

لحن الضباع
أبغض الضباع، كما تبغضونها أنتم أيضًا يا أبنائي. رؤيتها تجعلني أقطع في بدني كالمسعور. في سنة مولدي؛ لم يكن في البيت والقرية والقرى المجاورة ضبع واحد. سُميَّت هذه السنة في تاريخنا بالمجيدة، حيث تمكن آباؤنا وأجدادنا بفضل الله من قتل الآلاف منها.
كانت خلائق قريتنا تبغضها وتعاديها كالذباب الأزرق جلاب سوء الحظ، وتنانين الجبل المشؤومة التي لم نرها منذ عشرين ألف سنة، والثعابين الخضراء التي تقطن جحور بيوتنا.
كل الشيوخ الذين تواردوا على منبر جامعنا الوحيد، كانوا يلعنونا ويسبونا لكرهنا الضباع. أول خطبة جمعة حضرتها في حياتي، وكنت في سن الثامنة مثلكم، أدَّاها شيخ جليل من المدينة الكبيرة وظفته الحكومة كي يثنينا عن قتل الضباع. شتمنا هذا الملعون كثيراً ونعتنا بالهمج. صبرنا عليه حتى أنهي خطبته وصلي بنا، ثم قتلناه وصلبناه على باب الجامع.
الشيخ الثاني الذي تعاقب على منبرنا تكلم معنا برقة، إحقاقًا للحقيقة. قال إن الضباع هي الطوافات التي كان يستبشر بها الرسول الكريم والصحابة، وأنها جلابة للحظ وللسعادة، وأن الخير معقود في ذيولها، وأن الله يحبها بشدة وللغاية وكثيراً كثيراً، وأنها الجنس المبارك من الحيوانات، وأن من يكرهها سيحترق في جهنم وستعذبه الزبانية كل يوم بالضرب على رأسه بسلاسل من نار أشد عتيًا من نار البركان الخامد في ظهر قريتنا. وأكد لنا إن هوس الضباع بنبش قبورنا وتناول عظام أجدادنا هي خدمة عظيمة للبيئة وأن الأبحاث العلمية أثبتت أن أجساد الموتى تلوث الأرض الطيبة التي تعطينا القمح والشعير والتمر والتين والزيتون. قال إنه يفهم موقفنا وأحاسيسنا ومشاعرنا ولكن "لا مشاعر تصمد في مواجهة الحقائق".
قال كلاماً آخرًا لم أتبين أوله من آخره؛ فشباب القرية ورجالها ونساؤها وأطفالها وشيوخها أنزلوه من المنبر وكسروا ذراعيه وساقيه، وهشموا عضوه الذكري حتى لا ينجب ولدا ملعونًا يحب الضباع.
ربما الكلام الذي قاله لعنات أو شتائم أو استجارة بالله -عز وجل- من قسوتنا. ربما الكلام الذي قاله له علاقة بالضباع. ربما شيء آخر، ربما. من يعرف، الله وحده يعرف.
بعد هذه الحادثة؛ لجأت الحكومة إلى إجراءٍ آخر. أتت لنا بعلماء آثار وتاريخ وطبيعيات مشهورين، أبلغنا هؤلاء أن أجدادنا، عندما كانوا كفارًا، أحبوا الضباع وكرموها وعبدوها.
تخيلوا أنهم قالوا هذا!
وأضافوا أنه لهذا ثروة البلاد من الضباع النادرة تتركز في قريتنا وتسكن أطرافها ومداخلها السرية رغم بطشنا بها. وأن هذه الضباع النادرة التي يقدر ثمن الواحدة منها بمليار دولار متعلقة بنا وبقريتنا بسبب المحبة القديمة التي تنتقل إليها عن طريق الجينات.
هل تدرون ماذا فعلنا بهؤلاء العلماء يا أبنائي؟
بالطبع عائلاتكم المجيدة والوطنية أخبرتكم، وإن لم يفعلوا، تستطيعون أن تفتحوا مواقع الإنترنت وترون صور وفيديوهات العلماء العارية الدامية، لقد وبخناهم بقسوة أصيلة تليق بما قالوه، ثم خلعنا ملابسهم وطاردناهم حتى خرجوا من القرية لتلتقط عدسات وسائل الإعلام المحلية والعربية والأجنبية ما حدث.
– لماذا فعلنا بهؤلاء الكذبة أبناء الكذبة أحفاد الكذبة هذا الفعل يا أبنائي الطيبين؟
– نعم هذا صحيح.
لأنهم أرادوا يجعلونا نحجم عن رغبتنا المستعرة في قتلها طمعاً في بيعها للأجانب المهاويس بها. إياكم أن تنخدعوا بهذا يا أبنائي، ثروات كوكب الأرض وكنوز كوكب المريخ لا تعدل تلك الرغبة العميقة في ردها عن قبور أجدادنا.
إياكم أن تتخلوا عن قتلها ولو سحركم جمال هذا النوع من الضباع البيضاء كالحليب البقري، أو ذاك النوع من الضباع السماوية التي يشبه لونها لون ماء البحر الأحمر ولون السماء. اقتلوا هذين النوعين كما تقتلون الأنواع الأخرى من الضباع الحمراء والسوداء الكئيبة.
وعندما تقتلوها لا تعطوها شرف الدفن، لا تقعوا في بئر الخطيئة الذي وقعت فيه عندما قتلت زوجين من الضباع البيضاء. كنت حينها في سن السادسة، حفرت لهما حفرتين أمام بيتي، من دون علم أبي وأمي طبعاً. أودعتهما بداخل الحفرتين برقة مفرطة، تليق بقلب محب للنبل مثل قلبي آنذاك. قدمت رأس الذكر قبل ذيل الأنثى، متأسيا بأمي في دفنها لدجاجها المتنيح. ردمت عليهما واعتدلت للرجوع.
وقتها؛ أنار قلبي بالإيمان بشيء غامض لا أعرفه. بعدها بعشرين سنة، عندما أصبحت في سن السادسة والعشرين، عاقبني الله على هذه الفعلة أشد عقاب عندما توفي المغفور له أبي. ليلة موته؛ أغلقنا عليه الغرفة. وبعد شطر من عويل النساء ورثائهن الذي يليق ببطل مثله حرس عظام أبيه وجده سبعين سنة من أسنان الضباع، دخلت عليه؛ فوجدت يديه مقطوعتين، ودورقه الذي يشرب منه "الخشاف" فارغاً!
كيف؟ كان ممتلئاً منذ قليل!
طرح الأسئلة فات وولى، بعد أن رأيت ضبعين يجوبان السقف جيئة وذهاباً، ثم يطيران من النافذة ذات الهواء الصيفي الطيب. اكتشفت أن الوضيعين أكلا من يدي وقدمي أبي حتى شبعا. كتمت شهقة غضبي بعنف، لم أرد أن أعلم الجميع الذين يبكون البطل بالخارج أن المخلوقات اللعينة دنست جسد جزارها، خفت من تكسر صورة الأسطورة التي أضفوها عليه.
اسمعوا كلامي يا أبنائي وتلاميذي الأعزاء، ولا تقولوا كلام رجل أكلته الشيخوخة وتبرزته، صحيح أن هذا صحيح، صحيح أن هذا العالم يتكسر في رأسي عندما أضعها على وسادتي كتكسر العقارب الميتة المتيبسة عندما نطوحها في مواقيد النار. صحيح أن المرض يصرعني بانتظام مبسم كل خريف وشتاء وصيف وربيع. إلا أن هذا الرجل الواقف أمامكم لم يتوقف يوماً عن رغبته في قتل الضباع، وها هي الضباع تقتله باختيار بيته قبراً لموتاها. أنتم تعرفون أنها تكاثرت في قريتنا الآن بدعم من حكومات وشعوب العالم، لماذا بيتي؟ على الأرض، وبالأرض عشرات الساحات الخربة والعامرة بالأحجار والفراغ. على الأرض ملايين القري التي تستطيع هذه المخلوقات اللعينة أن تعيش وتموت فيها بدلا من قريتنا. اسألوا أنفسكم هذا السؤال الذي لن تجدوا له إجابة إلا الإجابة الصحيحة والتي تقول أن الضباع هي أعدائنا من المهد للحد.
بالأمس صحوت على ضبع لعين يتفحص وجهي، كان يتفحصه قبل أن يأكله بادئًا من الغمازتين، وأنتم تعرفون يا أبنائي أنه من دون غمازتين وجهي سيتعكر، من دونهما سأموت موتا عبثياً. أنجاني الله وقتلت الضبع اللعين المدعوم من حكومتنا وحكومات الأمم المتحدة.
فكروا في كل كارثة حدثت لنا ستجدون أن الضباع هي سببها، مثل محاولة حكومتنا تهجيرنا من قريتنا وإعلانها محمية طبيعية للضباع العالمية النادرة، صحيح أن هذه المحاولة فشلت، ولكن الحكومة بعدها استعانت بقوة حفظ سلام من الأمم المتحدة لحفظ السلام بيننا وبين هذه المخلوقات الشيطانية. وها أنتم ترون هؤلاء الجنود الحمر والصفر والبيض في جياتكم وروحاتكم من مدرستكم وحقولكم وجامعكم وبيوتكم، ترون كيف يداعبون الضباع ويتصورون معها ويرسلون الصور لعائلاتهم في دولهم الملعونة. وفي نفس الوقت، يفرض هؤلاء الجنود قوانين علينا وعلى حريتنا وعلى رزقنا لضمان أمن الضباع. والغريب أن حكومتنا تساعدهم على هذا، وتنادينا بالتعايش مع الضباع. إياكم يا أبنائي أن تتأثروا بالصراخ والوعيد والنبذ والتبكيت، أو تشعروا بالمحبة والشفقة على هذه المخلوقات. استمروا في قتلها، ولو بطريقة سرية، التزموا بقوانين أجدادنا. ولو لم نر الحرية، سيراها أبنائكم أو أحفادكم أو أحد له علاقة بذريتكم، طال الزمن أو قصر.
انتهت الحصة، وانتهي يومنا الدراسي، عودوا إلى بيوتكم، ولعن الله الضباع. آمين.