعد، حقيقةً على عكس أمها لم يرفض لها طلباً قط. فقط في زواجها..
ـ هوَّ الجواز لعبة؟
ما زالت تتذكر صوت أمها وهي تحاول اقناعها بأنه كان يفعل ذلك لمصلحتها.
بدأت فى مص قطعة من المعسِّل وهي تتنهد... هنا يبدأ الطعم الحلو، والرائحة..
رائحة المعسِّل التى لم تفارق أباها، حتى بعد تغسيله وتكفينه.
أخذت تضحك حتى صادفت يدها ـ وهي تعبث بأغراض حقيبتها ـ المذكرة التى وقعها المدير في الصباح، ورماها لها بأنفه الشامخ دون أن ينطق بكلمة..
هو بلا شك يعلم أن كل قراراته الخاصة بالنظام والانضباط مستحيلة التنفيذ.. لكن ماذا يفعل بأنفه؟
شعرت بطعم العسل يصل إلى معدتها.. عندئذٍ سال الطعم المر للدخان على لسانها.. بدأت تتأوه وتتقلب في الفراش..
رأت نفسها تقطع رأس أبيها، وأنف المدير، وساق زوجها الذي ظلت تتناسى شكوكها نحوه، حتى جددتها هذا المساء زميلتها صاحبة العيون الصغيرة والأصابع المدببة..
رأت نفسها تنهض وتدمر كل شيء.. السرير.. المستشفى.. السجن، وكل شيء.
هنا، شعرت بمرارة الدخان تصل معدتها فجأة، جرت لتتقيأ.. تألمت وهي تحس بجوفها يكاد يندلق من فمها بينما تفرغه بانصياع.. ولما أدركت أنها لم تمت بعد عادت لفراشها، وقد لفتها سحابة كثيفة من هداوة الروح، استرخت داخلها تقاسيم وجهها.
طفت فوق ركام أفكارها صور عديدة.. وجوه أطفالها، وعيون المرضى المتوسلة بينما تغزهم زميلتها الممرضة ذات الأصابع المدببة بابر العلاج، صرامة وجهيّ أبيها ومديرها، ابتسامة زوجها في صورة الزفاف.
تنهدت عميقاً ثم صاحت: لست الحَمَل الذي يظنونه وليسوا الذئاب التي أظنها.
عادت تضحك من نفسها مجدداً وهي تسمع صوتاً بداخلها مازال قادراً على المشاكسة
: اللعبة لم تنتهِ بعد.. سوف أنال منكم جميعاً.
طوت المذكرة بحرص وهي تعيدها للحقيبة، وترسم على وجهها الابتسامة التي ستواجه بها المدير في الصباح، ولما رأت الساعة تجاوزت الواحدة بعد منتصف الليل، موعد عودة زوجها، نسيت ألم معدتها الذي لم يبرأ تماماً، ونهضت واقفةً لترتدي قميص النوم الأحمر..
بدأت في بخ العطر وفك الشعر المعقود.
تأملته طويلاً حين أتى.. كأنها تتساءل: هل هذا هو الرجل نفسه الذي كنت متأبطة ذراعه في صورة الزفاف؟ آه.. لماذا كان جميلاً في صورة الزفاف!؟
كان قريباً جداً ومع ذلك أعياها تماماً أن تراه، أن ترى ما بداخله..
أحزنها جمود ملامحه وأرهقت حواسها الهواجس، فرت بعينيها، بعيداً عن عينيه الفارتين بعيداً عنها منذ زمن طويل، وهي تسأله:
– مع من كانت سهرتك ؟
أجابها بنفس الجمود: لا أحد ..
–
رفعت قميص النوم الأحمر قليلاً عن ساقيها وهي تقول لنفسها: الآن سنرى .