السبت ٩ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٦
بقلم عادل الأسطة

مرايا وحكايا فاروق مواسي

" مرايا وحكايا " (2006) قصص قصيرة جداً للباحث والأكاديمي والشاعر والقاص د. فاروق مواسي، ابن باقة الغربية في فلسطين. ويبلغ عددها ستا وستين قصة، كل قصة تقع في صفحة واحدة، إلا واحدة تقع في صفحة وثلاثة أسطر.

والقصة القصيرة جداً في الأدب الفلسطيني معروفة منذ أوساط السبعينيات من ق20، فقد كتبها زين العابدين الحسيني ومحمود شقير، وربما أثارت جدلاً بين النقاد الذين انقسموا بين معارض لها ومؤيد لها. وهي ليست بدعة جديدة في الأدب العالمي وخاض النقاد في خصائصها، ووضعوا مقاييس لها.

والقاص فاروق مواسي، كما يقول في الاستهلال الذي كتبه لمراياه وحكاياه، يعرف أبرز كتابها وأبرز خصائصها. إنه يذكر اسم القاصة ( نتالي ساروت ) التي أصدرت أول مجموعة قصصية لها، وهي " انفعالات "(1938). وهو يترسم الصيغة وينسج على منوالها.

وهو في حديث تلفوني معه، يعرف أن محمود شقير من أبرز كتابها في الأدب الفلسطيني، ولكنه أبرز من كتبها في مناطق الاحتلال الأول (1948)، هذا إذا كان غيره كتبها.

إننا، إذن، أمام قاص يخوض في جنس يعرف من كتبوا فيه، في الأدب العالمي، وفي الأدب القومي أيضاً، ويعرف أكثر من هذا خصائصه، وقد أتى عليها في الاستهلال الذي ناقش فيه أيضاً قضايا أخرى مهمة، وما زالت موضع جدل ونقاش بين دارسي الأدب.

يأتي الكاتب على ما يريده من قصته " أن تهمس ... أن تنقل .. أن تحرك .. أن تجتاز إلى مناطق مختلفة "، وهو يكتب لأنه مضطر لممارسة هذا الفعل، ففعل الكتابة ليس ترفاً أو طواعية. وهو دائماً يسأل نفسه: لماذا أقص؟ ولماذا؟ ولمن؟ فإذا ما كان لديه جواب لهذه الأسئلة أخذ يقص، وإلا فلا.

ويتضح من خلال كتابة الكاتب أنه ما زال يؤمن بجدوى الكتابة، وتأثيرها على المتلقين، شأنه في ذلك شأن أدباء المقاومة في بداية حياتهم الأدبية، حين كانوا ملتزمين ومدركين لأهمية الكلمة في التغيير، وحين أرادوا لقصائدهم أن تكون مصباحاً، وأن تدخل البيوت، وأن تسر الأصدقاء وتغيظ الأعداء، وحين كانت حروفهم المدلهمة أحزان أمة، وهذا ما توقف أمامه مطولاً غسان كنفاني في كتابه " الأدب الفلسطيني المقاوم " تحت عنوان: أدب المقاومة: أبعاد ومواقف. شأنه شأنهم في الستينيات، لا شأنهم الآن، فقسم منهم أخذ، منذ السبعينيات، يتساءل عن جدوى الكتابة، سواء على لسانه: لم أجد جدوى من الكلمات، إلا رغبة الكلمات في تغيير صاحبها، أو على لسان طالبة: ستقول طالبة: ما نفع القصيدة في الظهيرة والظلال؟ شاعر يستخرج الألفاظ والبارود من حرفين، والعمال مسحوقون في حربين؟، وذهب هذا القسم إلى ما هو أبعد من ذلك فكتب: لست النبي لأدعي وحيا، وأعلن أن هاويتي صعود. علماً بأنه عندما كان ماركسياً، كان يرى في الحرف إعصاراً وزلزالاً، وكان مثل النبي، يريد، بواسطة الشعر، تغيير العالم.

وأما القسم الثاني فقد آلت أحواله إلى ما لا يسر صديقاً وما لا يغيظ عدواً. بل لقد أرخص الكلام والشعر معاً، وأعطى مبرراً لأفلاطون، هذا الذي طرد الشعراء من جمهوريته لأنهم يمالئون الجماهير وينافقون الحكام. غدا شعراء هذا القسم حالهم حال النابغة الذبياني والمتنبي، على الرغم من رفضهم لسلوك الأخير ووقوفه على بلاط الحكام مادحاً، أو هارباً فهاجيا. هل كان أي منا يصدق أن شعراء المقاومة، في قسم منهم، سيتحولون إلى شعراء مديح وتكسب؟!

في الاستهلال يكتب فاروق مواسي عن نهايات قصصه إنه ليس ممن يكتبون قصة ذات نهاية مغلقة تقول ما يريد القاص قوله، وبناء عليه يترك نهايات قصصه مفتوحة حتى يشارك القارئ في النقاش، ويكون بالتالي كاتباً آخر، ثانياً، للقصة. هنا يثق مواسي بالقارئ، وهنا لا يريد أن يجعل منه متلقياً مسلوب العقل. إنه يثق في ذكاء القارئ، ولا يريد أيضاً أن يسلبه متعة التفكير.

ولا يتركنا المؤلف نثير سؤالاً عن راوي قصصه. منذ البداية يقول لنا إن راويها غير كاتبها، وإن كانت صلة الثاني بالأول حميمة. ولا تقول لنا القصص شيئاً عن راويها. لا نعرف له ملامح خاصة تميزه عن الكاتب. ولا أدري إن كان ثمة ضرورة في المقدمة لكتابة عن النهايات والراوي. لماذا لم يترك هذا للقارئ؟

والكاتب الذي كتب عن النهايات والراوي، وتوقف أمام جدوى الكتابة، يواصل كتابته عن محاور تتصل بكتاب القصة: الراوي وقدراته التي ينبغي أن يطورها ويثقف نفسه بالخبرة المتعددة، والجمهور – أي القراء الذين يحاورهم الراوي، حتى يتولد التغيير، والقص. ثُمَّ يأتي إلى خصائص القصة القصيرة جداً.

يرى الكاتب أن القصة القصيرة جداً يجدر أن تعبر عن أحاسيس عفوية واعية مقاربة للحياة. ويرى أن من أبرز خصائصها الاقتصاد في الوصف والاستغناء عن عنصري الزمان والمكان أيضاً. ولعل أبرز خصيصة تقوم عليها هي المفارقة. وما يراه هنا هو ما يراه نقاد القصة على أية حال، وهو ما توقفت أمامه وأنا أدرس سيرة محمود شقير القصصية تحت عنوان: " محمود شقير وقصتنا الفلسطينية القصيرة "( انظر كتابي: سؤال الهوية، فلسطينية الأدب والأديب، دار شروق، 2000 ).

هكذا، خلافاً لقصصه، يقول الكاتب في الاستهلال كل ما أراده من وراء كتابة " مرايا وحكايا ": خصائص هذا اللون من الأدب، وأبرز كتابه عالمياً، وموقفه من الأدب ومن مؤلفه وقارئه، كأنما جهز القارئ بالعدة الكاملة التي ينبغي أن يتزود بها، وهو مقبل على قراءة الصفحات اللاحقة. هل بقي إذن ضرورة لأن يكتب المرء عن هذه القصص القصيرة جدا؟ ربما يكون الأجدى أن يكتفي بقراءتها، والاستمتاع بكثير منها، ولا أشك أن القارئ، قارئ الأدب، سيلحظ في كل قصة من قصص فاروق مواسي هنا، تقريبا، تجردها من المكان ومن الزمان واقتصاد المؤلف في الوصف، وقيامها على المفارقة.

قبل أن أختار قصتين من قصص المجموعة أود أن أذكر قارئ الأدب العربي بأدبين كبيرين لهما باع في كتابة النصوص النثرية والشعرية التي تتسم بالاقتصاد والمفارقة، وتقوم على أساس التجرد من الزمان، وربما المكان، وهما د. طه حسين في كتابه " جنة الشوك " و " أحمد مطر في لافتاته. وقد أنجزت عن الأخير مقالة أرى أنها مهمة، عنوانها: " أحمد مطر وفن الابجرام " أتيت فيها على خصائص هذا الفن، وعلى المقدمة التي كتبها طه حسين لكتابه المذكور، وناقش فيها أهم خصائص الإبجرام.

سأختار قصتين فقط من قصص مرايا وحكايا.
القصة الأولى عنوانها: " لا أعرفها " ونصها:
 قالت لزوجها: " أما ترى هذا الرجل كيف يقبل يد امرأته.
انظر إليه وهو يحتضنها!! انظر! لقد نسيا ذلك منذ
زمن! لماذا لا تجدّد الحب؟"
 قال: " ولكنني لا أعرفها !"

وواضح أن القصة تقوم على إغفال عنصري المكان والزمان، وعلى الاقتصاد في اللغة، وعدم الإسهاب. وتشكل المفارقة عنصراً مهماً من عناصرها، فالمرأة تطلب من زوجها أن يجدد الحب معها، لا مع المرأة التي تتحدث عنها، وبدلاً من أن يقول لها: لنفعل ذلك، يجيب زوجته: ولكنني لا أعرفها. المرأة التي تتحدث عنها الزوجة شابة، خلافاً لها هي التي غدت، في نظر زوجها، عجوزاً أو كبيرة، وهو يريد أن يجدد الحب مع شابة يعرفها، لا مع عجوز جحمرش. إنه يتهرب من زوجته التي ما عادت ترضي غروره. ربما.

والقصة الثانية هي قصة " مكالمة " ونصها:
 " رن جرس الهاتف.
يسرع سعيد أولاً ليجيب. بينما العائلة ترتقب.
سعيد ( يهاتف جميلة ):
يا صديقي أحمد. أنت تعرف كم أحبك! وأعزك يا أحمد يا كل الكل ..
 على الخط الثاني كانت جميلة ( تهاتف سعيداً ):
أنت تعرفين يا ليلى كم أحبك وأموت فيك. دخيل الله، وهذه قبلة ...
وتمضي المكالمة دون انقطاع "

ما قلناه عن خصائص القصة الأولى يبرز هنا أيضاً. هنا يكون المؤلف ناقداً لسلوك الشاب والشابة، ساخراً من المجتمع، من الأدباء والأمهات الذين يضحك عليهم أبناؤهم ويستغبونهم. وربما تذكر المرء هنا ما ورد في إحدى روايات نجيب محفوظ: كل الرجال يدعون أنهم رجال، وأن عائلاتهم شريفة ونظيفة. كل الرجال يزعمون أنهم مارسوا الجنس مع .. ومع .. ومع. ويتساءل أحد الشخوص: من هم العاهرات إذن؟

الفتاة تخدع أهلها، والفتى يخدع أهله، والأهل آخر من يعرفون .. وتمضي المكالمة دون انقطاع، ويمضي أهلها يتحدثون عن شرف ابنتهم التي لم تعرف الرجال إطلاقاً.

صباح السبت
2/12/2006


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى