الأحد ١٥ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم ميرفت أحمد علي

قِراءاتٌ في ذاكرةِ الموت

1ـ حبّ:

أوّلَ عهدي بالهوى... آنَ نهدَ صدري وبرعمَ ثغري وانصقلَ ردفايَ، ذهبتُ مذهبَ الغاوين في التنكيل بعشّاقي. عديدون سقطوا صرعى غُروري...

أخيراً، جاءَ صابر... اعترضَ زَهوي بقسوة، فانقلبَ عليَّ السحر، من حيثُ لم أحترز أو أتحصَّن.

2ــ بيانات:

ـ بيان رقم /1/:

إلى من يهمّهُ الأمر

إنّ حكومةَ أمِّ الدول. سيدةَ الشعوبِ ومالها، والأرضِ وما عليها. تناشِدُكم باسم الحرية التي يسمقُ نصبُها التذكاريُّ نبراسَ أخوّةٍ يلوّحُ للشعوب على امتداد المحيط أن: أَلقوا أسلحتكم، وتخفّفوا من دروعِكم وهواجِسكم وأوهامِكم. ولتطمئنَّ النفوسُ ولتهدأَ الخواطر. باسمِ السلام، سالموا وهادنوا وساوموا، وبرعايةِ عُظمى الأمم وكفالتِها، وكفالةِ القواتِ عديدة الأعراق، تنسحبونَ من المعركة وتُخلون الديَار... لا غانمينَ ولا خاسرين، وإننا الساهرونَ على أمنِ أموالكم وأعراضكم ونسائكم وبنيكم ودياركم من بعدكم.

ـ بيان رقم /2/:

مصدرٌ أمنيٌّ موثوق أدلى بالبيان التالي لمحطتّنا:

"على مدارِ أربعة عشرَ يوماً تتواصلُ مراسيمُ إجلاء عناصر المقاومة المسلحة عن البلاد بإيعازٍ من بعض أطراف النزاع، فيما تشرفُ لِجانُ مراقبةٍ دولية على إجراءاتِ تسليم الأسلحة قبيلَ مغادرة الميناء إلى جهاتٍ غير معلنة".

بيروت 3/8/1982

ـ بيان رقم /3/:

إلى المناضلين حيثما وجدوا:

أمّا عن الأموال فقد نُهبت، والأعراض اسْتُبيحت، والديّار خربت،، وذُبحَ الولدانُ، وتقطّعت أوصال وبُقرت بطون واندثرت معالمُ ومُثّلَ بالجثث أيّما تمثيل.

بيروت 18/9/1982

3 ـــ حـمّـى:

تحتَ جُنح الظلام، صعدنا إلى غرفة صابر على السطح.

وقفتُ أختلسُ النظرَ إليه كتلةَ ارتعاشات واضطراماتٍ. ظلَّ يحدّق... وخرائطُ لانفعالاتٍ متضاربة متقلبة تُعيد تشكيلَ وجهه.
ليست أوّلَ مرّة أرى فيها صابر يرتجف ويحمّر ويسخن، بل قد يهدأ لحظةً ساهياً متفكّراً ثم تجحظ عيناه، ويزمّ شفتيه، ويكوّر قبضتيه. وقد يَلْكُم بهما خيالاً أو سراباً يعرضُ لهُ وحده... أو يهبّ واقفاً دون مبرّر!

أبحثُ بين القراطيسِ عن علبة دوائه فلا أَجدُها. أدنو من طاولتهِ... ينتبهُ إلى شيء ما فيقومُ من سريره مجنوناً يحزمُ أوراقاً متناثرةً ويحشرها في الدرج.

أتجاهلُ رعونتهُ وأبحثُ في أماكنَ أخرى، وإذ أصلُ إلى ركنٍ عُلّقت فوقهُ صورةٌ كبيرةٌ احتجبت بستارٍ أزرقَ يعاودهُ الجنونُ صارخاً:

ـ لا تقتربي.

4 ـ أرقام:

بيان إذاعي:

"إنّ إسفارَ اجتياحٍ لا مبررَ لهُ وحصارٍ غير مشروع عن أذيّةِ أبرياءَ دُفنَ منهم ألفين وخمسمائة وخُطفَ ألف وخمسمائة، وفُقدَ بالتّواري والهرب حوالي الألف... علاوةً على عددٍ يصعبُ حصرهُ من المحشورينَ تحت الأنقاض... لَهوَ الإرهابُ بعينه".

5 ـــ انتظار:

أحرَجني تأخّرُهُ حتى لم أصبر على انتظار...

صارَ مألوفاً - مؤخراً - ألاّ يحترمَ صابر موعداً بيننا، وأن يبيتَ خارجاً. وبدا غبيّاً بحيثُ لم يعد يُجيد تلفيقَ أعذاره. إذا حضرَ يصعد السلم كلص، غالباً ما يكون بهيئة مزرية وبجعبته جرائد وملفّات.

تمشّيتُ أنتظرُ أمامَ غرفتهِ القابعة على السطح. باختصار: صادفتهُ في حفل تعارف جامعي. قدّموهُ لنا كواحد من النّازحين الفلسطينيين. تمليّتُ قامتَهُ الفارعةَ النحيلةَ وثقبي عينيه الحالمتين... جفنيهِ المتهدّلين وشعره الأشعث فرثيتُ لهُ...
ذقتُ معه الذلَّ... ذلَّ ارتيادِ الأزقّة الصفراء والنواحي المشبوهة حيث يقطنُ، وأنا سليلةُ أعيانِ البلد وأرستقراطييّها.

ذلَّ كظمِ غيظي من بلادتهِ وتحفّظهِ حيالَ أُنوثتي ومشاعري المتأجّجة . وحيالَ عشراتِ الخلوات التي جمعتنا في غرفة على السطح من دون أن يكونَ الشيطانُ ثالِثُنا.

ذلَّ كتمانِ فضولي الغيور من تلك الصورة المعلّقة على جدار غرفته وما تُضمر من سرٍّ ملفّعٍ بستارٍ أزرق سميك.
ذلَّ حديثِ شابٍّ مشرَّد لشابةٍ متأنّقة مترفّعة عن أسعار الكتب الجامعية ونتائج الامتحانات وإضرابات الأساتذة واعتصام الزملاء وأحوال متدهورة في البلد ونعرات سياسية وتحزّبات وفُحش أسعار وانخفاض العملة المحلية وارتفاع العملة المستوردة

6 ـ تحقيقات:

نحنُ -شهودَ الواقعةِ - الموقّعِ على وقائعها بالدم المخضاب لأُلوف من يمّموا غرب المدينة، وأُعطوا الأمانَ وعمروا المكانَ ثم طوّقتهم يدُ المكيدة وعاثَ بهم بلاءٌ مستطير...

نقسمُ أغلظَ الإيمان: لا نقولُ إلاّ الحقَ، لا نُحّرفُ الكَلِمَ عن مواضعه، ولا النوايا عن سلامتها ولا الضمائرَ عن نصاعتها.

واللهُ... على ما نقول شهيد.

ـ شهادة أولى:

نصّبوني علماً على مشارف الحيّ، في قلبي أرزة بحجمِ الكف تحفُّ بها الألوان. لم أُفكّر بضريبةِ أن أكون أوّلَ من يرى ما لا تُحمد رؤياه.

دخلوا بالمئات، عصائبَ جندٍ مدججة بالحراب والبنادق والمدى. طوّقوا الأبنية، كمنوا على الأسطحة، خلف الأسوار، في المداخل والملاجئ والشرفات الخفيضة وعتبات النوافذ... بطّارياتُ الجيب تنيرُ لهم، والقنابلُ المضيئةُ تزيدهم إبصاراً.
كانوا يُبصرون ولا يتبصّرون وهم يركلون ويطعنون، لا تأخذهم رأفةٌ بأيٍّ كان. ورأيتُ دباباتٍ تحوم حول المعركة من دون أن تنـزجَّ بها، ولمحتُ فارّينَ في إثرهم مسلّحين وأُناساً بالعشرات يُقيَّدون إلى الحيطان ويُبادون بالرشاشات. أصابتني رصاصةٌ في ساقي فانكسرت ووقعتُ على الأرض يعومُ قماشي وأَرزتي في دماء الموتى.

علمٌ على مدخل الحي الجنوبي

ـ شهادة ثانية:

في لمّةِ الفجر نفروا إليّ بالمئات. تَوَازعوا أمرهم بينهم. لازَمَني منهم الرؤساءُ والقادة وأقلعَ المرؤوسون غرباً على متونِ الدبابات والشاحنات.

ثلاثةُ أيامٍ بلياليها رهنوني تحتَ إمرتهم. لبعضهم ملامحُ مألوفةٌ، ولبعضٍ هيئاتٌ ناشزة وألسنة عجماء... قليلاً، وبدأتُ أعي تحوّلي من مؤسسة مدنيّة إلى نقطة تجمّع عسكرية تستقبلُ أسرى مدنيين عُزّل يُؤتى بهم على دفعات ثم يُقصَونَ إلى نواحٍ مجهولة في أوضاع مذلّة وأعراض للعنف الجسدي. وسمعتُ ذبذباتِ اتصالات لاسلكية مكثّفة بلغاتٍ عدّة، وأصداءَ انفجاراتٍ تعمُّ غربَ المدينة وتُنّورُ سماءها كما لو أنّ الوقتَ نهاراً.

