الجمعة ١٣ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٦
بقلم محمد دلة

للفلسطيني اسم واحد

قراءة في قصيدة حناء النخيل للشاعر رياض حتاوي

تعب الفتى من زحام الأسماء، وما زال يحلم أن تناديه الكروم باسمه الأول مغفلا من عناكب المنفى ومن جبروت صفيح يصطك في غبش الذاكرة.

وما زال الفتى أسير أمنيته البكر أن يعارك فتيان الحارة ويوسعهم شتائم نابية دون أن تثرثر الجارات "انظروا ماذا يفعل الفلسطينيون".

وبعناد وعل لم تروضه قيود التجربة ولم تعبث بتدفقه الفضي تقرحات الحكمة، يشهر سنبلة الدم ليحني النخيل هازئا بما دلقته طحالب الجرائد وفتاوى المحطات الفضائية التي تتثاءب بنعاس فجورها وغلمة زماريها.

حناء النخيل بكائية تتقطر عند مصب أفراسه النارية تغسل وعورة الجهات من حوافر الغزاة، لقد اختار الفتى بحكمة الزنبق أن يعرش فوق صهيل الأسماء ويكون شهيدا، فأي موسم من الحروف يلم به حتاوي غمار حناء النخيل.

شعرية العنوان واش يجاهر بغواية القصيدة، والشهادة حال تسام يقف على روافع الحكمة والسمو والكبر والتفاني وعمق الانتماء وجمالية الانحياز المستنير لصوت الأنا الجمعي يتلمس وسط تضاريس المجزرة فرحة الميلاد، ومحاولة العبور إلى ما خلف حفيف ستائرها.

تستدعى شحن أقصى طاقات الظواهر الكونية وأعلى التوليفات اللغوية توترا للترمز حجرا نورانيا في قبتها الخضراء، وهذا الذي وظفه شاعرنا حيث عبر عن الشهادة بأعلى ذروات الفرح حيث الحناء الذي يتوج فوعة العرس بالدفء والكبر والحنين، وجمر الحناء بالنخيل، أعلى شجر في سدرة الأسماء، الفارس الذي تفتقد جذوره رعشة الماء في حلكة الأرض فيمد ساعديه ليدني جرار السماء.

في المقطع الأول من القصيدة التي اتخذت شكل ثلاث متواليات سردية تتصارع الدلالات باتجاه تأكيد صيرورة الفعل والرؤية ضد كل منتجات الواقع التي مهما اتسمت بالثبات فإنها آيلة للانفجار والانهيار أمام خلود المتحول الثوري فنرى أن الشاعر قد وازى بين مفرداته عبر خطين متصارعين :

تضيق - ساحات الشتات

الزقاق - نباعد الجدران

اللعب المبعثر - تنمو

كرة تدور - تموج المنفى

الزقاق - يلد

أحلامنا خلف الأفق - نكبر في الدروب

وتضيق ساحات الشتات على شقاوتنا

فنلهو في الزقاق

نباعد الجدران

تنمو فسحة اللعب المعثر مع تكاثرنا

على جرس الخطى

ويكون فيما بيننا كرة تدور بنا

وفي حدقاتنا

كرة تدور

تموج المنفى فندرك سره

يلد الزقاق فيالقا

تلج السنين

نبارك الأحلام

نسال عن بقايا أهلنا

عما تبقى من وطن

المساران يصطدمان، ظواهر سلب تأخذ شكل الجملة الاسمية المغرقة في الثبات والكلاسيكية، بينما ظواهر الإيجاب تتجلى عبر صيرورة الفعل المضارع بانحيازه نحو إرادة التغيير، إرادة هز الثابت وكسر المعقول والماورائي نحو حداثة الثورة وجماليات تفجرها لتكنس ما تعفن من يقين وتابوهات.

وبعد هذه المقدمة الجدلية العرفانية يدخل الشاعر مسار سرد الشهيد بأناة الفردية المعبرة عن خلاص الجماعة، فرامز بعد أن انحاز لنلك الصيرورة، يكتب مانفستو التغيير بحناء دمه، يلقي حقيبته فوق الشاطيء البعيد بحركة سينمائية وتقف خلف الحركة وعورة المنفى، ويؤاخي ما بين العواصم منطلقا من باحة عمارة الهندية في بغداد هازئا بالحقيبة ويرفع رايته مهيئا سلم المجد، يوقظ النجمات التي ارتدت كل عذابات العاشق الأزلي وكل طقوس التشرد، وبفيض المخيم الذي حين تنوس به مصابيح الكاز يفيض دفئا وحنين ومواعيد كروم.

ورامز لم يعد يطرب للقصائد والحكايات، فلقد صار القصيدة والصهيل جريح، يلم الصراخ بصمته ويعيد للكلمات بهاء الحلق والتكوين.

ولأنه إسراء الضلوع ومعراج التذكر يرى ويحدث عن نبوءة الجرح والشهادة، ويرى ما علق بسلم المجد من غبار.

فيصبا جسده معلنا حربه فيدق باب السماء كبراق حرون وتتنزل وصيته الأخيرة

نفض الندى عن عمره

وتلا خطاب الشمس

للشرق يمم وجهه

قالوا اتبعوا حدسي

فاني من رأى فيكم خيولا

للنخيل جيادها ترنو

تنز دماؤها بالباس

قال اتبعوني إنني ماء الفرات وماء دجلة في زنودي

والنخيل بقامتي ينمو

ليكون القادم الآتي لنا وللمتخاذلين الأمس.

لغة تحمل ما أرادت من معان شكلا ومضمونا وفقها لغويا، فخطاب الشهيد تجلى عبر `صورة الملهم الديني أو السياسي أو البطل الملحمي التاريخي الذي أفرزته الضرورة، فهو وحده من رأى

فاني من رأى فيكم خيولا

للنخيل جيادها ترنو

تنز دماؤها بالباس

وكانت الرؤية معادلا موضوعيا للقيادة، وبعد أن اكتملت الرؤيا بالاستشهاد صار تفرده بالقيادة مبررا تماما.

وجاءت العبارات جملا اسمية مشفوعة بالتأكيد وخبرها بالغالب جملة فعلية مضارعة ليؤكد رؤيته واستمرارها عبر درب الانسجام الذي أعلنه تنظيرا وتوجه باستشهاده. وقال اتبعوني...

هذا البطل لم يكن شهيدا بالصدفة، فهو من رأى، ولم تكن رؤيته رومانسية ضبابية، بل كان علمي النظرة منحازا للقوى الواعية مدركا متلازمة الثورة وأضدادها ممن ينسلون من عرباتها نزوحا لمصالحهم أو جبنا من أهوال طريق الحياة الذي وان كان سراجه بائس الفتيل فإن في خيوطه خلاص كل المتعبين.

تلوت سياط اللقاء الأخير

وكنست أحلام زيف الليالي

لأبعث بين يدي/يديك

صراخ الحقيقة

إن الجباه اللواتي انسكبن

على صدر أحلامنا ذات يوم

يخن الجذور

وتدخل القصيدة متوالية السرد الثالثة عبر أًُم تقلب البروق، وقد حملت إليها حنطة ابنها وقد ثقلت بمروج النور الذي قام وفيا بارا حد الالتحام، فلقد تقمص وجه أمه وشكل على آثار خطاها نرجس الدرب وصوب مشعله الدائم الخضرة نحو وصاياها لمتزودي باحة الهندية فاشتعل دمه شموسا تطرز ثوبها المحمر كحنونة الوادي وسار خيطا من حنين مع تعرجات أكمامها ومع انسدال النقوش على ثوبها المطرز بفرحتها الأولى وبآخر دموعها.

تسمو برفق بين كفيها بريق وليدها

نقش الزهور على الثوب المطرز بالرجوع

إلى البلد

هذي سنابله

وهذا عنقه الممشوق

هذا ساعدي أو ساعده

ما عدت ادري أينا اختار الطريق لكنها نفس الخطى

وتسارعت خطواته

مهلا بني.."همست"

لكنه عرف الطريق

وكان يعرف ما يريد

قد كان أول فرحتي

وآخر الدمعات لي

كانت عليه

اتخذ بوح القصيدة السردي مسارا مثلثيا بين صوت الكورال الجماعي في المقطع الأول، وخطبة وداع الشهيد التي أتم فيها كل شيء، وبين لقاء الأُم

بلفائف البروق ليبقى صوت الكورال هو الأعلى والأغنى فنيا بالدلالات والرؤية مما اضعف حبكتها الروائية التي كانت تقتضي أن يكون البوح الأعلى "لخطبة الوداع التي أتمت كل شيء "وجاء المقطع الثالث أقل نضوجا من الناحية الفنية من المقطعين الثاني والأول ورغم خصوصيته وقدرته كموضوع على حمل كل عناقد الحزن والفقد الواعي المضمخ بالدمع والرؤية.

ورغم وحدة الحال الذي تمد إليه القصيدة عرائشها إلا أن القصيدة ظهرت وكأنها ثلاث مشاهد كولاج تستشرف موضوعا واحدا، ولكن بإنقطاعات فراغية تصطدم امتداد المتلقي.

وعلى صعيد الصور الشعرية فقد تميزت القصيدة بترابية الصورة وكأنها ثوب مطرز يحمل في جنباته وذاكرته الحركية كل صور الحياة العربية الفلسطينية، فهي ابتعدت عن الغرائبية العقلية لصالح صور حسية ثرة البعد والتجربة، فأي بعد مجازي، وأي غائر لا تكشفه

وصهيلنا فرس جريح.

وكم تختزل من فرح وحزن صورة الفتى الذي نفض الندى عن عمره وتلا آيات الشمس

ومن ناحية شكلانية كان بإمكان القصيدة أن تثري نفسها أكثر بتساوي المقاطع وتوازنها وبخط نظامي هندسي للقوافي يزيدها تألقا وبهاء وحفرا في ذاكرة المتلقي.

قراءة في قصيدة حناء النخيل للشاعر رياض حتاوي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى