الجمعة ٢٥ حزيران (يونيو) ٢٠١٠
بقلم بيسان أبو خالد

مراثي الجنون

أحبك لا تتسرع بطي جناحي تحت سمائك

أعترف الآن أن وضوحك يأخذ شكل الضباب المخاتلِ

وتشتد فيَّ الرياحْ

وتأخذ أشرعتي نحو بحرك

أنت محيط السنين التي تتجلى

قراصنة سرقت كل عمري.

أحبك مهما بدوت بعيداً

ومهما تسلَّقت وهمي لأبلغ حلمكَ

هذي بلادي تؤرخ صمت العناكبِ

حين ستنسج من خيط هذا الدمِّ المترقق داليةً

تتصيد خمر الحياة

تعتًّق في رشفة النخب أمنيةً

يتسنى لها أن تكونَ

في أتون التوجسِ

أمتلئ الآن حزناً وشوقاً لعينيكِ

تتَّسع الآن أحداق رؤياي

أبقى على شارعي

أتكاشف في خطوتي هل وصلنا؟

هي الأرض آخرة تستطيع التوقَّفَ ثانية ليس إلّا

هو الحبُّ ذاكرة كي نؤجِّل حاضرنا برهة في الوراءِ

فلا حول لي أن أجازف ثانية بالزمنْ

ولا حول لي كي أقامر بالنبضِ

فوق موائد هذا السدى

ولا وسع للأرض أن تمنح العشق كل المدى

تأخرت عن كل تلك النساء اللواتي حلمن بفارسهنَ

يروِّض خيل الأسى تحت سرج الصدى

فكيف وأنت تغازل عاهرة في حواري النحيبِ

لتخرس جوع العبيدْ

تأخَّر فينا سرير الشهيدْ

وغانية في زوايا البلاد تقصقص أجنحة المستحيلْ

تأخَّرت عن جسد فطر أوصافه وأسلم نزواته لغزاة النخيل

وبيني وبينك

تاريخ أمتنا يتصاعد في غيهب الوقتِ

لا يصفح الكون عن ضعف من آثروا طوف نوحِ

ولا من أجازوا لقابيل يوماً جريمته في الأصيلْ

فكيف لنا أن نحيل كوارثنا للتساؤلِ؟

ما عاد في الأرض فلسفة سوف

تجرؤ أن تتجاسر ثانيةً

بعد لينين ما عاد ملء العدالةِ

عشٌ لأسراب كل القرامطةِ العائدين من المدن الغاشمةْ.

وما عاد ليندي ليوقظ أحلامنا النائمةْ

فهل قلت شيئاً جديداً؟

وهل زمن الرد وقف على أول السائلينْ!

ترى هل تبقى لنا حقبة من جنون سيعلن موت الحضارات في حيِّ سوهو

فلا تحتمي بافتراض الغيابِ

لأن الحضور هلاكْ

ومسرحنا يتشابه مع حلبات افتراس البطولات.

كانت تسليك روما القديمة كانت تسليك

هذا الصراع الذي كاد يدمي الفراغْ ونحن نصفِّق

أكان لقيصر عينان ترقب كيف سيقتل بعض الرجال الرجال؟

ولا يتبقَّى من القمع غير النساء اللواتي يهيئن كعك الحدادِ لمن رحلوا

دون أن يعرفوا سبباً للولادة أو للرحيل

وأطفالهم في الكهوف يصلُّونَ

لا أحدٌ في البراري سيجرؤ أن يُوقِفَ الآن طاحونة البغي

سرب الجياد يفرُون جرحى

وتلقي بسيِّدها في الرمِّال

وحشد من العمي مرُّوا على الطرق الآن كي يرشدوا الناس نحو الشموسِ

ونحن نعدُّ الخطى خائفين من الموتِ

لا نستطيع التَّوقف في الحبِ

لا نستطيع التَّخفيَ خلف قناع البقاءْ

سنعرف أن سوانا وصلْ

جذام وطاعون هذي الليالي قُبَلْ.

فلا حبَّ يجرؤ أن يعبر الآنَ

من جسدين على صدفة في مقاهي الرصيفِ

هو الخوف جرح تَقيَّح من عولمات النزيفْ

وبيني وبينكَ

هل ما يزال المحالْ

وأشياء لا تتنبأ فيها الكؤوس جواباً

إذا ما التقت ملء نخب السؤالْ؟

لعزلة "دوساد" في داخلي حلكة الأقبيةْ [1]

لها كتب هرَّبتها الأكفُّ التي جالدته

إلى النَّشر من خرم جدران تلك السجونْ

تقيَّأ عشق الهدى للمجونْ

نساء القضاة يهرِّبن تحت الوسائدِ فحش المكائدِ

ولم يبق حبر من الجرحِ

كيما يصوِّر عقم العصورِ

التي باعدت بين أحزاننا.. والورقْ.

لفيكتور جارا أصابع مبتورة فوق أخشاب قيثارة تحترقْ [2]

ونحن نجامل فأساً

يحزُّ على القلب زيتوننا مثلما جزَّ نوح حقولاً بأكملها

لكي يتسنى لمن ركبوا الطوف بأن يخذلونا

وأن يتفادوا صديد الغرقْ

فيا ابن خلدون

كانت مقدمةً

ويا ابن خلدون

كانت هي الآخرة

وما بين هاتين سرٌ سيكتبه الشعراء بأسفارهم

حالما ينطق الشهداء تفاصيل مقتلهم

حالما يفصح اللغز عن صانعيه

ويصبح سراً بريد الغزاة

سنعرف ماذا حدث

عندما سوف يولد جيل نسي

وما عاد يشغله كيف تسقط بغداد في ليلة القدرِ

أشياء لن تشغل العابرين إلى الجازِ.

لن تتكاثر في خفة النسلِ

لن تجعل الله موضوع أيماننا فانتظرْ

وسرٌ لطروادة اليوم شعرٌ وشعرْ

فطوبى لكم أيُّها الصامدونْ حصاراً حصاراً

يفاجئكم غزو قافلة في قناع هوى فجأةً

ثم طوبى لتدمر حين رأت في القوافل عبء الحديدِ

وما عرفت أن وحشاً يخبئ أنيابه في جمال البعيدْ

وطوبى لزنُّوبيا: إذْ تموت

وشعرٌ هو الشعرْ

أسطورة سوف تصبح هذي البلاد التي صلبت نخلها

إن دجلة كحل وحبر العراقْ سواد

برابرة ينهبون الأوابد

من ساحة المعجزاتْ

فيا من سرقتم من الأمس تاريخنا

ومن حاضر آثم غدنا

ونحن الذين

سُلِبنا المكان سلبنا الزمانْ

سنغزو شوارعكم كل حينْ

برابرةٌ يُرجِعون الحضارة نحو السديمِ

هنا لغةٌ من هنود يعيدون جرح سياتل نحو النَّزيف

وتلك مقابر ستين مليون لا يعرفون الجنازةْ

ولا يعرفون من الأرض إلا القيامةْ.

وشيء يحاسب فيكم دم العابرينْ

فيا امرأةً دفنت زوجها عنوة في مقابر أعدائها

هنا لا تخافي زيارة هذا النزيل على فندق الغرباءِ

خدي الآن آس البسوس لغار حراء

واقرئي باسم كلِّ فلسطين

كلُّ الذي سوف يُكتَبُ من قصص الخلق عند اشتداد الوباءِِ

وحدنا في العراءِ

هنا لا تخافي الخيام التي نُصبت من جلود النساء

هجرةٌ هجرتان ثلاثٌ ونبلغ عرض السماء

وإن لم نعد مثلما يحلمون

لسوف يعم الخرابْ.

أنا من أنا بعد موت السرابْ؟

وأسألكم.. كيف.. كيف

نهبتم كرامة بغداد كيفْ؟

وكيف استطعتم إحالة أبراج بابل في برهة للحطامْ؟

فيا أيها الوالغون بوادي الدماءْ..

وجرح العدالة

من العار أن تتركوا في المحاكم نيرون

أن تتركوه يحاكم روما.. رمادا

فحن نحب الحياة.. فلا تجعلوا وجهها يتعفن تحت قناع الجريمة..

أستودع الآن أهلي

أقول لهم إنني واحد سوف يرديه هذا الرَّصاص قتيلاً.

وإنِّي أعيش نزيل الجسدْ

كما كان خوفو يظنُّ وبيتي الهرمْ

أنا واحد من ملايين يَعرُب لم يستطيعوا تجاوز حربين

من غير أن يدفنوا وجههم في مقابر تلك البلاد التي ما استطاعت إلى الكبرياء سبيلاً

فظلّت سجينة قضبان تلك الخرائطْ

لقد قتلتني بلاد تبدِّل أسماءها بمرور الغزاةْ

عواصم مسبية تتجاهل تاريخها في المتاحفِ

وطفل سينكر صرح ذويه إذا مرَّ هذا الغريب

على حلمه ريثما يعرف العمر أنسابه

بأصابع عرَّافة تائهةْ.

أنا الآن نافذةٌ إذ تطل على مشهد لا يروق لها

تستطيع التحطُّم إن لم تشأ أن تكون سبيلاً

لعينين حدَّقتا في الطَّريقْ

ولكنني كالمرايا على فضَّتي عبء من يُؤخذون إلى الصلب أحياء

غارُ السدى وعلى فضَّتي وجه سيدة نسيت زوجها

وحبر معلََّقة أنزلت فجأة في الوحولِ

وسرج رماه الزُّناة أمام سنابك كل الخيولْ

قناع على الأرض في آخر المهرجانْ

فيا من سرقتم جلال الزمانْ

وسر المكانْ

أجل سوف نأتي إليكم من القبر.. لا شيء نخسره غير دود الفناء

نعود إليكم

كما عاد غوغول في معطف الكرنفالْ

سنرجع يوماً إلى حينا.. رغم هذا المآل..


[1الماركيز دو ساد المعروف بتعذيب النساء في الغرب.

[2عازف الغيتار التشيلي الذي قطَّعت أصابعه الفاشية.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى