السبت ١٠ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٩
بقلم عادل الأسطة

محمود درويش والدقة

مرة حفل أحد أعداد مجلة الكرمل بأخطاء مطبعية لافتة، وكان ذلك استثناءً وخروجا عن المألوف، فمن كان يتابع أعداد المجلة كان يلحظ خلوها من الأخطاء المطبعية والنحوية، وكان يلحظ إخراجها بشكل أنيق جميل لافت، ورقا وحرفا وغلافا وتنسيقا وتبويبا و.....و.....

هل كانت مفاجأة لنا، نحن قراء الكرمل، أن يعتذر محمود درويش في العدد اللاحق للعدد الحافل بالأخطاء، عما حدث، وأن يعدنا أيضا بألا يتكرر ما حدث؟ لا أظن ذلك.

حين سئل الشاعر ذات مرة عن علاقته بالمدن، ومنها بيروت، أبدى رأيه فيها، وإعجابه ببيروت التي أنفق فيها سنوات من عمره شابا. طبعا لم يقتصر إعجابه بالمدينة على البحر والحرية والتعدد والتنوع، وهو ما بدا أصلا في قصيدته "بيروت"، إذ قال فيها: بيروت من ذهب ومن تعب وأندلس وشام، فضة ياقوتة. ورأى فيها خيمة الفلسطينيين الأخيرة، بل ونجمتهم الأخيرة. لقد أعجب أيضا بطباعة الكتب فيها.

مرة سئل درويش: لماذا تطبع كتبك في بيروت؟ فأجاب: لأن طباعة الكتب فيها هي الأفضل. هكذا أظن، إن لم تخني الذاكرة. ومن تابع مسيرة الشاعر لاحظ، بالفعل، أنه طبع أكثر كتبه في بيروت. منذ غادر حيفا إلى المنفى ظلت كتبه تطبع فيها، في دار العودة، وعن دار رياض الريس. وأعماله الأخيرة، منذ "لماذا تركت الحصان وحيدا؟" صدرت عن الدار الأخيرة بطبعات أنيقة. هل كان هو الأنيق ثيابا، والوسيم شكلا، يرى في أناقة طباعة الكتاب جزءا مهما، ومهما جدا، من مادة الشعر؟ لا شك في ذلك، فقد ظل يطور شعره بناءً أيضا، ولا يعني هذا أنه أغفل المضمون.

حين قرأت كتاب الهلال (أيلول 2008) الذي صدر بعد وفاته، وجدتني أكتب رسالة بلفونية (جوالية، هاتفية) إلى الصديق أكرم هنية أقول فيها: " على محمود درويش أن ينهض من قبره، وأن يعتذر لي." وكان درويش أصدر ديوانا عنوانه "لا تعتذر عما فعلت" (2003)، وفيه قصيدة يخاطب فيها نفسه، إذ يجرد من ذاته ذاتا أخرى يخاطبها، ويخاطب آخره قائلا: لا تعتذر إلا لأمك. هل أنا أمه حتى يعتذر لي إذن؟ لماذا كتبت الرسالة الجوالية إلى القاص أكرم هنية إذن؟

إذا ما قارن المرء كتاب الهلال الذي حمل عنوانا هو: لن تغيب، عدا صورة الشاعر على الغلاف الخارجي، إذا ما قارن المرء الكتاب المذكور بطبعات دواوين درويش الشعرية الصادرة في بيروت، فإنه- أي المرء- سيلحظ فارقا كبيرا جدا بين كتاب الهلال/ القاهرة، وكتب رياض الريس/ بيروت. وهذا الفارق يكمن في الشكل، في حرف الطباعة، في الإخراج. وربما قال امرؤ ما: لا بأس، فكتاب الهلال كتاب شعبي، يباع بسعر زهيد، خلافا لكتب رياض الريس التي تباع بأسعار عالية ومرتفعة، والمهم مضمون الكتاب لا شكله. ربما.

أنا لم أطلب من درويش أن ينهض من قبره، وأن يعتذر لي لهذا السبب، وإن كنت أعلم أنه سيغضب، فالكتاب، كتاب الهلال، لن يروق له طباعة وشكل إخراج. أنا طلبت منه أن ينهض ليقارن بين ما كتبته عنه وما ورد في الكتاب. بين الدقة التي كنت أتميز بها، حين أكتب عنه، وبين فقدانها لدى أكثر الكتاب الذين شاركوا في الكتابة عنه. هل أقول: يقينا إنه لن يستريح في قبره، ما لم تعد دار الهلال النظر في الكتاب، وتعيد إصداره ثانية، بشكل جديد يليق بدرويش، وبإعادة نظر في المعلومات الواردة فيه، فهناك أخطاء، لا أبالغ إذا قلت: إنها لا تعد. هل من مثال؟

ربما يلحظ المرء هذا واضحا في مقالة الناقد المصري مصطفى عبد الغني (ص210-ص221). كم من خطأ في المعلومات، عدا اللغة، برز في المقالة. خذ ص212، فالناقد يقول إن ديوان درويش الأول هو "أوراق الزيتون"، وفي الصفحة نفسها يكتب أنه صدر في العام 1964، ويكتب إلى جانبه عنوان ديوان آخر هو عصافير بلا أجنحة، ويذكر أنه صدر في العام 1961 (؟). وفي ص213 يذكر أن قصيدة "عابرون في كلام عابر" وردت في ديوان "عاشق من فلسطين". وفي ص214 يكتب أن ديوان "سرير الغريبة" صدر في العام 1995. وأن ديوان ورد أقل صدر في العام 1987، وكذلك قصيدة مديح الظل العالي. ويبدو أن الدارس لم يميز بين طبعة الديوان الأولى والثانية والثالثة إطلاقا. ولا أريد كتابة المزيد.

في قصيدة: لي حكمة المحكوم بالإعدام/ لا أشياء أملكها لتملكني/ كتبت وصيتي بدمي:/ "ثقوا بالماء يا سكان أغنيتي".

لم ألتق بالشاعر إلا مرات قليلة جدا. وكان بيننا حوار سيميائي. ترى هل كان يثق بتأويلاتي لنصوصه حين كتب: ثقوا بالماء يا سكان أغنيتي؟ ربما.

الضحايا والجلادون: مكر التاريخ

الشهر المنصرم كان عدد مجلة (ألمانيا Deutschland) (تشرين 1+2) مخصصا لموضوع محدد هو: الإندماج والتنوع: الحياة معا. وكانت الوزيرة الألمانية (ماريا بوهمر): نادت باعتماد العام 2008 عاما لدمج المهاجرين إلى ألمانيا بالمجتمع الألماني، وبناء عليه غدت فكرة الإندماج فكرة رئيسة في جميع المجالات من السياسة إلى المجتمع.

ومما ورد في العدد من إحصاءات أن 15.1 مليون مواطن ألماني يعدون من أصول مهاجرين جاؤوا إلى ألمانيا منذ بداية خمسينيات ق20- أي بعد الحرب العالمية الثانية، فتزوجوا وأنجبوا حتى غدوا وأطفالهم يشكلون خمس المجتمع هناك، أي خمس السكان- أي 20% فعدد سكان ألمانيا يربو على 75 مليون مواطن.

منذ أيام وأنا أقرأ مقالات العدد، فقد راقت لي، ولم أكتف بالقراءة، فقد أخذت أحدث بما أقرأ، إذا اقتضت الضرورة ذلك. قبل العيد بيوم التَقيْتُ بفلسطيني من مخيم بلاطة جاء إلى الضفة زائرا، فهو مقيم في (كولن) منذ ثلاثين عاما أو يزيد، وهو يعمل في إذاعة ألمانيا (دويتشه فيله)، وكنت زرته في مدينته هناك. وقد تحدثنا، ونحن نشرب القهوة، عن المجتمع الألماني الآن، وذكرت على مسامعه الإحصائية التي قرأتها، القائلة بأن واحدا من كل خمسة مواطنين ألمان هو مهاجر أو من أصول مهاجرة. وقد أخبرني، وهو يبتسم، أن هذا صحيح، فهو مثلا تزوج وأنجب غير مولود، وإحدى بناته أنجبت ابنتين، ما يعني أنه نفسه، وقد تزوج من ألمانية، خلف وخلفت إحدى بناته، وهكذا فأربعة من ذريته من أصول مهاجرة، وهم ألمان.

في عدد مجلة ألمانيا المذكور، في المقالات والمقابلات، تركيز على ضرورة دمج من هم من أصول غير ألمانية بالمجتمع، من خلال تعليمهم اللغة وتثقيفهم وتوفير فرص العمل لهم حتى يعيشوا مع الألمان. فبعض الأجانب يقيمون في أحياء ألمانية دون أن يندمجوا مع المواطنين الألمان. إنهم يعيشون إلى جانبهم، لا معهم.

ألمانيا تسعى إلى دمج المهاجرين في مجتمعها، وتعلن العام 2008 عاما لذلك. فماذا عن دولة إسرائيل المصونة؟ الأسرائيليون يكادون يجنون إذا ما قارنت بين ما فعله (هتلر) بهم وما يفعله بعض قادتهم مع الفلسطينيين، ويرفضون المقارنة رفضا قاطعا. أتذكر أنني، وأنا في ألمانيا في العام 1989، حاورت (مانويل)، وهو يهودي من كفار سابا، وأتيت في حديثي على ما يفعله (رابين)، يومها، بأبناء الضفة والقطاع، فكاد (مانويل) يجن، ورفض رفضا قاطعا أجراء المقارنة بين ما فعله (هتلر) بهم، وما يفعله (رابين) بأهلنا. هل نبالغ نحن حين نجري هذه المقارنة.؟ ربما. هل نجريها لأن يدنا في النار، لا في الماء، ومن يده في النار قد يصيح وقد يبالغ؟ ربما؟ فإسرائيل لم تقم لنا أفران غاز في المعسكرات، ولم تصنع من أجسادنا صابونا. صحيح أنها عذبت مناضلينا وقتلت بعضهم، وصحيح أنها هاجمت مخيمات اللاجئين في لبنان واستخدمت في هجومها الأسلحة المحرمة، لكنها، والحق يقال، لم تصهر أجسادنا بالغاز. أنا زرت معسكر (داخاو) في ميونيخ، وشاهدت الغرف القبيحة. شاهدت غرف الغاز والأنابيب. ولكن...

ولكن هل يبالغ اللاجئون الفلسطينيون الآن حين يقارنون بين ما هم عليه، وما كان اليهود عليه في (داخاو) أو (أوشفيتس)، باستثناء الحديث عن غرف الغاز. إذ ما هييء، لك أن تزور (داخاو) وما تبقى منه، فستجد الأسرّة الخشبية التي كان اليهود ينامون عليها. سترى الأسرّة ملتصقة ببعضها البعض ما يجعل النوم عليها مشكلة كبيرة. هل اختلف حالنا في المخيمات بعد النكبة؟ وهل يختلف حال سكان المخيمات الآن؟ أذكر أننا، ونحن في المخيم، قبل أن يفرجها الله علينا، كنا نملك، ابتداء، غرفتين، واحدة لأبي وأمي، والثانية لنا نحن الثمانية. كان فراشنا فرشة إلى جانب فرشة، ولم نكن نملك أَسِرّة. والآن فإن بيوت اللاجئين بيتا إلى جانب بيت، وبالكاد تتسع ممرات المخيم، بين البيوت، لاثنين يسيران جنبا إلى جنب. هل يجوز لنا إذن أن نعقد مقارنة بين ما كان أبناء العمومة عليه في معسكرات الإبادة وما عليه أهلنا في المخيمات، من حيث ضيق المكان؟ سأترك الإجابة لأبناء العمومة.

تعذب اليهود في ألمانيا ما بين 1933 و1945، ولاقوا من قبل أيضا العذاب. ونحن نتعذب منذ العام 1948 ولا نهاية في الأفق، ولا ندري ما الذي كان أبناء العمومة يمكن أن يفعلوه بنا لو لم تكن الكارثة طازجة. ربما نفّذوا ما دعا إليه (بني موريس)- أي ارتكاب مجازر أكثر لترحيل عرب فلسطين كلهم، فقد أخطأ الإسرائيليون، حد زعمه، في العام 1948، لأنهم لم يفعلوا هذا.

وأنا أفكر في كتابة هذا المقال أصغيت مرارا إلى تصريح السيدة (ليفني) الأخير: (إسرائيل تمنح مواطنيها العرب حقوقا كاملة، ولكنهم قد يجدون فرصة، في مكان آخر، لتحقيق أحلامهم بعد قيام دولة فلسطينية). وليس أمام المرء، وهو يقرأ ما يجري في ألمانيا من محاولات دمج الأجانب، وهو يصغي إلى تصريحات (ليفني)، إلا التساؤل: هل انقلب التاريخ رأسا على قدم؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى