الاثنين ٣٠ تموز (يوليو) ٢٠١٨
بقلم أمينة شرادي

كانت الفكرة ...وكانت حياة أخرى

كان ليلا طويلا رفضت فيه النجوم أن تختفي. طال الليل وطال السهاد. كان الحلم سيد اللحظة، ينط بالفرح والسعادة والدموع. فتحت عيني على فجر يخترق زجاج نافذتي ويمسح عن وجهي بقايا حلم الليلة الفائتة من أجل حلم أخر ينتظرني في الضفة الأخرى.
اختلطت المشاعر بالرهبة والشوق والبكاء والحنين حملت بين أحضاني حلم الأمس الجميل حتى يحميني من الهجر. لم أعد أدرك ماهية الأشياء. هناك الفرح باللقاء والخوف من اللقاء والسفر عبر الزمن.

كانت محطة القطار جاثمة بثقلها على المكان، استوطنتها أجساد أعياها الانتظار. فكانوا يجلسون تارة وتارة أخرى يمشون. يتحدثون الى بعضهم وينتظرون قدوم القطار. في تلك اللحظة كنت أهمس لروحي بلحظة اللقاء، بعد فراق نامت فيه أرواح، وشاخت فيه أجساد، وتعبت فيه أقدام. كيف سيكون اللقاء؟ لكن صوت آخر يندفع من دواخلي ويهمس لي همسا خفيفا ومرتجلا، يتمنى أن يتأخر القطار أكثر وأكثر. مشاعر مضطربة بين لهفة وشوق وسعادة وحزن وقلق.

ركبت القطار وطار بي حيث يريد، ارتفعت نبضات قلبي وكادت أن تقتلع من صدري. نظراتي تائهة تسافر عبر نافدته وتمسح بطريقة غير ارادية كل الحقول والأشجار والأراضي اليابسة التي تتسابق بشكل جنوني مع صفيره، ذاكرتي تتزاحم فيها صور الماضي الجميل من خصام وعمل وتكاسل وصخب واجتهاد ولعب وتنافس. أبتسم لوحدي، ثم أتدارك الأمر خوفا من نظرات المسافرين. وأستحي منهم. ماذا سيقولون؟ انها مجنونة؟ لا يهم، أنا بالفعل مجنونة بهذه اللحظة التي هربت في غفلة من رتابة الزمن وحطت الرحال بين أيادي خالية من وخز الابر.

وأعود وأهيم مع صوت السكة الحديدية وهي تتناغم مع سرعة القطار، أتجول بنظراتي بين المسافرين من جديد كأنني أريد أن أخبرهم بشيء. وأفتح لهم مغاليق قلبي، وأقول بصوت جهوري، انه هناك، ينتظرني، زمن كنت فيه تائهة بين دروبه وأزقته أبحث عن وطن لنفسي المتمردة، زمن، كان لي كالمحراب أحتمي به كلما اشتد على الضيق والاختناق. لأنه كان موطن أحبتي التي لم تلدهم أمي. نام طويلا حتى اعتقدنا أنه ولى. وكل راح لحال سبيله. فلم يكن سوى بيات شتوي واستيقظ منه، استقبله انسان جميل كان بيننا. "ادريس حمادي." كانت فكرة صغيرة تمشي ببطء لا يلتفت اليها أحد، رعاها حتى نمت وأحدثت خلخلة في دماغه واشرأبت بعنقها تغرد خارج كل الحدود. نمت الفكرة وخلق بذلك حياة أخرى تتجاوز كل الحدود الجغرافية والنفسية والاجتماعية.

اندفعت من القطار هو يمهل السير، أبحث عن رائحة الزمن الذي عبر من هنا. كل الأماكن تذكرني وتبتسم الي كأني عدت من عطلة قصيرة. جاءتني الذكريات تتسابق وتتزاحم وامتلأت حياتي كما كانت في السابق عندما كنت متمردة وثائرة لكن صامتة.

جفت دموعي في المآقي، تاه مني الكلام تعثرت خطواتي وأنا أصل الى المكان المحدد. انه مركز تكوين أساتذة التربية البدنية والرياضة بعين السبع. كان جميلا في عيني رغم بعض الإهمال الدي طاله. فكانت المفاجأة، كانوا هناك. رفيقات ورفقاء الأمس. كانوا هناك يحملون الفرح بين أيديهم. بالأحضان والدموع والعرق والابتسامات والثمر والحليب. كنا كالأطفال يوم العيد. لعب وجري وضحك. وكل صادق وجميل وعفوي. بعد ثلاثين سنة من العمل والنوم والأكل والآلام والسفر، بعد ثلاثين سنة، من الصمت والانزواء، انفجرت مشاعر جبارة وقاتلة دمرتني بشكل قوي جدا.

كانوا هناك كالنجوم المتلألئة في السماء. يتدافعون ويخلقون ضجيجا جميلا يقهر زمن الصمت.
كانت الفكرة، وجاءت البداية...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى