الثلاثاء ٣ شباط (فبراير) ٢٠٠٩
بقلم صلاح السروي

محمود درويش – المقاومة بالشعر والجمال

هوالآن يرحل عنا
ويسكن يافا
ويعرفها حجرا .. حجرا
والأغانى تقلده
تقلد موعده الأخضرا

فى صراعه مع المآسى والهزائم والمنافى والتشرد والتفاوض وأوسلو كان محمود درويش- فى مواجهة كل اولئك هو المنتصر دائما. فهو الشاعر الذى أضحى رسول القضية الى وجدان العالم ورسول الجمال والاناقة والعمق الفنى النافذ الى وجدان شعبه. انه الشاعر المبرز المدلل الذى لا ينتقص منه أن يغضب عليه ياسر عرفات ويمنع عنه راتبه فيحيا مادون حد الكفاف حبيس شقته الفقيرة (الاستوديو) فى باريس، أوأن يهاجمه بعض الملتاثين والمهووسين بسبب انتمائه الباكر للحزب الشيوعى الاسرائيلى أودعوته الانسانية المجردة للسلام وهو الذى لم يقايض على حقوق شعبه يوما. من كل هذه الصراعات خرج محمود درويش منتصرا، خاصة فى صراعه مع العبارة الشعرية التى استطاع - باقتدار حسده عليه الكثيرون – أن يروضها ويسلس قيادها فيضحى نثره شعرا ويضحى شعره مفعما ومتخما بطبقات المعبى التى تتزاحم وتتراكم لايكاد بترك بعضها فسحة للبعض الآخر ويضحى هو نفسه نموذج الرؤية وأيقونة الدلالة:

لى خلف السماء سماء لأرجع، لكننى
لا أزال ألمع معدن هذا المكان، وأحيا
ساعة تبصر الغيب. أعرف أن الزمان
لا يحالفنى مرتين، وأعرف أنى سأخرج من
رايتى طائرا لا يحط على شجر فى الحديقة
سوف أخرج من كل جلدى ومن لغتى

فهو الرائى المعايش المفارق القادر على استدعاء الاسطورة ليخلقها واقعا حيا يسعى وهو القادر على تجريد الواقع من غلالاته وتفاصيله وتعقبداته ليجعل منه اسطورة فينيقية محلقة عبر الاوار ومن قلب الدمار. هو القادر وحده على محاصرة الحصار وتقديم أعضائه أسلحة للرفاق، ومناشدة عائشة ألاتدخل فى الغياب، وأن يصبح حبل الغسيل رمزا لكل الامهات اللاتى أضحت كل واحدة منهن تتمنى أن تكون أجمل الامهات فلم يتخلين كلية عن ذرف الدموع بل اقتصر بكاؤهن على دمعتين ووردة ولم ينزوين فى ثياب الحداد. فكان زادا للشجن والحزن الجميل النبيل ونورسا للروح التواقة للانعتاق عبر الكبرياء والجراح النازفة.

من كل الحصارات والغرناطات والخسارات والمعارضات خرج محمود درويش منتصرا ولم يهزمه الا المرض فترك حصان الشعر وحيدا يشكو المواجيدا.

لقد مر هذا الشاعر الفذ بعدة تحولات فنية بدأت بديوانه الاول: (أوراق الزيتون) 1964 حيث سيطرت نزعة الغضب والتحريض الممزوج بالرمز الشفيف والاسطورة والايقاع القوى:

هذا عذابى .....
ضربة فى الرمل طائشة
وأخرى فى السحب
حسبى بأنى غاضب
والنار أولها غضب

حيث برزت جمالية شعرية جديدة تتخذ من مفردات الوجود الطبيعى فى فلسطين ك ..(الاقحوان) و(السنديان) و(الاحراش) و(الزنابق) و(المواقد) و(حبال الغسيل) ..الخ عناصر شعرية أخاذة محملة بالاحالات والدلالات الشعبية اليومية، مما شحن شعر درويش باحساس انسانى بالغ القوة، عضد على نحو هائل الرسالة السياسية التى يحملها خاصة اذا تجاورت مع مفردات المنافى والسلاسل والمطارات والوحشة والحنين التى تترجم واقع الاحتلال والقمع وفى ذات الوقت تمثل قيما انسانية دالة بذاتها.

كعادتها
انقذتنى من الموت زنزانتى
ومن صدأ الفكر، والاحتيال
على فكرة منهكة.
وجدت على سقفها وجه حريتى
وبيارة البرتقال
وأسماء من فقدوا أمس أسماءهم
على تربة المعركة.

وهى المرحلة التى ضمت دواوين: (أوراق الزيتون)
64 19، و(عاشق من فلسطين) 1966، و(آخر الليل) 1967.

ثم كانت المرحلة الثانية التى بدأت بديوان (العصافير تموت فى الجليل)
1969، وتشمل (حبيبتى تنهض من نومها) 1970، و(أحبك ولا أحبك)1972، و(محاولة رقم 7) 1973، و(تلك صورتها وهذا انتحار العاشق)1975، و(أعراس) 1977. و(مديح الظل العالى) 1983، و(حصار لمدائح البحر) 1984، حتى ديوان (أحدعشر كوكبا) 1992، وهى المرحلة التى أخذ فيها درويش يوظف تقنيات درامية وانشائية أقرب الى البناء الملحمى مع ميل واضح للقصائد المطولة كقصيدة (أحمد الزعتر)، وقصيدة (بيروت) وقصيدة (جدارية)..الخ :

ليدين من حجر وزعتر
هذا النشبد.. لأحمد المنسى بين فراشتين
مضت الغيوم وشردتنى
ورمت معاطفها الجبال وخبأتنى.

ثم كانت المرحلة الاخيرة التى يميل فيها درويش الى التفلسف والتكثيف الدلالى والتأمل الاسيان فكانت دواوين (لا تغتذر عما فعلت) 2003 و(كزهر اللوزأوأبعد) 2005، وفى حضرة الغياب 2006. وصولا الى آخر أعماله : (أثر الفراشة) 2008.

بوفاة محمود درويش - شاعر العربية الابرز فى زماننا - يكون الشعر العربى الحديث قد أكمل دورة كاملة من الصعود والتكوين الى الاستقرار والتوهج وقيادة الوعى الجمالى العربى.

فقيمة محمود درويش الاساسية لاتكمن فى كونه شاعرالمقاومة الاكثر شهرة وتأثيرا، بل فى كونه الاكثر قدرة على تحويل فعل المقاومة من الغنائية والتحريض التعبوى المباشر الى موقف وجودى وانسانى كامل، لقدجعل هذا الشاعر من الشعر فنا جماهيريا لايقل عن جماهيرية الغناء وكرة القدم، مقدما أبدع الرؤى وأجمل الصور وأروع ما أنتجته المخيلة فى الشعر العربي:

هولا يودع أى شيء أوأحد
عبثا يحس بأنه قد مر فوق الارض يوما.
لاشيء يغريه بأن يبقى على حبل الفراغ من الفراغ الى الفراغ
معلقا .

لقد رحل فتى الشعر الجميل، المختال بامتلاكه سر (خديجة) و(العصافير) و(الأمهات اللاتى انتظرن أبناءهن)، وسر الحرف والكلمة، وسر الوطن والانسان. فكان شعره زادا للصمود وذريعة للبقاء، وتعلة لعشق الحياة والنضال من أجلها. بعد أن اكتشفنا معه أن المقاومة أكثر من ممكنة وفلسطين أكثر من رائعة


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى