السبت ١١ شباط (فبراير) ٢٠٢٣
بقلم نجاة بقاش

ما وراء الحقيقة..

"عفوا يا سيدي.. اعذر ارتباكي وخجلي.. عن بيتي أبعدوني.. كعادتهم، باغتوني.. بعثروا أوراق دفاتري.. غير مبالين لأمري.. بحذائهم، دنسوا معبدي.. باسمك للمحاكمة دعوني.. لم يمنحوا لي فرصة ترتيب أفكاري.. وتوديع أشيائي.. أو حتى ترك وصية لمن سيأتي من بعدي"..

بعد إذنكم يا مولاي.. اسمحولي أن أعرض على أنظار جنابكم قضية العصر.. بطلتها شمطاء رعناء.. تطالب بالعقد.. ترفض قبول العرض.. لسانها سليط يتقن الذم والنقد.. لا تحفظ آداب العلية.. وحفظ الآداب من مكارم الأخلاق.. أسطورة في التعالي والافتراء.. تدعي أنها ملكة من ملوك الأرض.. جدها الأكبر آت من بلاد الجرمان.. لا صلة لها بالمشرق ولا بأرض كنعان.. جدتها الكاهنة.. علمها أزرق، أخضر وأصفر.. يتوسطه حرف يرمز للحرية وللإنسان.. تقول عنكم "سيد القطيع".. وحكومتكم يسودها "عبث وشخير".. تقول عني "جسد بلا إحساس".. "فاسد بلا إثبات".. ما حكمكم يا مولاي في هذا الادعاء؟..

بعد أن أتاهم الحجاج بالحجة واليقين.. قامت جوقة بقوة ألفي أمة وعبيد.. تهتف بحياة الأمير.. تطالب بمعاقبة الغاشم الأثيم.. وأخرى من خلف الستار.. تطالب محتشمة بإخلاء السبيل.. نظرات السلطان لي كانت على حالي مشفقة.. على الوضع متسائلة.. كيف لي أن أكون بكل هذا الجنون متمسكة؟.. أي حكم أستحقه؟.. أينصاع خلف الهتافات المغرضة.. ويكتفي بالحقائق المعروضة؟.. أم يصدق الحدس الذي كان على محياه باديا؟.. نظرت إليه بدوري متسائلة.. لما كل هذا العبث يا راعيا؟.. ألم تقسم أنك لغير الله لست عابدا؟.. ابتسم لي السلطان خلسة.. حتى لا يتم ضبطه متلبسا.. قال بصوت خافت هامسا.. "هي مسرحية من إخراج الحجاج أنا له متشكرا".. حاولت فهم ما كان يدور برأسه.. إلا أن الغموض كان على الموقف سيدا.. خشية أن يكون وقعي على السيد مؤثرا.. قامت خلفه الأصوات مرددة.. "تنفيذ الإعدام في حقها واجب".. آه لو كان بوسعي.. لرفعت لغباء الحجاج قبعتي.. لشرحت للالتباس قصدي.. لما بات "بلا عنوان" للقصيدة عنواني.. حولني الحجاج من عاشقة تهوى الإبحار.. إلى مذنبة تخشى المجاز.. آه لو كان بالإمكان لأنهيت المواجهة بإسدال الستار.. على أغرب محاكمة حكمها الإبهام.. كيف لأمة ألا ترى حقيقة أمرها؟.. كيف للسلطان أن يكون أكثر إشفاقا على حالها؟.. كيف للتاريخ أن يكف عن إعطاء الدروس لأهلها؟.. وكيف للآلهة أن تكون على العباد ظالمة.. أشفقت بدوري على تردي الأوضاع وعلى شقاء الأنذال..

حاولت تجميع قوتي.. أمام التهم المنسوبة.. بصوت خافت متلعثم.. يكاد لا يسمعه من كان حولي.. قلت "عفوا يا سيدي.. فساحة قصركم ترعبني.. رحابة صدركم تقلقني.. دعوتكم لي لا تسرني.. يكاد الخوف يقتلني.. ربما كان تشابها في الأسماء.. أو خطأ في تقدير الأمور.. حسبتها فسحة في رحاب القصر.. محنة سوف تمضي.. بينما هي مآمرة من تدبير الحجاج"..

سيدي.. أنا لم أشارك في اغتيال الزعيم.. ولم أكن سببا في زوال النعيم.. أنا لم أشارك في إسقاط النظام.. أو حتى في اقتراح البدائل.. أنا لم أحاول إشعال الفتيل.. ولم أساهم في إخماد النيران.. أنا لم أحتج على ارتفاع الأسعار.. ولم أعترض عن مشيئة الأقدار.. أنا لم أكن يوما سببا في إطلاق الأقمار.. أو سببا في فشل التقاط الأخبار.. لم أشرك في اختيار الحكومات.. ولم أعلق على فشل المخططات.. أجبرت على عشقك قبل أن أراك.. فحينما رأيك رضيت مرغمة بالأقدار.. فلما الدعوة إذن يا سيد الأقوام؟..

أنا لم أرفع يدي تضرعا.. ولم أرفع لسيادتكم تظلما.. أشكي فيه غدر الزمان.. ولم أترقب توشيحا أتسلق به سلم الحياة.. أنا لم أصنع أمجادا.. تبقيني مفخرة للأحفاد.. ولم تجد قريحتي أشعارا.. تبقيني على قيد الحياة.. أنا لم أشك في رؤيتكم في الأقمار.. ولم أنف إطلاقا ولاء الجبال للسلطان.. أنا لم أركض وراء السلطة والجاه.. ولم أحجز مقعدا في مجلس النواب.. كيف لي أن أفعل والفريق نيام؟.. كيف لي أن أنافس من كان له الحكم على المقاس.. لما الدعوة إذن يا سيد العباد؟.. آذن لي بالانصراف، فالمكان ليس مناسبا للجياع.. عالمك جد المرتب يربكني.. نظرات الحجاج لي تقلقني.. قططي أسمعها من هناك تناديني.. لا تحتمل فراقي.. لم يحبها أحد غيري.. لا وطن لديها سوى مملكة الجنون التي تحتويها وتحتويني..

أطلق سراحي يا سيدي، فأنا لم أعتاد العيش في القصور.. رغم وجودها على أرضي مآت السنين.. لم اعتد رائحة العنبر والعود.. ولا أعرف ملكا من ملوك الأرض سوى أبي.. فلما الدعوة إذن يا سيدي؟.. رغم غرابة قصصها، وقداسة كتبها.. أنا لم أبالي بحياة الأنبياء.. ولا أتقن لغة النبلاء.. لا أستسيغ القيود ولا آداب الرسميات.. لا أحد لقنني كيف أصبح فاتنة بعد العصر.. ولا كيف أكون جميلة في حضرة الأمراء.. ولا كيف أمدحك مثل باقي الشعراء.. هذه أنا.. هكذا أنا.. لا أسمي الأشياء بغير مسمياتها.. ولا أعجب بالنجوم إلا إذا كانت في السماء متلألئة.. أعذر عفويتي يا سيدي.. فهي أغلى ما يمكن أن أهديها للسلطان.. هز الخصر وتنميق الكلام ليس من هواياتي.. ملابسي الرثة الممزقة.. لا أملك غيرها من الثياب.. قد تفوح منها رائحة التهاون والإهمال.. إلا أنها تستر عورتي وتقيني من البرد.. صحيح أنني لا أملك أدوات البيان.. ولا أملك بلاغة الأدباء.. إلا أنني أتقن جيدا "ترويض النمور والكلاب"..

أمام دهشة السلطان وتذمر الحجاج.. وجدت نفسي مجبرة على الدفاع..

لا تحطم بيديك معبدي.. تجعلني أفقد بذلك بوصلتي.. تجدك أنت نحو الهدى غير مهتدي.. خذ من أشعاري ما يبكى.. قد يكون العلقم بلسما للداء.. لا تأخذ العبرة من عادات النسور.. بل خذ الحكمة من كنه الجنون.. كن أنت السماء واستمتع ببهاء النجوم.. دع الأرض لي.. هذا كل ما في الأمر..

صمت رهيب عم أرجاء القصر.. في أغرب محاكمة شهدها العصر.. رائحة العود الأوسي تخنق أنفاسي.. تذكرني بنهاية الكون.. أشباح تحلق فوق رأسي.. تردد أشهر التراتيل.. حالة تأهب قصوى تنتظر محاكمتي.. تعالت الأصوات تطالب بقطع رأسي.. بإشارة خفيفة منه.. طلب من الحضور التزام الصمت.. فقبل أن يأذن للحاجب بالجلوس.. ويأمر الحارس بالانصراف.. قام بحسم الأمر وإنهاء الخلاف.. خاتم مرصع بالأحجار الكريمة.. لفت انتباهي.. ذكرني بما مضى من الأزمان.. بصوت عميق خافت كدت لا أسمعه.. باغثني السلطان بالسؤال: “هل لك أن تذكريني باسمك يا سيدتي؟”.. بلسان متلعثم مزدوج.. يود أن يصرخ في وجهه: “سثمازيغث سيور كيذي".. أجبته بعد أن استدركت.. "أزول أزدجيذ، “نش ثرلي .. يدجس نتماثا.. غاي 2973 إسكواسن”.. كيف لك ألا تعرفني؟..

بعينين جاحظتين محمرتين.. كان ينظر إلي متسائلا.. متأملا تقاسيم وجهي الذي لم يكن بالأمس القريب يعني له شيئا.. كلامي الفظ وجسمي المنحوت غير المألوف.. لم تر عيناه مثلي.. يحكي أساطير الزمن الماضي.. كان يتأملني كما لم يتأملني أحد من قبل.. عله يجد لوجودي معنى.. يشفع لي.. "ترى من يكون هذا المخلوق الشفاف المنتصب أمامي؟.. ماذا كان يقصد بكلامه غير الواضح؟ ماذا يريد من الحياة ومني؟.. هذا ما كان يجول في خاطر السلطان.. محاولا إيجاد ملامح تعطي شكلا معينا لوجهي.. بل تعطي بعدا للثنائية المفروضة علي وعليه.. إيجاد حكم يقضي البث في التهم التي وجهها الحجاج لي.. يا لها من مهمة شاقة اعترضت سبيلنا.. طقس عبور نحو عوالم تمضي نحو المجهول.. موقف لا نحسد عليه نحن الاثنين.. هي مواجهة الكبار تستدعي كثيرا من الدعاء.. على الأقل بالنسبة لي.. وتستدعي قليلا من التبصر بالنسبة للسلطان.. ترك القصور ليس كترك الأكواخ.. على الإطلاق..

كان ينظر لي محاولا فهم شيء لا يفهمه.. محاولا الإفلات من موقف لا يعرفه.. لم يكن يدرك أن خارج الأسوار توجد حرائر على العهد باقيات.. لغير الله لسن راكعات.. لم يستوعب ما كان يراه ويسمعه.. فصاحة اللسان كانت ترعبه.. للرشد كانت تدعوه.. أحرجتني نظراته المركزة لي.. كأنها تبحث عن تبرير يبقيني حية أمامه.. صمت رهيب عم أرجاء مجلسه.. فالكل كان لحكم الإعدام يترقب.. حاول ألا يكون لقول الحجاج مباليا.. إلا أن الأخير كان لأمري مهتما.. بحركة خفيفة ملؤها الكبرياء فيها شيء من ضبط النفس.. حياني السلطان.. ثم حياني كل من كان حاضرا بالمجلس.. كأنهم ليسوا من كانوا بالأمس.. يهتفون بقطع رأسي.. "ما قولك فيما نسب إليك يا ثرلي؟..

فقبل أن أجيبه عن السؤال.. وأسترسل في الكلام.. قاطعني السلطان بدون استئذان.. فهمت حينها أن ثمة أشياء قامت باختراق الأجواء.. لا بد لي من جواب في مستوى اتهام الحجاج.. وانزعاج السلطان.. " كيف لحكمي أن يكون بهذا العقم؟.. وكيف لحاشيتي أن تكون بهذا العهر؟.. وكيف لي في هذا العمر أن أوصم بالقبح؟.. كيف تدعين أنني على رأس القطيع يا "ثرلي"؟.. بهذا يكون الوضع قد خرج عن سيطرتي.. بعد أن قام الحجاج بإشعال النيران..

بعد طرحه للسؤال.. وتلاوة آيات من الذكر الحكيم.. ترك المجال لقصيدة "لولاه لما جاءنا باليقين".. "لولا الثنائيات التي تميزنا.. والخصوصيات التي تجمع بيننا.. لما وجدنا شيئا بالأمجاد يذكرنا.. لولا نور المصباح الذي ينير حينا لأصبحنا اليوم في حيرة من أمرنا.. لولا ضخامة الجرار ومتانته لبقينا في بحر الظلمات نهذي.. لولا تحمل الجمال للأتعاب.. ودعاء السنبلة الصفراء لجفت المنابع من المياه.. لولا سرعة الحافلة وقوة الحصان لبقينا نلف ونلف، ونلف في نفس المكان.. لولا ثبات الميزان لكان عرشي عرضة للزلازل.. لولا زئير الأسد وصياح الديكة لاختفينا عن الأنظار.. لولا الحمامة البيضاء والوردة الفيحاء لغاب السلم والسلام.. لولا كتاب الرفاق لساد الجهل في البلاد.. لولا جمال الهلال وشكله الانسيابي لما تبحرت السفينة في الأعالي.. لولا غصن الزيتون والمشعل المنير لما حققنا الضبط الاجتماعي.. لولا "النحل والنخيل" لما صار وطني من أجمل البلدان.. لولا ذكاء الشيخ ووفاء المريد لسادت الفوضى في الميدان.. لما غنى العندليب "أجمل الألحان".. هكذا عقب الحجاج على معلقتي.. تاركا "لثرلي" حق الرد على الاتهام..

آذن لي بالكلام يا سيدي.. برغم جمالية الأبيات وشاعرية الحجاج.. فإن في بلادكم كثير من الأحزان.. والسكوت عن الحق آية من آيات الفساد.. فقدان الإحساس بالانتماء.. كفقدان الإنسانية للإنسان.. هي اكبر جريمة في حق الأوطان.. ما أصعب أن يصبح الوطن روضة للأحزان.. ما أقسى أن ننسى كيف تكتب أسماؤنا بالحبر على الجدران.. كيف نحب بعضنا.. كيف نموت كي يحيا غيرنا.. رغم ذلك، في بلادكم كثير من الفساد..
إن ظلم الوطن للإنسان جرح غائر لا ينسى.."اسألني عنه أنا".. فالطفل الذي ينام والدمع على خده يسري.. اسم مشروع إنسان.. على اغتياله يحكي.. لن يحضن الوطن مرتين.. تذكر هذا جيدا يا سيدي.. من رأى بيت أبيه يحرق.. وخبز أمه يسرق.. وحلم أخيه لا يتحقق.. ودم جاره في الحاوية يتدفق.. مهما حاولت قلبه لن يخفق لك..

من يعجز عن تغيير المنكر جهرا.. ومواساة الفقير مرغما.. لن يعرف كيف يواسيك والحال عليك قاسيا.. حذار من لعنة الأقدار المتشابكة.. والأقدام الحافية.. والبطون الجائعة.. الحل بين أيديكم.. والتاريخ سيشهد لكم.. ولسيادتكم واسع النظر.. (يتبع)


مشاركة منتدى

  • حقيقة السرد جعلني مشدوها امام الرمز والترميز والمجاز باسلوب حكائى ؛ مائز اقرب الفعل المسرحي ومتداخل بما شعري وان اعطيتها تاطيرا(معلقتي..)رغم المراوغة -صحيح أنني لا أملك أدوات البيان.. ولا أملك بلاغة الأدباء..ولكن الخطأ الفادح : وهو عدم مدحك للسلطان -كيف أمدحك مثل باقي الشعراء.. مثل -ذكاء الشيخ ووفاء المريد لسادت الفوضى في الميدان.. ولكن الدهاء الجميل مدحك للحجاج من خلال شاعرية الحجاج..
    وتحياتي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى