

كيف يتكاثر الزيتون..؟
(إذا حضرت أحد الأرواح فلتسلّم) كرّر سلام هذه العبارة مرات ومرات بنبرة واثقة وجادة وهو يجلس بتراخ وهدوء وسط هيكل بيتهم المدمّر. بيتهم المتوارث منذ عهود طويلة حيث ولد ونشأ أسلافه. أجيال وأجيال عاشت هنا وخرجت منه إلى بيوت أخرى أو إلى منافي بعيدة، لكنه الآن مجرّد خربة متهاوية، فقد دُمّر منذ الأيام الأولى للعدوان. اللوحة الخشبية التي استعملها للتحضير وكتب عليها الأحرف الأبجدية بشكل دائري كانت فيما مضى جزءا من سريره، لكنها الآن وسيلته للتواصل مع الأرواح، ولعه العظيم، والمرّ.....المخيف، الذي تعلّمه منذ المراهقة واتقنه جيدا.
نزحت أسرته إلى مخيم قريب، وبقي هو ما بين أطلال البيوت، يأوي كلّ ليلة، وحيدا إلى بقايا البيت، يشور مثل نحلة رحيق أرواح أسلافه، حاول ترتيب مكانا خاصا له، فقد تهدم البيت بطريقة جعلت من الجدران تتكئ على بعضها ممّا وفّر فسحة آمنة، فرش بعض الأغطية، والتحف ببعضها، استطاع الحصول على شموع، لكنها نفدت منذ الليالي الأولى، فابتكر فانوسا بدائيا من الكاز يضيء به لياليه الطويلة الحالكة الموحشة، كان يحصل على كسرات خبز والقليل من الشاي، وأحينا قطعة جبن أو حبّات زيتون... وبعض الأحيان ينام جائعا، اعتاد سماع دوي الانفجارات الهائلة التي تكاد تعصف بالمدينة كلّ ساعة مثلما اعتاد سماع أصوات البيوت وهي تتهشم مثل حياة فتيّة.. لكنه تماهى تماما مع المكان والزمان. وجد في الخرائب التي صنعتها الحرب ملاذا آمنا، اعتاد أن ينام بكلّ عمق وسط أصوات السيارات وإطلاقات البنادق والصخب اليومي المدوي. الليلة قرّر أن يبدأ بالتحضير مبكرا وضع الخشبة أمامه، قلّل الإضاءة، ثمّ قرأ الأذكار التي يحفظها عن ظهر غيب، تحركت يده التي تؤشر على الورقة التي يلمسها بأطراف أصابعه ويستعملها للتأشير على الحروف والأرقام التي في اللوحة، كرّر العبارة :(إذا حضرت أحد الأرواح..) أحسّ بالورقة المقواة تنزاح بتمهل نحو عبارة:
(السلام عليكم). سأل الروح بنبرة أكثر ثقة (أدي الشهادة ) انزاحت الورقة نحو (أشهد أن لا إله إلاّ الله) قال بنبرة واضحة :(كم عمرك)...تحركت الورقة ثانية نحو الأرقام :(6....7)...أحسّ بأنّ الورقة تهرب من بين أصابعه تطير بسرعة البرق، ثمّة دخان كثيف يخرج من بين الصخور المتناثرة التي تملأ المكان، لكنه ظل ثابتا، يردّد العبارات التي تعلمها في مثل هذه الظروف، ارتفع الدخان نحو سقف الغرفة، خيل إليه أن رجلا يهرع من شظايا الانفجارات ليدخل المكان، نفض الغبار عن ملابسه، وجلس على الأرض، قال له سلام بثقة: ماذا حصل؟ واصل الرجل نفض الغبار عن أكمام سترته، أنا هنا منذ شهور، أدور في الشوارع، أتفحص وجوه القتلى المزرقة، أتحسّس عمق الجراح الغائرة التي تحدثها الشظايا في الأجساد الرخوة، أعدّ البيوت التي تُهدم وتصبح أثرا بعد عين، والمدارس التي تندرس والعائلات التي تنقرض، والأشجار التي تحترق وتموت بصمت، قاطعه سلام بصوت مرتبك، صوتك مألوف لي أشعر إنني سمعته مرارا، قال الرجل:
بحرٌ لأيلولَ الجديدِ. خريفُنا يدنو من الأبوابِ
بحرٌ للنشيدِ المرِّ. هيَّأنا لبيروتَ القصيدةَ كُلَّها.
بحرٌ لمنتصفِ النهارِ
بحرٌ لراياتِ الحمامِ, لظلِّنا ’ لسلاحنا الفرديِّ
بحرٌ’ للزمانِ المستعارِ
محمود، صرخ سلام وهو يهزّ كتف الرجل، كيف جئت، وسط هذا الظلام الكثيف والخذلان الأشد كثافة، أنا لم يخطر ببالي أن أحضّر روحك أنت بالذات،، لم تخطر على بالي، قال محمود وهو يربّت على كتف الشاب المنفعل، لا نحتاج إلى تحضير، كلنا هنا، أصبر قليلا وسيأتون تباعا، لقد لمحت سميح القاسم في زقاق قريب، و عبد الرحيم محمود، وفدوى طوقان هي وشقيقها إبراهيم، وسلمى الخضراء الجيوسي، وإدوارد سعيد وجبرا إبراهيم جبرا، وخليل حاوي ومحمد الماغوط وأمل دنقل،وأحمد فؤاد نحم..كلهم هنا في هذه الخرائب، كل ليلة نجتمع، نتكلم، نقرأ قصائد عتيقة ونختلف..وأحيانا نتخاصم ولكن نعود في الليلة التي تليها، بالأمس وصل الجدال حدا كبيرا ما بين إدوارد وعبد الرحيم...، انتظرهم سيأتون هنا، عادة نجتمع في مكان واحد. واليوم سنكون هنا.
قبل أن يكمل عبارته الأخيرة دخلت فدوى وإبراهيم، جلست عند ركن قصيّ، وجلس إبراهيم حزينا كئيبا، خلع نظارته ومسح زجاجها بطرف قميصه، دخل عبد الرحيم، كان محتدا جدا، صرخ بوجه إدوارد.أكملا نقاشا عن قضية ما. جاء بعدهم محمد الماغوط كان يبدو هرما مريضا، بحث عن سيجارة، وجلس وحيدا يدخن بصمت.
صباحا، وجد سلام نفسه يغرق بغبار كثيف وترسبات رماد من أثار الحرائق التي تنتشر في الكثير من الأمكنة، إذ كانت مداخل الخربة تجري فيها تيارات هواء عاصفة تحمل أتربة من الأنقاض القريبة، لوح التحضير يقبع قربه مغطى بطبقة كثيفة من الرماد، حاول أن يستجمع تفاصيل الليلة الفائتة، متى ذهبوا وهل ما حصل مجرّد حلم أم جلسه تحضير فوق العادة، هرع إلى الخارج كانت الوجوه التي غبّر العصف شعرها، تدور مثل نبال في اتجاهات مختلفة، لا أحد بينهم ينحني أو يبدو عليه الذعر، قصد خربة يعرفها جيدا، فتح صنبور الماء وغسل وجهه لمرات، شعر بالجوع يعضّ على معدته، لمح سيدة تملأ إبريقا صغيرا لمح قطرات من الدم تتجمّد على وجنتيها، وربما دمعة، سألها عن مكانها وماذا ستفعل بهذا الماء وحده. قالت له وهي تنظر إلى جهة ما: الحكاية القديمة نفسها. الأم التي تمهل أولادها بالماء الحار كان يود أن يقول إنه يعرف القصة..يعرفها جدا... لكنه سمع دويا مرعبا ركض إلى جهة الصوت، كانت بناية سكنية من ثلاثة طوابق تهاوت تماما بعد استهدافها. بدأ مع الجموع الهائلة التي جاءت مسعفة في الحفر في الأنقاض، حتى وصلت سيارات الإسعاف.حينما همّ بالرجوع إلى مستقرّه، وجد السيدة التي ملأت الإبريق تدور في الزقاق، وكأنها تبحث عن شيء، استوقفته سألت عن الناجين من العمارة، نظر في وجهها، ماتزال بقايا الدم المتجمد تستقرّ على وجنتيها، لا أظن إن هناك ناجين، الكلّ رحل!
عاد إلى الخربة، استلقى على ظهره، حاول أن يستجمع قواه أن يتحمل منظر أطفال جيّاع ينتظرون الفطور، بفارغ الصبر، تذكر كيس الذرة، الذي وجده بين الحطام، أخذه وهرع إلى الشارع لكنه لا يعرف مكان المرأة، ظل واقفا، سمع صوت انفجار آخر، لكنه بعيد، رأى ألسنة الدخان تتصاعد، أراد أن يركض كالعادة ليساعد الناس، لكنه تذكّر المرأة وأولادها، ظل يجول في الشوارع حتى قاربت الساعة التاسعة، فعاد خائبا، يحمل في يده كيس الذرة، حتى لمح سيدة أخرى تحمل حطبا، استوقفها وأعطاها الذرة من دون أن ينبس بكلمة واحدة.
في الواحدة ظهرا أشتدّ القصف، ركض إلى مواضع كثيرة، صار شارعهم عبارة عن أنقاض وأتربة ترتفع كلّ ساعة، في الخامسة عصرا حصل على كسرة خبز والقليل القليل من حساء الطماطم، أكل من غير شهية، رأى شجرة زيتون عالية، هو لا يعرف أنجح الطرق التي يتكاثر بها الزيتون، لكنه وجد الكثير من البذور، جمعها في كيس صغير وأخذها معه إلى البيت.
في المساء شعر بالبرد، جلب أخشابا من الأكوام الكثيرة التي تنتشر حوله، ملأ مصباحه الزيتي وأشعله، لكن الجوع والصداع ضيعا عليه التركيز إذ يلازمه وجع الرأس القتّال منذ أيام بسبب قلّة شربه للقهوة والشاي، ترك النار مشتعلة وخرج إلى الشارع المظلم، وجد الشجرة التي جمع من تحتها البذور وحيدة مثله، ربما جائعة وعطشى أيضا، بحث عن ثمار، فلم يجد، تذكر درسا قديما، يتكاثر الزيتون، بالبذور والعقل، لكن أي الطرق أنجح؟
في المحنة تبدو المدن المحاصرة قريبة من بعض، وكأنها مسافة حلمية لا وجود للزمن بها، ثمة أبواب تفتح، ومزاغل تمتد ما بين الجدران، هنا رائحة ماء البحر، وهنا أيضا رائحة الزيتون، خطوة ويكون الزمكان، الأزياء تختلط لا مكانية ولا موضة، هل لمح هاتفا نقالا بيد خليل حاوي وهو يجلس قربه، هل سمع شيرين تتحدث عن اجتياح قريب لبيروت، هل قرأ اسم بور سعيد، المدن تتشابه في لحظات المحنة، قرّب لوح التحضير، مسحه بطرف كمّه، لكنه أعاده لما شاهد المرأة التي استوقفها صباحا، قال لها بدهشة لقد بحثت عنك أحضرت لك ذرة. قالت المرأة بنبرة لم يألفها.لم نعد بحاجة إلى الطعام!!
جاءت فتاة شابة، جلست بهدوء قبالته، حاول جاهدا أن يتذكرها، عصر مخّه عصرا، أين ومتى، هذا الوجه المألوف، ثمّ قفز فجأة وتذكر رواية: (الأكسجين ليس للموتى)..أنت هبة أبو ندى؟
في تلك الليلة، دخل محمود درويش بنقاش حاد مع سلمى الخضراء الجيوسي، وانزوى أمل دنقل، وهو يردّد أبياته الشهيرة:
لا تصالحْ!
..ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما..
هل ترى..؟
هي أشياء لا تشترى
في الصباح تفقد سلام البيت، تأكد أنهم يرحلون بسرعة ولا يتركون أثرا خلفهم، فلا أثر لسجائر أمل ولا لكأس الشاي الذي شربته سلمى، ولا للرواية التي وضعتها ندى على الصخرة التي أمامه.
صباحا خرج إلى الشارع، الغبار الكثيف حجب الرؤيا، وأصوات الطائرات جعلت من المدينة جحيما مصغرا، لكنه ظل يدور في الأزقة والشوارع، يساعد من يحتاج إلى مساعدة.
المدن تتشابه، المدن المحاصرة، لكن قل لي كيف يتكاثر الزيتون وأيّ الطرح هي الأنجح في زراعته...الزيتون.