كيف نتعلم الحوار!
سقراط إعتقد أن الحقيقة تكمن في النفس البشرية، اي تقع في داخل الانسان وليس في العالم الخارجي او الواقع الموضوعي، فما الذي حمل سقراط على الاعتقاد بهذا؟ الجواب هو الحوار ونتائجه. الجدل او الحوار السقراطي كان يقوم على سائل ذكي يسأل سقراط وعلى مجيب من تلامذته او من العامة من الناس، فالسؤال السقراطي والذي يقود الى شيء من الحقيقة في نهاية المطاف كان هو الآلة التي يستخرج بها سقراط الحقيقة من باطن النفس.
أنا لا أعتقد بهذا ولكنني أرى فيه ما يظهر ويؤكد اهمية الحوار الموصل للحقيقة والتي لا منبع ولا مصب لها سوى الواقع الموضوعي. الحوار والنقاش هو أم الحقيقة، لكن لا بد لهذا الحوار ان يستوفي شروطه للوصول للحقيقة او ان يكون الطريق اليها. في الفكر لا وجود للتفاوض الفكري بمعنى السياسة، فما يجوز بعالم السياسة لا يجوز في عالم الافكار. الفكر يعيش في الصراع وبالصراع وبعضا منه يحتاج الى الحوار طريقا لتطويره وإزدهاره، قد نرى خصما فكريا يُصر على ان الارض تدور حول القمر، هذا الخصم الفكري لا يصلح في الافهام لانه يريد مزيدا من الادلة على وجود النهار، في هذه الحالة تُعرف الحقيقة على انها كل فكر يوافق مصلحتي حتى لو ناقض الواقع الموضوعي، هنا لا مكان للحوار وانما للصراع ويمكننا تميز الصراع الفكري من الحوار الفكري، فكل حوار هو صراع لكن ليس كل صراع هو حوار، وبالتالي هذا الصراع لا يمكن ان يكون طريقا للحقيقة. الحوار هو الاختلاف الفكري مع الاخر المبني على وحدة المصالح والاهداف مما ينبغي له (الحوار) ان يشجعني ويشجع خصمي الفكري على تحويل مزيد من الخلاف الفكري الى إتفاق فكري شرط عدم مخالفته الحقيقة الموضوعية، ولذلك يجب ان نتجنب شيئين اثنين اثناء الحوار، هما المجاملة الفكرية والكرامة الشخصية.
هناك من المثقفين ممن ليس للفكر في قلوبهم اية جذور يتخذ من الحوار مزيدا من المجاملة الفكرية، يحاورك ليثبت لك انه لا خلاف بينكما في وجهات النظر وكانه النعامة في مواجهة كل خلاف فكري، هذا النوع من المثقفين لا يضر ولا ينفع وليس في راسه من فكر الا ما يشبه الماء الصالح للشرب، فلا تضيع وقتك معه، فهو لا يحدثك الا لتقول له صدقت او ليقول لك صدقت.
وهناك نوع اخر من المثقفين ينظر الى كل اختلاف معه على انه تعد على كرامته الشخصية او حتى عرضه فليس من برزخ بين كرامته ورايه، فلا تضيع وقتك معه ايضا. إنني مع كل حوار مع مثقف تجتمع فيه برودة العقل وحرارة القلب وحب الحقيقة وإلتزام الموضوعية في التفكير والنظر الى الاشياء، توصلا للحقيقة والحرص على اظهار وإبراز كل الخلافات الفكرية من اجل التوصل الى مزيد من التوافق الفكري اساسه الحقيقة الموضوعية، وما من شك ان الحوار المستوفي للشروط اعلاه لا بد له من ان يلد فكرا جديدا، انه يشبه المركب الكيميائي والذي لا ينتمي لي ولا لخصمي الفكري الا في عناصره الاولية، فعناصره بعضها مني وبعضها منه، اما المركب نفسه فليس مني وليس منه وانما من تفاعل كل العناصر الاولية وكان الحقيقة حتى تظهر تشترط ان يتخلى كلانا عن ذاته.