المدرج رقم /2/ في مطار بيروت الدولي.

7ـ اختفاء:

اختفى صابر فجأةً، نفقتْ خمسة أيام على غيابه، هجرتُ إبّانها ضاحيتنا الفخمةَ واعتصمتُ في غرفته.

مكثتُ أعلّلُ النفسَ برجوعه. قلّبتُ قراطيسهُ ومجلّداته. كنتُ أتوجّسُ نحساً متربّصاً، فنادراً ما يطولُ مبيتُ صابر خارجَ مسكنه، وإن فعلَ، فبعلمِ صاحبةِ الدار، والمرأة لا تنفكُّ تؤكّدُ أنْ لا أهلَ لصابر أو أقاربَ في بلدنا.

سألتُ عنهُ في الجامعة، في المقهى، والرابطة الثقافية. طفتُ أرجاءَ البلد أتقصّى أخباره. الكّلُ ينفي معرفةً.
كنتُ أطرِّز الشوارع نهاراً وأعودُ آناءَ الليل منهدّةَ الحيل.

الساحةُ عاريةٌ أمامي. والصورة التي يعبدُها صابر وربّما - يعبدُ صاحبَتَها - تتشبّثُ بالحائط عزلاء خائفة... لا أحدَ يمنعني عن هتكِ سرّها. من تُراها صاحبةُ الصورة؟

تُغريني الخواطرُ المريضة بكشفِ الصورة. وحدهُ الوفاءُ لصابر يردَعُني عن حماقتي؛ فلا تكادُ تمتدّ يدي صوبَ الستار حتى ترتدَّ عن خيانتها في منتصف الطريق.

تحقيقات ـ تتمّة:

ـ شهادة ثالثة:

إنّنا، شلّةَ الفئران والجرذان والصراصير والقطط، نعلنُ أن لا حرجَ علينا في السّرحان على هوانا خلالَ الدورِ الخَرِبةِ والباحاتِ المهجورة، والجثثِ المشطوحة على الطرقات والأرصفة. لقد لَزِمنا الصمتَ وقبعنا في جحُورنا وأوكارنا إبّانَ الرعودِ والقصوفِ التي نكبت الحيّ، وآنَ لنا التجوالُ دونَ تحسّبٍ لنقمةِ حذاء ٍطائر أو لضربةِ مكنسة ثقيلة أو لِحفنةِ سُمّ تُنثر كميناً لنا.
وقد اعتزمنا اغتنامَ فرصتنا النادرةِ في فضِّ أكياسِ القمامة وصناديقِ المؤونة ومستودعات الحبوب واقتسام غنائمها، سيَّما وقد سلكنا مسلكَ العُقلاء في حظر الاقتراب من القتلى، حتى إذا ارتطمنا -صدفةً- بذراعٍ ممدودة أو برأسٍ مقطوعة نكصنا مبتعدينَ صوناً لحُرمةِ الموت وأصحابه.

قوارض عابرة

8- موت:

بدأت تَفِدُنا أنباءٌ كاذبةٌ عن مكان صابر، يسوقُها الرفقاء والغرباء. ما إن يُلقى بالشائعةِ حتى يغلي حنيني فأجوبُ النواحي، أقتفي عنواناً وهميّاً يُعطى إليّ، أو حقيقياً لكنهُ لا يعبقُ بريحِ صابر... حتى جاءت ليلةٌ خُلِعَ فيها بابي واقتلعتني من فراشي عصابةٌ من العسكر.

كابدتُ أفانينَ الخوف والترويع، وهُم يستجوبونني:

ـ ماذا تعرفينَ عن صابر الرّفاعي؟

ـ ما مدى علاقتك بهِ، ومعرفتكِ بنشاطه السياسي؟

ـ أين تُخفيانِ منشوراتكما؟.. لحسابِ من تعملان؟

والجواب: - لا أعرف...

قامَ قائدُهم وصفعني، خَطَّ الدمُ مسيلَهُ من فمي إلى ذقني. حامَ الرجلُ حولي. شهرَ بندقيةً ورفعَ بالسّبطانة ذقني:

 أُمهلكِ ساعةً، بعدها أهشّم وجهكِ ... أنتِ مُدانةٌ بالتستّر على إرهابي فلسطيني.

اعتقلوني عدَّة ساعاتٍ، قبل أن ينجحَ لقبُ عائلتي في التشفّع لي وفكِّ أسري.

وبعدَ أيّامٍ، قصفَني الخبرُ قصفاً إلى مشفى من الدرجة الثانية...

ــ صابر يُحتضر. عَجّلي، إنهُ لا ينفكُّ يهمسُ باسمكِ.

اجتزتُ الممرات مرعوبة. معصوفة القلب. هناك تمدّدَ باستكانةٍ وذلّ تحفُّ بهِ الوسائدُ الملوثة والأغطيةُ المرقّشة بالدم.
صعقتني اللفائفُ والعصائبُ حولَ صدره وذراعه ورأسه. رأيتهُ مصفرّاً، يهذي كعادته في آخر أيّامه. لاحظتُ ضمورَهُ واستطالةَ ذقنهِ المهملة وخطوطاً من الشيب المفاجئ خلف أذنيه. سهوتُ عن قراءةِ الإشفاق في العيون الراثية التي تحيطُ بنا، وعن تتبّعِ آثارِ الطعّون الغائرة في جسمه حتى الأنصال.

أطبقتُ عليه بذراعيّ وجذعي وبكيتُ بمرارة وضوضاء. انسابَ دفئي إليه، تغلغلَ فيه، فتقاوى على ضعفه ناهضاً جذعَهُ هامساً باسمي... ثم طفقَ يبكي بنعومة...

عرفتُ وقتها معنى أن تكونَ المرأةُ حبيبةً ورفيقةً وأمّاً. وقيمةَ أن تصبحَ صدورُ النساء مبكىً للرجال...

ثم ثَقُلَ بدَنُهُ بين ذراعيّ. وتراخى ذراعاه ومالَ برأسه. أفلتُّهُ.. فانطرحَ على الوسائد مسبلَ العينين، مزبدَ الشفتين، مزرَقَّ السُّحنة.

دوّت صفاراتُ إنذاري تعلنُ القيامة. فجّرتُ صرخاتي الوحشيةَ في كل اتّجاه قنابلَ قهرٍ وتفجّع كاوٍ...

ماتَ صابر... مات صابر...

أخمدوني بالحقن المهدئة وبالأقراص المنوّمة... ومضت أسابيع قبلَ أن أقفَ على قدميّ... طيفاً آدميّاً.
كنتُ أعلنتُ الحدادَ على صابر وعلى نفسي وعلى العالم وأنا أقصدُ ذلك الزقاقَ البائس على هامش المدنية والحياة...
بادرتني المرأةُ بردائها الأسود معانقةً. أخبرتني بكآبةٍ أنها تنظّفُ الغرفة صباحاً. تعاودُ ترتيبها وتهويتها كما لو أنّ صابر ما زالَ يعمرها.

أخذتُ المفتاح وصعدت. ألقيتُ نظرةً على الأشياء: السرير، النافذة، اللمبة، الطاولة والأدراج والكراسي، الأريكة، المكتبة، الجدران... ثم...، تسمّرتْ عينايَ عليها... على الصورةِ اللغز.

شيءٌ يصعبُ تحديدهُ أشعرَني أنّ صابر في تُرابه قد تسامحَ مع فضولي بشأنِ اللوحة. وصارت أشياؤهُ أشيائي، وذكرياتهِ ملكي. أنا المؤتمنةُ عليها بالدرجة الأولى ثم... تلكَ المرأة المسكينة.

انبعثتْ فيَّ الرغبةُ جارفةً، فخَطَوتُ والرهبةُ تأسرني. مددتُ يدينِ راعشتين.

أخيراً سيُسفرُ عن وجههِ الملاك. ستنجلي المرأةُ التي قاسَمتني صابر في حياته، وانهزمتْ في موته.
أزلتُ الستارَ السميك...

فبانَت اللوحة .

فغرتُ فمي، وجحظتُ بعينيّ أُمعنُ الرؤية لا في امرأةٍ جميلة، بل في خرائبِ سكنٍ، وأطلالِ ديار ورجالٍ وأنامٍ كالحصى المنثورة في الطرقات، وأكوامِ الزبالة في التكدّسِ... تعومُ في بركِ الدماء.

قوالبُ رصاصٍ فارغة... ثيابٌ ممزقة... جلودٌ ممزقة، شرايينُ منبوشةٌ وأحشاءٌ مندلقة وعيونٌ يحدّقُ بعضُها في سراب.
إلى يمينِ اللوحة شاحنةٌ تلتَفُّ وتدور لِتُعاودَ هرسَ الجثثِ المضطجعةِ ما طابَ لها ذلك.

في ذيلِ اللوحةِ تعليقٌ يتيم.

قرأتُ وبدني كلُّهُ يرتعدُ ويرتقص:

التوقيع:

صبرا وشاتيلا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى