
«مشكلة الحضارة الإسلامية».. هل تنهض الحضارات من جديد؟

يدرس الباحث السعودي زكي الميلاد مشكلة الحضارة الإسلامية، استنادًا إلى أن مشكلتها لا تنفصل في إطارها العام عن مشكلة الحضارات الإنسانية الأخرى، ومن ثمّ ينطبق عليها ما ينطبق على تلك الحضارات من قواعد وقوانين وسنن ميلادًا وتدهورًا، قيامًا وسقوطًا.
الكتاب نفسه، وقد صدر حديثًا عن "الآن ناشرون وموزعون"، في الأردن (2025)، ينطلق من التأكيد على ضرورة التفحص العلمي والتبصر التاريخي لمشكلة الحضارة الإسلامية، لكونها من المشكلات المُعقَّدة والمُركَّبة والممتدة زمنًا وتاريخًا، والعمل على إخراجها من دائرة التناول الوعظي، أو البيان الإطلاقي، أو النظر التجريدي، أو الطرح السطحي، فهذه الأشكال من الطرائق لا ترتقي إلى مستوى التعامل مع مشكلة الحضارة، وليست قادرة على التعاطي الفعَّال معها، ويظهر عليها الضعف والقصور في نواحي التبصُّر التاريخي، والوعي الحضاري، والفهم السُّنَني.
أما القضية التي توقف المؤلف عندها، وتقصد إثارة الحديث عنها، فهي، وفق ما جاء في مقدمة الكتاب: في وجهتها العامة تتعلق بقضية: هل أن الحضارات تنهض من جديد أم أنها تنهض مرة ولا تنهض مرة ثانية؟ فإذا تدهورت الحضارة أو هرمت أو ماتت انتهى أجلها نهائيًا، فلا رجاء لعودتها مرة أخرى! لذا فإذا قلنا وثبت في التاريخ أن الحضارات لا تنهض من جديد، فإن الباب ينغلق أمامنا، ومن ثمّ فلا جدوى من الحديث عن نهضة الحضارة الإسلامية من جديد، وعندئذ يتجه البحث بالنسبة إلى الحضارة الإسلامية وينصرف نحو الماضي، ويتعلق حصرا بالتاريخ، وينغلق أفق المستقبل!
أمام هذه القضية المُعقَّدة، وفق المؤلف، ينبغي أن نفرق بين الحضارات التي ماتت وثبت في التاريخ موتها، والحضارات التي تدهورت لكنها لم تصل إلى درجة الموت والفناء. فالحضارات التي ماتت بشهادة التاريخ فإنها لا تنهض من جديد، وهذا ما يصدق فعليًا على الحضارة السومرية في بلاد الرافدين، والحضارة الفرعونية في مصر، والحضارة الساسانية في بلاد فارس، وهكذا بالنسبة إلى حضارة الأزتيك وحضارة المايا في أمريكا الوسطى. أما الحضارات التي أصيبت بالتدهور القصير أو الطويل ولم تصل إلى درجة الموت، فإن بإمكانها التغلب على هذا الوضع المريض والنهوض مرة أخرى، وهذا ما يصدق فعليًا على الحضارة الإسلامية التي تدهورت في الماضي، لكنها لم تمت قطعًا، وهذا ليس بشهادتنا، وإنما بشهادة غيرنا، وتحديدًا من الغربيين باحثين ومؤرخين ومستشرقين.
وجاء الكتاب في خمسة فصول، الفصل الأول تطرق إلى النموذج الخلدوني الذي رجع إليه بعض الباحثين العرب والمسلمين المعاصرين مستندين إليه في تحليل مشكلة الحضارة الإسلامية، بوصفه نموذجًا ينتمي إلى المجال الإسلامي، ويتعلق بالحضارة الإسلامية، ويعدّ من أسبق النماذج تبلورًا على مستوى الفكر الإنساني عامة في نطاق دراسة ظاهرة الحضارة، وقد استند فيه ابن خلدون إلى علم العمران البشري الذي ابتكره بجهده ودرايته. إضافة إلى كون أن ابن خلدون يعتبر أول من تنبه إلى مشكلة الحضارة الإسلامية وقدم نموذجًا لتحليل هذه المشكلة في القرن الرابع عشر الميلادي. وقد انتهى المؤلف في هذا الفصل بعد فحص وتتبع لوجهات النظر، إلى أن النموذج الخلدوني لا يمكن التخلي عنه في هذا الشأن المتعلق بدراسة مشكلة الحضارة الإسلامية، كما لا يمكن الاكتفاء به لوحده، بل لا بد من الاستفادة أيضًا من النماذج الحديثة.
وفي الفصل الثاني، اتجه النظر إلى المستشرقين الغربيين، بحثًا عن منظوراتهم في دراسة مشكلة الحضارة الإسلامية، لكون أن هؤلاء قد اعتنوا بدراسة الحضارة الإسلامية، وبذلوا جهدًا كبيرًا في هذا الشأن، واتخذوا من هذا الموضوع حقلًا دراسيًا جادًا، وقدموا دراسات عديدة تفاوتت من ناحية الأهمية. وقد توقف المؤلف عند بعض هذه الدراسات مركزًا النظر على منظورات هؤلاء المستشرقين في دراسة مشكلة الحضارة الإسلامية.
وبالنسبة إلى الفصل الثالث، فقد تناول قضية مهمة هي في صلب البحث عن مشكلة الحضارة الإسلامية، وهي قضية (روح الحضارة الإسلامية)، ويبين المؤلف أن هذه القضية تعدّ من البحوث الجديدة، وقد عُرفت لدى المتأخرين في هذه الأزمنة المعاصرة، ولم تكن معروفة بهذا العنوان لدى المتقدمين، فلم ترد هذه التسمية عند ابن خلدون في مقدمته الشهيرة التي احتوت على تسميات اصطلاحية كثيرة لها علاقة بقضية الحضارة والعمران البشري. وقد حاول المؤلف في هذا الفصل تقليب النظر في هذه القضية تفحصًا وتبصرًا، سعيًا لمعرفة ما المراد من مفهوم روح الحضارة الإسلامية، وما علاقته بمشكلة الحضارة الإسلامية.
أما الفصل الرابع، فيمثل منزلة اللّب في البحث عن مشكلة الحضارة الإسلامية، وقد حاول فيه المؤلف، قدر الإمكان، تقديم رؤية جادة في هذا الشأن، تتخطى الطرح التقليدي، وتتجاوز النهج التبسيطي. وفي هذا النطاق تطرق إلى العديد من القضايا المهمة، منها: هل ماتت الحضارة الإسلامية؟ هل تنهض الحضارات مرة أخرى؟ هل يمكن قيام حضارتين متجاورتين بين العالمين الغربي والإسلامي، واحدة على ضفة شمال المتوسط، وأخرى على ضفة الجنوب. ثم يتجه البحث عن القضية الكبرى وهي: هل تنهض الحضارة الإسلامية من جديد؟
وينتهي المؤلف في الفصل الخامس والأخير إلى البحث عن قواعد الحضارات في المنظور القرآني، مؤكدا أنه لا يمكن تفحص الحضارة الإسلامية قيامًا وتراجعًا من دون العودة إلى القرآن الكريم والتبصر فيه، كونه جاء للناس بصائر وهدى، وتأكيدًا على حقيقة أن من القرآن بدأت الحضارة الإسلامية في عصرها الأول القديم، ومنه كذلك تبدأ عصرها الجديد.