

ما وراءَ الجدرانِ
الطّرقات تتسع أحيانا وتنغلق، كالمسافات، كحُفر الجحيم، الحظّ يشاطره المنحى، الانفراج يدفعه من الأقبية إلى الشمس، من القضبان إلى حيث اللانهاية، لم يعد يأبه ببعض الأشياء، فالكثير منها يموت حين تفقد الاهتمام، الخطوط الغائرة العميقة تُحدّث عن وجع كثير، تبلّدَ إحساسه قبل تضاريس جسده المنهك، الساعة الخامسة يُترك كالحجر في شوارع لم تعد تشبه تلك التي تركها آخر مرة، قبل أكثر من عشرينَ سنةً ونيّف، حتى وجوه الناس، أمزجتهم، عاداتهم؛ فحياتهم صارت أكثر خشونةً وقسوةً وألمًا.
في سنوات السجن الطويلة التي أحرقت أجمل سنوات حياته، لم يكن لدى السنوار سوى هاجس واحد أن يكون المنقذ الذي سيضع اسم غزة على كل لسان، لكي لا تموت القضية، ولا ينسى العالم حجم الوجع الكبير الذي تعانيه، فلم يعش يوماً واحداً بعيداً عن التفكير فيها، وللقدس من ورائها بل كل فلسطين، بكل مدائنها وقراها وحاراتها، بعد أن نسي الكثير تلك المأساة الطويلة.
كان يدرك تلك الحقيقة التي يؤمن بها البعض ولا يقترب منها الكثير؛ أنّ بذل المزيد من الدماء على مذبح الحرية سيختزل الطريق والجهد والزمن.
يكتم صديق السنوار في قلبه وجعًا كبيرًا فيحدثه بتردد بيّن:
سندفع ثمنا باهظا، وتُهدم مدننا ويفقد الكثير من الأبرياء حياتهم بسبب ذلك.
سندفع أكثر من ذلك وتموت قضيتنا وتنسى، وبحسبة بسيطة تدرك ذلك، فكل يوم يُقتل المزيد منا وعلى مدار تلك السنوات الماضية واللاحقة ستكون النتيجة مضاعفة.
والعمل؟
نحتاج إلى أن نُحدث صدمةً قويةً توقظ العالم وتجعله يلتفت إلى واقعنا بصورة أكبر من ذي قبل، حتى لا يستطيع إغماض عينيه على ما نعانيه، ونسدّ الفراغ الكبير الذي شوهه بعض المحسوبين علينا، ولا شيء يفعل ذلك سوى القيام بحدث كبير ولا يخطر في بال أحد وحين يبصره الآخرون سيعتقدون أنه مجرد أوهام خلقها الذكاء الصناعي لا أكثر من فرط الصدمة والذهول والإرباك.
وهل نحن قادرون على فعل ذلك؟
لقد نضجت الأفكار في رأسي منذ وقت طويل ولم يتبقّ سوى القليل من الجهد والعمل لتكون حقيقة ماثلة للجميع، وسنفاجئ كل العالم وليس عدوّنا فقط، وهذه الفرضية لم تبتعد عن مخيلتي مطلقا.
كان الصمت من صديقه إيذانا ومؤشرا للقبول بالحدث الكبير، يشفع له ويغذيه أعداد الضحايا البريئة المضافة كل يوم والقتل المتعمد دون جريرة، وتجريف ومصادرة البيوت والأراضي وقتل كل حياة ممكنة، وما زاد الطين بلّة، تلك القصص التي لا انتهاء لها، يبصرونَها ويسمعون بها طوال الوقت، فلم تدع لأي أحد منهم فرصة التراجع وتغيير الوجهة.
حدّثه صديقه عمّا حدث لبيت عمه:
زوجة عمي قبل أيام أرعبها حلمها حين أبصرت تفاحتَين يجتاحهما اللهب من كل مكان، فلم تمض سوى ليال فقط حتى انهار عليهم السقف بقذيفة غادرة، وحين أفاقت من غيبوبتها وجدت كل ما حولها مهدما، وظلام كبير يحيط بها من كل ناحية، بحثت عن طفليها التوءمين بين الأنقاض، طفلاها الذين رزقت بهما بعد معاناة عشر سنوات من عدم الإنجاب، وجدتهما مع زوجها دون حراك، أيّ وجعٍ قاسته في تلك اللحظة، وفي لحظة واحدة تفقد كل شيء، زوجها وطفلاها، وأمها، وإخوتها الصغار، الذي أوجعني أكثر أنها صارت تبكي كالمجنونة من فرط ذلك:
من سيقول لي أمي بعد الآن.
وحدّثه رجل بجانبه:
أحزنتني تلك الطفلة الصغيرة التي فقدت كل أهلها ذات صباح، ولم تدرك أنها فقدت أيضا أحدى قدميها الملفوفة بشاش أبيض، وحين تسأل عنها، يقول لها الطبيب إنها بخير، وتحتاج إلى الوقت فقط.
انتفض السنوار غاضبا وهو يردد:
لأجل كل هؤلاء سننتقم ونرد للعدو صفعة مضاعفة لم يتلقَّ مثلها في كل تاريخه الأسود، وسنكشف للعالم كله ضعفه وهشاشته وجبنه، رغم إدراكنا أنه سيلجأ لأسياده لانتشاله من الوحل الذي سنمرغه فيه لعله يعيد له بعض اتزانه الذي فقده.
بقي السنوار ومن معه يخوضون معارك شوارع مريرة، من مكانٍ إلى آخر، لا يملّون ولا يكلّون رغم فداحة الخسائر، ورغم دأب العدو وإعلامه المضلل أنهم يختبئون في أنفاق محصنة ويتركون الناس يواجهون الموت بلا حماية، وهو ما ثبت كذبه في قابل الأيام.
يحدث الكثير في تلك البيوت المهدّمة والمتباعدة في جنوب غزة، كما في غيرها، وبات التنقل فيها بمجموعات صغيرة طريقة آمنة للمقاتلين لكي لا يتم رصدهم قدر الإمكان، ومباغتة العدو بكل زاوية ممكنة لإيقاع المزيد من الخسائر.
وفي مصادفة قد تبدو غريبة للبعض يجد السنوار نفسه وحيدا أمام طائرة درون صغيرة وجها لوجه، وهو ينزف من جروح ألمّت به بعد تلك الإطلاقة الكبيرة التي لحقت بالمبنى الذي تحصن فيه، بعد أن أرسل العدو تلك الطائرة لتبحث عن مصير ذلك المقاتل الذي يطلق النار عليهم منذ الصباح، لأنهم يخشون الاقتراب منه، ومع اقترابها منه لم يعد بإمكانه فعل المزيد بسبب الجروح العديدة في جسده، ولم يستطيع سوى تحريك يده اليمنى والالتفات بوجهه المقنع صوب تلك الآلة الشريرة التي تحمل له أسباب الموت، بإعطاء الإشارة لمن خلفها، ورميها بعصا كانت في يده، أي خاطر دار في خلده في تلك اللحظة الدامية، ربما لم يدرك أن لحظاته تلك ستشاهد
في كل مكان، وسيراها العالم، كل العالم دون استثناء، ملايين وملايين المرات، لأنها أول بطولة حية يشاهدها الجميع، وسيبصر كل الناس كيف يستقبل الفرسان الموت بكل شجاعة، فتلك الصورة ستكون حاضرة لدينا دائما وأبدا، نبصر من خلالها صور أولئك الذين باتوا أيقونات عظيمة في التاريخ، نتمنى كل لحظة مشاهدتها فقط دون جدوى.
تلك المسارات المحزنة جدًّا، تجتاز بالمخيلة سنوات طويلة إلى تلك اللحظة الفاصلة، حيث يقف السنوار، مخضّبًا بدمه لا يستطيع النهوض من فرط تلك الجراحات التي تزاحمت على جسده، ويحيط به العشرات، رسل الموت تطلبه دون هوادة، فلا يملك معها فعل أيّ شيءٍ، بعد أن أثخنته الجراح حتى ما عاد بمقدوره الوقوف، كانت عيونهم رغم كل ذلك ترقبه خائفةً وجلةً لا تستطيع الاقتراب أكثر من تلك اليد التي طوحت الكثير منهم، فتلك الآلة الشريرة التي وقفت قريبة منه تنتظر وتترقب رغم أنه لم يتبقّ له ما يعينه على فعل شيء سوى انتظار لحظة الموت والخلاص، ومن خلال تلك العيون التي تبحث عما وراء الجدران، أدرك أنّ الزمن هو الكفيل للثأر له، لكنه رغم ذلك صار أيقونة لا يمكن العبور دون الإشارة إليها بكل فخر، فالمعركة ما زالت قائمة، وخلف الجدران عشرات الآلاف ينتظرون الدور.