الجمعة ٣ تموز (يوليو) ٢٠٠٩

مدينة الصمت والتميز في الإبداع

بقلم: جميل السلحوت

بعد أن قرأت المجموعة وبعد أن كتبت عنها لجأت إلى البحث في(جوجل) عن سما حسن فوجدت انه اسم مستعار لأديبة فلسطينية من غزة، ولدت في أسرة غنية وعريقة، وزوّجها والداها لزوج اعتبراه مناسبا، لكنه لم يكن كذلك، تطلقت وعادت إلى زوجها، لأنها وجدت نار الزوج بحضانة اطفالها خيرا لها من جحيم أسرتها،وعندما قرأت أن بداياتها كانت على صفحات (صوت النساء) تذكرت أنني كنت أقرأ على صفحاتها مواضيع موقعة باسم(سما) فقط.

تكتب أديبتنا باسم مستعار لأنه غير مسموح لها بالكتابة أصلا من قبل ذويها.. وهذه المقدمة السريعة في اعتقادي ضرورية، لإيماني بعد قراءة المجموعة، وقبل معرفتي بالمعلومات السابقة بأن الإبداع قد يولد من الحرمان.

وانا هنا أصدقكم القول بأنني شرعت في قراءة هذه المجموعة القصصية من باب الاطلاع على إبداع لمؤلفة لم اقرأ لها شيئا من قبل، ولا أعلم عنها أو عن قدراتها شيئا، وما أن قرأت القصة الأولى حتى وجدت نفسي امام قاصة متمكنة من الفن القصصي بشكل لافت من حيث الشكل ومن حيث المضمون، مما أرغمني على مواصلة القراءة حتى أتيت على المجموعة من الغلاف الأول حتى الغلاف الأخير، ثم عاودت القراءة في اليوم التالي قراءة فاحصة ومتمعنة لبعض القصص التي وضعت عليها اشارات معينة، وقراءات متصفحة لأخرى من باب التذكر.

وكانت مفاجأة مفرحة بالنسبة لي أنني وجدت نفسي امام مبدعة ترسم بالكلمات واقعا تعيشه المرأة الفلسطينية في مجتمعنا الذكوري، وتشاركها فيه النساء العربيات. اللواتي يعشن نفس الظروف ونفس البيئة، بشكل متفاوت سلبا وايجابا حسب التفاوت في الظروف والبيئة التي يعيشها كل قطر عربي.

وكاتبتنا التي تمتلك لغة أدبية جميلة، كانت تسرد قصصها بانسيابية وعفوية يطغى عليها عنصر التشويق رغم المرارة المترسخة في ثنايا المضمون، والتي يبدو انها أخاديد محفورة في وجدان وعقل وعاطفة الكاتبة، التي التقطت مضامين قصصها من واقع مرير، ومجتمع لا يرحم، وان كانت المرأة فيه دائما هي الضحية.

ومما يلفت الانتباه أن الغالبية العظمى في قصص هذه المجموعة لا اسم لشخوص بطلاتها وأبطالها، فالشخص السارد جاء بضمير الأنا أو ضمير الغائب والغائبة، وهذا لم يأت بالتأكيد عفو الخاطر بمقدار ما أتى كصرخة من الكاتبة تقول فيها هذا هو مجتمعكم، وهذا هو واقعكم، وهي لا تتدخل ولا تقحم نفسها في القص، بل تترك شخوص هذه القصص تتحرك وتسرد واقعها دون أن تطرح حلولا لذلك، مع التأكيد انه ليس مطلوبا منها طرح الحلول، وانما هي(تدق جدران الخزان) على رأي الراحل الباقي غسان كنفاني.

واللافت في هذه القصص أنها تتميز تميزا لافتا في نهاياتها، وفي تقديري أن أيّ قارئ مهما كانت ثقافته واطلاعه، لا يمكن أن يتنبأ بنهاية القصة كما هو معتاد في غالبية القصص والروايات العربية، غير أن نهايات قصص سما حسن تأتي مفاجئة مع انها غير خارجة عن سياق النص، وغير مقحمة فيه، وهذه النهايات تشكل بحد ذاتها إبداعا أجزم أنه غير مسبوق.

وفي تقديري أن هذه المجموعة تشكل تطورا مفصليا في فن القصة الفلسطينية المحلية على الأقل. ويجب أن تخضع لدراسات معمقة نظرا لأهميتها، كما انها جديرة بالترجمة للغات اخرى كنموذج للفن القصصي العربي الراقي.

ومع ذلك سأحاول التعرض لقصتين من هذه المجموعة، تقصدت القصة الأولى (مدينة الصمت) التي تحمل اسم المجموعة، في حين اخذت الثانية بشكل عشوائي.

ملخص قصة مدينة الصمت هو فتاة تزوجت من شاب حصل على الشهادة الجامعية الاولى من احدى الدول الاوروبية، ودخل بها في هذه الدولة فلم يجدها بكرا، فتذكرت انها تعرضت لحادثة اغتصاب وهي طفلة لم تصل سن البلوغ بعد، فقاطعها ولم يتحدث اليها، وبعد بضعة شهور اشترى لها تذكرة،واعطاها نقودا قليلة ورافقها إلى المطار لتعود إلى اسرتها.

تبدأ الكاتبة قصتها (كان يجلس تحت قدميها عاريا، على حافة السرير، تلتمع قطرات من عرق على صدره وكتفيه، رغم الاضاءة الخفيفة التي تشع من ضوء جانبي في الغرفة العابقة عطرا ساحرا، قال بعد تردد ولهاث وجدت.... اقصد لم اجده...) ص5 ليتبين لنا لاحقا أنه لم يجد غشاء البكارة. ولتعود القصة قائلة(سنوات ست مرت على الحادثة التي افقدتها الشئ الذي لم يجده هذا الرجل القابع في لجة من الذهول القلق) ص 5 وهذا يعني أن الفتاة كانت في سن يقارب الثامنة عشرة، فحادثة الاغتصاب التي تعرضت لها كانت قبل سن البلوغ بأيام كما جاء لاحقا في القصة، ومعروف أن البنات يبلغن في غالبيتهن ما بين الحادية عشرة والثالثة عشرة في بلادنا.

وتعود بها الذاكرة إلى فترة الخطبة، وتحدث نفسها قائلة عندما قبلت به خطيبا لها(هي متأكدة من أنها ليست أول امرأة يعتلي جسدها، مهما حاول الادعاء والتظاهر) ص5...(لا يمكن أن يكون سافر إلى بلاد الحرية وبقي ناسكا) ص 6

وتتذكر انها كانت تلعب وزميلاتها لعبة الحجلة فطلبن منها(البحث عن حجر صغير مصقول ينفع ليتقاذفنه بأقدامهن دون أن يخدش أحذيتهن السوداء اللامعة) ص 6
وبما (ان السور الخلفي لمدرسة وكالة الغوث كان مهدما ، قررت أن تجتازه إلى بستان صغير كثيف الأشجار، علّها تعثر على بغيتها)ص 7

(وهناك رأت شابا يدير ظهره لها، عرفت من وقفته انه يقضي حاجة) ص 7

فأسرع اليها والتقطها(لا تعرف كيف اصبحت بين يديه، وكيف اصبحت تحته بلا حراك، وبلا صراخ وبلا دهشة، لأن الألم السريع حلّ " محلّ " كل هذه المشاعر) ص7

فعادت إلى البيت وحاولت تناسي ما حدث،.... فقدت شهيتها للطعام، لاذت إلى الصمت والانطواء وبعد ايام(جاء زائر النساء الشهري لأول مرة... فوجدت أمّها التفسير المنطقي لتصرفاتها غير الطبيعية في الأيام الماضية واستراحت له) ص8
وتعود القصة إلى بدايتها "ليلة الدخلة" في المدينة الضبابية، حيث لم يعد الزوج يتكلم معها (تمنت لو يتكلم ، وخابت توقعاتها في " أن يقترح عليها اصطحابها إلى طبيبة قد تلقي امام عينيه احتمالات تزيح بعضا من الشك، أو تضع بعضا من الثقة. لقد قرأت خلسة في مجلة طبية عن انواع كثيرة من ختم الفتاة، وزوجها مثقف، فلماذا لم يخطر بباله أن يكون ختمها من نوع نادر؟) ص 8

وعندما استقلت الطائرة عائدة إلى بلادها (لم تشعر بألم وحسرة، لكن من بعيد رأت المدينة الضبابية لا تختلف بناطحات سحابها عن مدينتها الصغيرة) ص 9

ويلاحظ أن الكاتبة استعملت اسلوب الاسترجاع في القصة، فقد بدأتها من ليلة الدخلة في المدينة الاجنبية، ثم عادت إلى فترة الخطبة، ولتسترجع بعد ذلك فترة الطفولة المغتصبة، ولتعود مرة اخرى إلى الدخلة وموقف الزوج الصامت، ثم عودة الزوجة إلى بيت اهلها.

وواضح امامنا أن الفتاة تعرضت للاغتصاب وهي طفلة، ولم تكترث أسرتها بتغيرات تصرفاتها في اعقاب ذلك، وان الزوج خريج جامعي درس في اوروبا، حيث العلاقات الجنسية المفتوحة، وبعض شبابنا يتزوجون من فتيات اجنبيات، ويجدون لهن الاعذار لمعاشرتهن غيرهم قبل الزواج،غير أن الزواج من عربية شرطه البكارة، وبما أن الزوج متعلم فانه بالتأكيد يعلم أن البكارة أنواع، وبعضها لا تنزل منها الدماء ليلة الدخلة، ومع ذلك لم يكلف نفسه عناء التفكير بذلك، ولتبقى الفتاة ضحية أكثر من مرة، ولا تقبل منها الأعذار.ويلاحظ أن التعليم في دولة أوروبية لم يساعد الزوج الا في الصمت،وما لم تقله القصة هو أن الزوج لو لم يمن متعلما، أو كان متعلما في احدى الجامعات المحلية، فانه لن يصمت وانما سيفتح أبواب جهنم على الزوجة الضحية، ومن هنا جاء اسم القصة(مدينة الصمت) أي أن الزوج اكتسب الصمت من المدينة الأوروبية.

أما قصة " اللقيط " فهي تتحدث عن طفل لقيط، وجدته احدى النساء تحت شجرة جميز، فتبنته وربته بعد استشارة زوجها السجين وحماتها، وهذه المرأة التي تبنته لم يسلم من لسانها، فعندما تشاجر مع ابن الجيران وصفته (بابن الحرام ، نبت شيطاني ليس له أصل ولا جذور) ص56 وحتى عندما تبنته لم ينقذها من تهمة أن تكون أمّه سوى أنها كانت حاملاً (تحسست بطنها المنتفخ وهي تتأكد من دليل براءتها) ص57 ولم يرحمه أحد حتى إمام المسجد نعته بـ (ابن الحرام)حين مرّ بدراجته ولطخ ثيابه بمياه الشارع الموحله ص57

وتلاحقه لعنة الحياة لتتركه وحيداً وهو ابن عشر سنوات عندما أصيبت أمّه بالتبني بالسرطان، (وقد فكر الطفل كثيراً بمن تكون أمّه، فكر أنّه ابن لحظة شيطانية بين رجل وامرأة، ابن شهوة، وابن تجربة أولى لفتاة صغيرة تكتشف جسدها لأول مرة، وتفجر مكنون شهوتها لأول مرة) ص 58 لكنه لم يتقبل مطلقاً أن يكون ابناً لمومس، وقد رأى نفسه في كل الأحوال نواة ملقاة في الشارع لفاكهة لذيذة.

وتنتهي القصة عندما التقط هذا الطفل عقبا ذهبياً لسيجارة وقدمها لشاب مهندم أنيق، فقال له الشاب(هل أنت مجنون؟ ماذا أصنع بعقب سيجارة؟ أنت لم تجد أهلا ً يربونك؟ ويعلمونك، ملعونة أمّك... استشاط الصبي غضباً واحتشدت عيناه بأمطار غزيرة وهو يصيح: وملعون أبي) ص 59

ونلاحظ أن هذه القصة تطرح موضوعاً انسانياً فاجعاً في التعامل مع الأطفال(اللقطاء) في مجتمعنا بغض النظر عن الطريقة التي ولدوا فيها، هل هم ثمرة سفاح بالتراضي، أو بالاغتصاب، أو شيء غيره؟ ومع ذلك هم يعاقبون على جريمة لم يرتكبونها، بل هم ضحاياها، ومع ذلك فإن المجتمع ينبذهم.ولعنة اللقيط لأبيه جاءت لتؤكد أن هذا الطفل ضحية لمجرمين هما الأب والأمّ،وليست الأمّ وحدها.

يبقى أن نقول أن هذه المجموعة القصصية تشكل اثراء للمكتبة المحلية والعربية.
(ورقة مقدمة لندوة اليوم السابع في المسرح الوطني الفلسطيني في القدس)

بقلم: جميل السلحوت

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى