الأحد ١٥ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم مصطفى محمد سليمان بشارات

ليل الاحتلال الطويل

في الحرب تكتشف أن لا شيء يستدعي الأسف!

قال صديقي من (بيت حانون) أولى المناطق التي داهمها القصف حين بدأت القوات الإسرائيلية حرب الإبادة على قطاع غزة.

خلال أربع حروب خلت، ظلت البلدة الدرع الواقي للقطاع، أشبه ما تكون بـ "مصد الرياح"، مع ذلك لم تعتد القصف، تماما كما لم يألف صاحبي الحرب رغم مرور عامين وأكثر من نصف العام عليها!

علينا أن نكون متماسكين!

علّق صديقي الذي يعيش في (فيلسن نورد) على نظام اللجوء حين علم أن المبلغ الذي وافقت المنظمة على منحه إياه ليعينه على تكاليف الحياة الباهظة في (هولندا) لن يصرف هذا الشهر!

صديقة لاجئة أخرى مثل هذا الصديق الأخير - كان نصيبها في اللجوء إحدى الضواحي النائية في (أمستردام) - عندما كوى عظمها زمهرير (البرد الهولندي) تذكرت والدها المرحوم حين اقتحم الغرفة التي كانت تتزين فيها استعدادا لحفل زفافها وسألها مستنكرا، وغاضبا:

كيف تفعلين ذلك وأنت فلسطينية؟ كيف تقبلين أن تغني النسوة من حولك وبلدك فلسطين لا تزال محتلة؟

وقت تلك الحادثة كان قد مضى على النكبة ثلاثة عقود، مع ذلك لم يكف والدي عن الحنين لقيلولة "أيام البلاد"، في فيء كرمة الدار أو في ظل العريشة، أما أنا فاستغرقني الأمر وقتا طويلا، حربا كاملة اندلعت في سورية أو شنت عليها، وبعد أشهر فقط، عندما غادرتُها هربا من أهوال هذي الحرب الكونية، فهمت معنى كلام الوالد وسرّ غضبه!

لكن هل فعلا لا شيء يستدعي الأسف؟ ثم ماذا يعني أن نكون متماسكين؟ وهل فعلا نستطيع أن نكبت شعورنا بالبهجة حين يكون هناك ما يستدعي الفرح؟

لم يمنحني سائق سيارة الأجرة الثرثار الفرصة كي أعثر على إجابة شافية لتساؤلاتي، قال كأنه يعرفني منذ مدة:
هنا كنا نعمل قبل يومين من 7 أكتوبر، ومن هذه البوابة تحديدا – أشار إلى باب حديدي ضخم يعلوه برج مراقبة عسكري - سمحوا لنا بالدخول شريطة أن لا نحمل معنا أية حقيبة، أكياس من بلاستيك فقط، وما عداها ممنوع!

كان يشير إلى البوابة الشمالية لمستوطنة (بيت إيل) التي تجثم قبالة مدينة (رام الله) كوحش يتأهب للانقضاض على فريسته، وكنا خارجين للتو من المدينة في الطريق المحاذية لجدار عال أقيم حول المستوطنة وصولا إلى (مخيم الجلزون) للاجئين حيث تغيب المستوطنة رويدا، رويدا، خلف جبل بدأت صخوره تتداعى أمام جرافات المقاولين، على السيارة أن تلتف حوله حتى تتابع سيرها باتجاه قرية (عين سينيا).

طلب منا المقاول أن ننام هناك، قال إن ما بقي من شغل لا يتجاوز اليومين، رددنا عليه بالرفض القاطع محتجين: غدا الجمعة يوم عطلتنا والسبت يوم عطلتكم، موعدنا الأحد.

أضاف السائق متوجها لي مرة ثانية:

وحصل ما حصل يوم 7 أكتوبر ولم نعد، ومن يومها بقيت "عِدَّة الشُغل" هناك، ولوح بيده قاصدا (بيت إيل) التي تجاوزناها منذ مدة وأصبحنا خارج (رام الله)، تحديدا في (وادي الحرامية)، على الشارع الرئيس المؤدي إلى (نابلس).

لم يتذكر السائق أن المستوطنة غابت عنا الآن تماما، كان مسترسلا في سرد ميزات العمل، ولم أتمكن من سؤاله إذا كان يشعر بالأسف على "عِدَّة الشُغل" التي خسرها فقد هاتفه أحد السائقين مستفسرا إذا ما كانت الطريق "سالكة" أم أن هناك ثمة حواجز عسكرية؟!

في ذلك المكان بالضبط، على الإشارة الضوئية لمفترق (وادي الحرامية)، لا أعرف اليوم ولا التاريخ ولا السنة، بدا لي كل شيء متشابه وأنا أخترق بسيارتي الشارع بسرعة جنونية، حالي كحال سفينة تمخر عباب بحر هائج تتلاطمه الأمواج، كانت السماء تمطر بغزارة وانتشرت، خلفي وأمامي، سلسلة من الحواجز وقف عليها جنود كثر، كل جندي يقبض على زناد بندقيته، لا أعرف كيف تجاوزت جميع هؤلاء، كأنهم لم يكونوا، وكأني لم أكن، كأن لا شيء كان يستدعي الأسف أو التوقف عنده!

لم أستيقظ من كابوس ذلك اليوم المجنون إلا على صوت السائق الثرثار حين انفجر ضاحكا:

إفرح يا عم، لن نستطيع العبور، للتو اقتحموا (مخيم الفارعة)، وها هم يغلقون الطريق المؤدية إلى بلدتك!

لم أفرح لكني لم أحزن، شعرت أن الأفضل هو أن أنتظر، عليَّ أن أتعود الانتظار، ليس أمامي غير الأمل حتى أكون متماسكا كما قال صديقي الذي أصبح لاجئا للمرة الثانية في (هولندا) بعد أن فتح عينيه على الحياة لاجئا، للمرة الأولى، في سورية:

هل هذا هو التماسك الذي تحدث عنه ذلك الصديق، وهل لهذا السبب اختلط عليَّ الحزن بالفرح كما اختلط على تلك الصديقة، ولماذا لم تتعود (بيت حانون) على القصف بعد كل تلك الحروب؟؟!!

قنبلة صوت أو غاز، لن يختلف الأمر، ألقاها الجنود الغاضبين على سيارتنا أنقذتني هذه المرة من الإجابة فقد حلَّ الليل، ومن طول الانتظار، توقف السائق عن الكلام المباح وغطَّ في نوم عميق وبدأ بالشخير!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى