الخميس ٢٥ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٧
بقلم عادل الأسطة

ليلى الأطرش في " مرافئ الوهم "

" مرافئ الوهم(2005) هي الرواية الأخيرة للكاتبة ليلى الأطرش، الفلسطينية الأصول، المقيمة حالياً في الأردن. وكانت قد أصدرت روايات عديدة، عدا مجموعة قصصية.
وفي حوار معها، أجراه زياد العناني، نشر في جريدة الغد الأردنية تقول الكاتبة إنها استفادت في كتابة روايتها هذه كثيراً من تجربتها في الإعلام المرئي، وطرحت قضايا النساء العاملات فيه، وأنها تجاوزت الكثير من المسكوت عنه في الجنس والدين والسياسة، كما أنها اعتنت كثيراً باللغة، لتبدو لغة شاعرية آسرة. وترى الكاتبة أيضاً أنها أرادت أن تقدم شيئاً جديداً وغير مطروق.

وتأتي ليلى في المقابلة على عملها إعلامية في التلفاز، حيث عملت معدة برامج، ومقدمة لها، برامج سياسية وثقافية حقق بعضها، مثل برنامج : فكر وفن "، شهرةً واسعة، لأن اتحاد الإذاعات العربية وزعه على عدة تلفزيونات عربية.

رواية " مرافئ الوهم "، رواية تجري أحداثها في لندن. يغادر فريق تلفازي تابع لتلفاز دولة الإمارات العربية إلى لندن، ويضم مجموعة من العاملين أبرزهم شادن الراوي من أصول فلسطينية، وسلاف العراقية، وسيف العدناني المخرج الإماراتي، يغادر الفريق لتصوير حلقة مع الفلسطيني الكاتب والمحلل السياسي كفاح أبو غليون.

وتكون هناك علاقة قديمة، تعود إلى خمس وعشرين سنة، بين شادن الراوي وكفاح، بدأت يوم أرادت شادن أن تكتب وتنشر في الصحف المقدسية، وكان كفاح عاملاً في إحداها، ولما التقى شادن أحبا بعضهما، لكن هذا الحب لم يثمر لاختلاف الدين، فهي مسلمة وهو مسيحي، ولم يمتلكا الجرأة الكافية لتحدي المجتمع، وهكذا سار كل في اتجاه، هو تزوج من غيرها، وهي تزوجت من محام زواجاً سرعان ما انتهى بالطلاق، لأنها ضبطت زوجها مع امرأة أخرى.

ويبدو أن حب شادن لكفاح لم ينته، فقد شقت طريقها في الحياة، وأرادت أن تنجح من أجله " هل خطر لك في فراق السنين أنني كنت أنجح من أجلك؟ أتميز لتعرف. أشتهر لعلك تسمع "(ص22). وحين تأتي الفرصة للقائه، من أجل إنجاز برنامج تلفازي عنه، هو الذي غدا مشهوراً تنشر مقالاته في صحف عديدة في يوم واحد، تتهيأ للقائه، فترتدي من الثياب أجملها، وتشتري من العطر ما يفتح الشهية: " وستكتشف حين ألقاك أنني تجملت لك حتى بالغت "(ص12). وهي لا تدري بالضبط إن كان اللقاء سيكون مثمراً، فقد يؤدي إلى نتيجة معكوسة، ومن هنا نجد شادن تتساءل: " فهل يعمق لقاؤنا شعوري بخسارتي لك؟ "(ص13).

وهذا ما سيكون. ستعود شادن إلى الإمارات وعملها، وقد تعمقت خسارتها لكفاح الصحفي الانتهازي الذي يبيع قلمه لمن يشتري. هذا ما تقوله الرواية، وهذا ما تقوله ليلى الأطرش في المقابلة المشار إليها. تقول في المقابلة:

" فالشخصية الأولى تكتشف أن الرجل الذي أحبته المرأة هو صحفي باع قلمه لمن يدفع أكثر "، ونقرأ في الرواية ما تقوله شادن لسيف عن كفاح: " كنت صغيرة. رأيت فيه أحلامي بالشهرة والعمل الإعلامي. أتدري يا سيف، من أحببته هو شخص آخر غير هذا. تغيّر كثيراً. لم يبق منه إلاّ أناقته "(ص145).

وربما يجعلنا ما سبق نتوقف، ابتداءً، أمام دال العنوان، قبل الخوض في أمور أخرى.

العنوان والنص:

تذهب شادن إلى لندن، وتتهيأ للقاء رجل أحبته منذ خمسة وعشرين عاماً، وهي تدرك، ابتداءً، أن هذا الرجل تغير فكرياً، ولكن يبدو أنها ما زالت تؤمن بقول أبي تمام، دون أن تذكره:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلاّ للحبيب الأول

ويتأكد، في لندن، اكتشافها أن الحبيب الأول – أي كفاح أبو غليون – هو شخص آخر، ولم يبق منه سوى أناقته. وهكذا تكون مدينة لندن هي المرفأ، ولكنه مرفأ وَهْمٍ ليس أكثر.

وهناك أدلة عديدة داخل النص تقول لنا إن هذا هو ما يرمي إليه العنوان. ينتهي الفصل الأول من فصول الرواية السبعة بترك شادن إجراء اللقاء وإتمامه مع كفاح، وهذا الفصل على أية حال هو الفصل الذي نتعرف فيه، من خلال شادن، على كثير من تفاصيل علاقتها مع كفاح، في الزمن الماضي، أيام تعارفا في القدس. لم تستطع شادن إتمام اللقاء، ولم يكتمل التصوير، تماماً كما أن لقاءهما الأول لم يتم، وانتهى بأن سار كل في طريق.

تصاب شــادن، حين يعرّفها كفاح على زوجته نهاد، بالصدمة ونصغي إليها تقول: / تخاطب نفسها / أخرها:
" كثيراً ما تنتهي بك الأحلام على غير ما تتوقع، تخذلك. طويلاً تخيلت أن تلتقيه بصدمة من ثنايا المجهول فيذكر، ويحضنها، ثم تلقي برأسها على كتفه، فيتجدد الهوى وينتفض من رماده.
ويدفعه القدر فلا يبدي أسىً، ويحضر زوجته مفاخراً "(ص110).

وحين تهاتف شادن كفاح، وهي على وشك مغادرة لندن، لتطلب منه أن يهتم بصديقتها وزميلتها سلاف التي اضطرت للبقاء في لندن لتقف إلى جانب جواد مطلقها، لإصابته بشلل جزئي، يعقب السارد على حالة شادن:

"وضعت السماعة، وما زال صوته في أذنيها مصدوماً بخيبة أمله من اتصالها" (ص136) تماماً كما يعقب السارد على ما توصلت إليه شادن، بعد لقائها مع كفاح، وتأكدها من أنه تغير:

" تضحك لصورة حب وشبح تملكها طويلاً. هزت رأسها أسفاً على حلم فيه تبدد وضاع "(ص146).

يتبدد الحلم ويضيع، ويكون اللقاء مزعجاً مربكا، ولا يجدي الاستعداد له. لا اللباس ولا العطور ولا الحوار ولا الماضي ولا شهرة كل منهما جدّد، في لندن، حباً مضى. لقد كانت لندن مرفأ من مرافئ الوهم العديدة، مثلها مثل القدس.

رواية السيرة أم ...

تتحدث ليلى الأطرش عن روايتها وكتابتها في اللقاء المشار إليه، وتفصح، إلى حد ما، عن مدى إفادتها من سيرتها وتجربتها في بناء روايتها. هل الرواية هذه رواية سيرة أم أنها ليست كذلك؟ وما مدى حضور ليلى في روايتها؟ يرد في المقابلة:

" بداية لا يمكن فصل الكاتب عن خبراته المتراكمة، ولكن الأبرز في كل هذه الخبرات المكتسبة هي الطفولة، ومن هنا يكون بروز الزمكانية الأولى عادة في معظم أعمال الكاتب الأولى، ثم يتجرد الكاتب ويبدأ بالبحث عن تجارب الآخرين ". وتضيف: " شخصياً لم أعد أسيرة للزمان الأول ".

وهذا ما يتحقق، على أية حال، في هذه الرواية التي ليست هي الرواية الأولى للمؤلفة، فقد أصدرت ليلى من قبل روايات عديدة هي " وتشرق غرباً " و " امرأة للفصول الخمسة " و " ليلتان .. وظل امرأة " و " صهيل المسافات "، وربما تكون سيرتها برزت في تلك الروايات، أو هكذا يوحي لنا رأيها. غير أن ليلى تحضر قليلاً في هذه الرواية، تحضر طفولتها، ويحضر ما هي عليه الآن، ولا نعرف الكثير عن حياتها ما بين السادسة عشرة من عمرها والأربعين. ولا يبدو الحضور الأول في الرواية لشخصية شادن التي قد تتلاقى والمؤلفة وقد تختلف عنها. وسيكون الحضور النسوي لسلاف العراقية التي نعرف عنها الكثير. ولئن كانت المؤلفة قالت في اللقاء إن كفاح أبو غليون هو الشخصية الأولى في الرواية، فإنه يمكن القول إن سلاف حاضرة حضوراً لافتاً يوازي أيضاً حضور كفاح، لدرجة لا نجافي الحقيقة حين نزعم إنها الشخصية الأولى.

حقاً إن الرحلة إلى لندن هي من أجل إجراء مقابلة مع كفاح، وهكذا يكون هو المحور، إلاّ أننا نعرف عن سلاف الكثير الكثير، ونصغي إليها تقص وتتحدث ربما أكثر مما يقص كفاح ويتحدث، وقد يكون القول الفصل في هذا متابعة الفصول السبعة للرواية، وملاحظة مدى حضور سلاف قياساً إلى حضور كفاح التي تحضر أكثر مما تحضر شادن الراوي ذات الصلة بكفاح. وهذا، على أية حال، ما تؤكده الكاتبة نفسها في المقابلة. لقد قصت عن شادن في الفصل الأول – أعني إنها تركتها تعبر عن نفسها – ثم تركت المجال، بعد ذلك، واسعاً لسلاف لتقص قصتها، ولتترك الآخرين يقصون عنها، وفي الفصول التالية للفصل الأول تحولت الرواية إلى رواية سلاف، لا رواية شادن وإن ظلت هذه الأخيرة ذات حضور.

هنا يمكن أن نثير السؤال التالي: ما مدى حضور الأطرش نفسها في روايتها في شخصية شادن؟

تركز ليلى الأطرش في المقابلة التي أجريت معها على أنها تميل إلى اللغة الشاعرية في أثناء كتابة الرواية، وشادن مثلها مثل ليلى كاتبة روائية أصدرت روايتين من قبل ركزت فيهما على اللغة، وهذا ما لاحظه كفاح وهو يعبر عن رأيه في روايتيها:

" سيدة شادن، قرأت روايتيك، أعجبتني الثانية كثيراً، فيها شاعرية واضحة مع اعتناء شديد باللغة وجماليتها. هل تكتبين الشعر "(ص110).

وليست اللغة الشاعرية وحدها هي ما يشير إلى ما هو مشترك بين ليلى وشادن. هناك
المكان الأول أيضاً: القدس. غير أن ليلى تقدم في روايتها، على لسان سلاف، ما يرفض مثل هذا التفسير، وسلاف، مثل شادن، تريد أن تكتب رواية، وحين تضيق بتحدي ابنتها أمل لها تخاطب الأم ابنتها:

" لا يكتب مؤلف ما يعيشه ويتحدث فيه فقط، وإلا صار سيرة ذاتية، ولا يمكن إسقاط نص على صاحبه. قد أكتب عن مجرم أو ساقطة أو مجنون، فهل أعيش تجاربهم لأنقلها؟ وما أريدك أن تفهميه أن التجربة الشخصية ليست الأساس الوحيد لخبرات الكاتب، بل تماسه مع الحياة وفهمه للطبيعة الإنسانية "(ص127).

وهذا الكلام يشبه كلام ليلى الأطرش نفسها، ما يجعلنا نتساءل: أين هو كلام الكاتبة نفسها؟ وأين هو كلام شادن.، بل وأين هو كلام سلاف؟ أم أن ليلى الأطرش، مثل جبرا إبراهيم جبرا، توزع نفسها على شخوصها.

هنا سأشير، بإيجاز، إلى رواية الكاتبة " ليلتان وظل أمرأة "(1998). ولكن قبل ذلك سأتوقف أمام بعض تفسيرات كلمة (بنية ".

تعني كلمة " بنية " " الصلة بين ". ولتفسير هذا المعنى يقتبس الناقد الروسي ( يوري لوتمان ) من الروائي (تولستوي ) الرأي التالي حول خاصية النصوص الفنية: " إنها متاهة من التداخلات اللامحدودة التي تشكل جوهر الفن .. ومن الضروري أن يكون هناك أناس يقودون القارئ إلى هذه القوانين التي تبني أساس هذه التداخلات ".

ولما كان البنيويون لا يراقبون المستويات الجزئية في عزلتها أو في توحدها الميكانيكي، وإنما يحددون ارتباط المستويات تحت بعضها البعض ويبينون صلتها بالبنية الكلية، فقد لجأ الناقد الفرنسي ( ميخائيل ريفاتير ) وهو يدرس قصيدتين للشاعر ( بودلير ) إلى أن القصيدة الثانية تمتلك بنى رابطة متممة – أي إن هناك صلة بين القصيدتين، وأن هناك تأثيراً متبادلاً متميزاً ".

وانطلاقاً من هذا أرى أن البحث في رواية " ليلتان ... وظل امرأة "، سيقول لنا إن بعض ما ورد على لسان سلاف، لا على لسان شادن فقط، هو ما يرد على لسان ليلى الأطرش نفسها. وربما أسوق هنا ثلاثة أمثلة فقط تقول لنا إن الروايتين هما نتاج مؤلف واحد هو ليلى، وأن ثمة صلة رابطة بينهما.

المثال الأول: بنية الرواية، وأقصد هنا بنية الزمن. تجري الروايتان في مكان آخر غير الذي نشأ فيه أبطالهما، في فترة زمنية محددة، هي ليلتان / يومان، ويسترجع فيه الأبطال ماضيهم، ويتحدثون عما ألم بهم بعد تلك المدة.

المثال الثاني: يكون الأبطال أسرى هذا الماضي، ويحنون إليه هروباً من حاضرهم الذي يتسم بالخيبة. ويغدو بحث هؤلاء بحثا عن الوهم. المرأة هي ظل المرأة. والمرأة تبحث عن ماض فتصاب بالوهم. تفقد آمال عادلاً، كما تفقد شادن كفاحاً، وكل من الاثنين: عادل وكفاح، يظفر بامرأة أخرى، فيم تعيش آمال وشادن وحيدتين مطلقتين.

ثالثاً: إن ما تشعر به مُنى، بعد الولادة، هو ما تشعر به سلاف العراقية بعد الولادة: حالة الاكتئاب. وما يرد على لسان منى في " ليلتان .. وظل امرأة " هو ما يرد على لسان سلاف في " مرافئ الوهم ".

ولا أريد أن أتوقف أمام الخطأ النحوي نفسه الذي وقعت فيه شخوص الروايتين، وهو عدم جزم جواب الطلب، أو جواب الشـرط المحذوف. ( دعيه ينام )(ص177) و " دعيني أرى "(ص124).

البنية السردية في الرواية:

تتكون الرواية من سـبعة أجزاء، يتصدر كل جزء رقمٌ معينٌ لا عنوان فرعي، وتكاد الأجزاء تتقارب حجما (3-31/32-57/58-76/77-93/94-111/112-131/132-148) ( طبعة دار أوغريت / رام الله، وهي تختلف عن طبعة دار الآداب بيروت، إذ تبلغ الأخيرة 176 صفحة ).

ويتعدد السارد في الرواية ويختلف، كما يتنوع السرد ويتباين، فمن سارد مشارك إلى سارد كلي المعرفة غير مشارك، ومن سرد بضمير الأنا، حيث تتحول الرواية إلى رواية ترجمة ذاتية، إلى سارد بضمير الهو، حيث تغدو الرواية رواية تقص عبر ضمير الهو، إلى سارد يوظف الضمير الثاني: الأنا/ أنت، وهذا الأسلوب هو الذي يغلب على الجزء الأول.

وفوق هذا كله يتعدد الساردون في الرواية: من شادن إلى سلاف، إلى سارد غير محدد الملامح كلي المعرفة.

وإذا كان الساردان الأولان: شادن وسلاف، مقنعين، فإن الأخير يبدو سارداً غير مقنع لأنه، خلافاً للسارد المشارك، يقص عن أشياء لا يكون حاضراً فيها، ويقص عما يجري من حوار بين شخوص، دون أن يكون موجوداً بينهما، ويبدو هذا جلياً في الفصل الثاني، كما يبدو في مواطن أخرى من الرواية. إنه هو الذي ينقل لنا ما جرى من حوار بين كفاح وسيف، حين كانا وحدهما يتناولان طعام العشاء، ولا يكتفي بذلك، إذ غالباً ما نعرف أنه خبير بخبايا النفوس. وربما احتاجت الكتابة عن البنية السردية دراسة مفصلة خاصة. هنا سأكتفي بتتبع بنية السرد في الفصول الثلاثة الأولى، بإيجاز.

نصغي في الفصل الأول إلى شادن الراوي، هذه التي تذهب، بعد ( أوسلو )، مع فريق تلفازي إماراتي، إلى لندن لتصوير حلقة عن الكاتب الصحفي اللامع الفلسطيني الذي اختلف، بعد بيروت، مع الثورة وأخذ يهاجمها، ربما لأنه يقبض من دولة عربية.

تخاطب شادن كفاحاً في غيابه، وتحاوره حين تلتقي معه، ونتعرف، من خلال ذلك، على قصتها القديمة مع كفاح، وإلى ما آلت إليه. هكذا، وهي في لندن، بعد ( أوسلو )، تعود بنا، عبر الاسترجاع، إلى ما قبل العام 1967، إلى مكان آخر هو القدس. ونحن هنا أمام شادن، وأمام كفاح الشاب، وكفاح بعد 25 سنة. أمام اثنين لا أمام كفاح واحد فقد تغير، وغدا شخصاً آخر.

ولكنّ شادن التي تخاطب نفسها تارة، وكفاحاً طوراً، تقص أحياناً عن سلاف العراقية. هنا يغدو القص، كما لو أنه عبر ضمير الهو، وإن كانت أنا السارد المشارك هي التي تقص. ويبدو السرد هنا مقنعا، لأننا أمام ذات تعرف نفسها وتعرف الآخرين الذين تقص عنهم.

وحين نتتبع بنية الفعل المستخدم هنا من شادن نلاحظه: المضارع والمضارع الدال على المستقبل وقد حدث، والماضي. ثمة تنويع في صيغ الأفعال يبدو مناسباً لما هي عليه شادن في لحظة القص: امرأة متوترةٌ ستقابل شخصاً أحبته قبل 25 عاماً، وستراه للمرة الأولى، بعد غياب، وإن ظل حاضراً في ذهنها خلال هذه السنوات:

تدافع / تشبهني سلاف / سيصير لقاؤنا الثاني حباً [ وكان اللقاء الثاني قد تم بين شادن وكفاح في القدس – أي قبل العام 1967، وهي هنا تسترجع وهي في لندن ] واستنكرت أمي. وكان استنكار أمها للأمر يوم كانت شادن أيضاً في القدس.

يختلف السرد في الجزء الثاني. هنا يجلس كفاح وسيف في مطعم في لندن، ولا يكون معهما أي شخص، والشخص الوحيد الذي يقترب منهما هو النادل، ويقترب هذا للحظات ثم سرعان ما ينصرف.

ويشغل الحوار في هذا الجزء، كما هو في صفحات كثيرة من الرواية، الحيز الأكبر. وهذا مبرر ومعقول، حتى لو تساءلنا عن مصدر روايته. هل كان ثمة مسجل مع سيف أو مع كفاح يسجل ما يجري أعطي للسارد، بل وهل كانت مع هذا كاميرا تصور الملامح في أثناء، الحوار. وعلى العموم فإن السارد هنا يبدو كلي المعرفة، ولا يتدخل كثيراً. إنه يترك لشخوصه الفرصة للكلام، وهو ينقل لنا هذا الكلام، ويصف لنا، بعبارات قليلة، كيفية انتقاله.

وربما تطابق هنا زمن القص مع زمن الحدث. يقص لنا السارد هنا وينقل ما جرى بين كفاح وسـيف في مدة ثلاث سـاعات فقط، تشغل حوالي(27) صفحة من الرواية، ولا يشكل كلام السارد عُشْرَ الكلام الذي تفوه به الرجلان. هنا يصف السـارد بعض أحوالهما ويعقب على بعض ما قالا، ويظهر لنا انتقال الحوار من كفاح إلى سـيف، وكيف رد الأول على الثاني أو العكس. [ استدرك مندهشاً / يسأله بخبث/ يقهقه ساخراً / يضحك كفاح ويشدّ سنارته لتغمز ... الخ ].

يختلف أسلوب السرد في الفصل الثالث. هنا تتحول الرواية من جديد إلى رواية ترجمة ذاتية. وتقص سلاف بضمير الأنا قصتها، وهي قصة ترغب في أن تكتبها رواية. ولكن هذا التحول، في السرد، سرعان ما يتحول أيضاً، ففي منتصف الفصل (ص67) يغدو السرد بضمير الهو، لا بضمير الأنا. هنا ثمة سارد مجهول يقص عن سلاف وجواد وهما في لندن. ويبدو هذا السارد سارداً عليماً كلي المعرفة. وما يلاحظ أنه مثل السارد في الفصل الثاني يترك لشخوصه الحرية ليعبروا عن أنفسهم، فمقدار كلامه إلى مقدار كلامهم يبدو ضئيلاً. إن المساحة الأكبر عموماً للكلام في رواية ليلى الأطرش هي للشخصيات الروائية، وهنا نقطة مشتركة رابعة بين " مرافئ الوهم " و " ليلتان .. وظل امرأة ".

وربما كان التحول اللافت في السرد، في الرواية، هو ما يجري في أثناء تصوير الحلقة مع كفاح أبو غليون. يتحول السرد هنا إلى سرد شخصية تقص سيرتها، لا على الورق، وإنما أمام الكاميرا والمسجل، لتعرض، من ثم، على الجمهور، ولتتحول العلاقة بين الشخصية والآخر، إلى علاقة بين مرسل / مذيع ومصغٍ.

وأظن أن دراسة البنية السردية في الرواية تحتاج إلى وقفة متأنية، تماماً كما أن الربط بين هذه الرواية وروايات الكاتبة الأخرى تحتاج إلى دراسة مفصلة.

وبعد فهذه مقالة عن رواية الكاتبة أظن أنني قلت فيها شيئاً، وأدرك أنه بقيت أشياء لم أقلها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى