الاثنين ١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٣
قصة قصيرة
بقلم جمال الطحان

مكاشفـــــة

ما جدوى الكتابة إذا كان الرقيب الذي نحمله في داخلنا أقسى وأكثر إرهاباً من ذلك الذي ندّعي أنه يراقب حركاتنا وسكناتنا للإيقاع بنا ؟

لم يعد ذلك الذي يراقب النصوص مخيفاً بالشكل الذي نتوهّمه، لأنه - مثلنا - يدرك أن ما نصرّح به لايعدو أن يكون تنفيساً عن أحزاننا على وطن يذوي ونُطحن معه تحت متاريس سلط خارجية استطاعت تنمية عداءاتنا بيننا حتى أمسينا نحمل وحوشنا في داخلنا ونمضي.

نحن المثقِّفين بتنا نتسقَّط عثرات أشباهنا، أو يتسقّط أشباهنا عثراتنا محاولين إقناع ذوي الفعل بأننا فاسدون مفسدون .

لقد أثارني اثنان في يوم واحد، المحامي الذي استشرته في أمر عريشتي التي أزالتها البلدية بناءً على أوامر جاري (الطيّب)، والأديب الذي بدا متحيّراً كيف يمكن أن يقنع الآخرين كي يكاشفوه .

أما المحامي، وهو حقوقي قدير يمارس المهنة منذ عقود، فقد بدا حذراً يراقب الباب وأنا أشرح له مشكلتي :

نصف البلد تنعم بمخالفات متعدّدة من كل الأشكال والأنواع .. منها مايؤثّر على أسس المباني، ومنها مايؤثر على البيئة فيزيدها تلوّثاً .. ومنها ماينشر السموم بين أبنائنا وذوينا .. المرور لايعبأ بالمخالفات ولا بالضجيج .. مئات المركبات تنشر خلفها سرطاناً مرئيّاً يلتفح بالسواد .. وعشرات تحمل طابع وقود وتستعمل آخر .. الأبواق تصمّ الآذان وتكاد تصيبنا بالجنون … ومبانٍ كثيرة تعاني من سوء الصرف الصحي فتتجمّع الأقذار في الأقبية فيضطر سكّانها إلى استعمال طرائق بدائية للتخلّص منها خوفاً على مبانيهم من الانهيار

البلدية ليس لديها القدرة على تغطية تكاليف تجديد المجاري كي تجاري التوسّع السكاني الجديد..

المرور لايستطيع أن يوظّف لكل مركبة شرطيّاً يراقبها ..

التموين ليس لديه العدد الكافي ليقمع الغش والاحتكار والتلاعب بالأسعار…

التربية لايمكنها أن تركّب ضميراً لكل معلّم … والمعلّم لايكفيه الراتب مما يضطره إلى القيام بعمل آخر يحصّل منه الدخل الأساسي، ممّا يجعله يهمّش العمل التربوي، فيذهب إليه بنصف صحو وربع وعي وبكثير من الاستهتار وانعدام الهمّة .

يبدو أن المشكلة بدأت من عندي… لماذا تزوّجت وأنجبت أطفالاً ثم سعيت كي أؤمّن لهم مسكناً… وفوق ذلك كلّه .. أردت أن أحمي بيتي بعريشة، بعد أن أسهمت في الكثافة السكانيّة التي لاتحتملها إمكانيات البلدية في مدينتي …

أنا أتكلّم وعين المحامي على الباب ويداه على بطنه كأنّه يريد حجب صوتي عن الرقيب الذي يقبع في داخله.

أما الثاني، وهو أديب مرموق، يفكّر كيف يمكن إقناع المثقّفين بالتجاوب معه كي يحقّق الغاية من برنامجه الإذاعي الجديد " مكاشفات " ..

كلّما حاور مثقّفاً أسرّ له بما هو شائع، مما يجعل برنامجه اسماً على غير مسمى، لذلك فقد اقترحت عليه أن يفتتح المكاشفات بي.
وحين تأكّد من أنني لن أبخل عليه بالمكاشفة حول مايقلقني .. تهللت أساريره وأسرع إلى آلة التسجيل قبل أن أغيّر رأيي وأجبن :
 نلتقي الآن مع الأستاذ وائل الكاتب المعروف الذي لايفتأ يتحفنا بأفكاره الجديدة النيّرة التي تساهم في دفع عجلة التقدّم في بلادنا التي نتطلّع إلى إعادة مجدها القديم لتسنُّم قياد الحضارة من جديد…

أستاذ وائل : الصراحة هي الخطوة الأولى التي تقودنا إلى التقدّم .. وبرنامجنا الجديد (مكاشفات) يحاول أن يستنير بآراء مثقّفيه وطرائق تفكيرهم من خلال آرائهم الجريئة والصريحة التي يمكنهم أن يزودونا بها من خلال مكاشفاتهم.. بماذا يمكنك أن تكاشفَنا اليوم ؟

 أرحّب بك وأثُني على برنامجك الجديد الذي يحاول أن يرصد مايعتمل في نفوس الأدباء والمثقّفين، ويحثّهم على قول مالا يقال.. أو مايعدّه الناس سرّاً لايمكن البوح به خشية عواقب الرأي الصريح …
ولكنّني - بصراحة - أريد أن أكاشفك بأن تفكيري متمحور حول شيء واحد منذ عدة شهور، مما يجعلني أفكّر فيه على الدوام، بل كثيراً مايقضّ مضجعي فلا أنام .. وكل ماأكتبه منذ ذلك الوقت حتى الآن يدور حول الموضوع نفسه، ابتداءً من مشكلة انخفاض أسعار النفط.. حتى مأساة الحياة البشرية التي عانى منها جلجامش وسارتر وابن عربي …

 أعزّائي المستمعين .. لقد تشوّقنا فعلاً إلى مكاشفة الأستاذ وائل، ولا بد أن تكون مثيرة … أستاذ وائل نحن نصغي إليك، ماهي مكاشفتك للسادة المستمعين ؟

 إنها العريشة ياسيدي …

 العريشة ؟ أرجو أن توضّح للسادة المستمعين هذا المصطلح الجديد ؟
 ليس مصطلحاً ولا هو بجديد .. كل مافي الأمر أنّ في منزلي شرفة مكشوفة أقمت فوقها سقفاً متحرّكاً فجاءت البلدية وهدمته …

أوقف آلة التسجيل … رمقني بنظرة عتاب صامتة تحمل علائم الاندهاش، ثم قال :

ألم تكتب سلسلة من المقالات عن تلك العريشة

 نعم، ولكنها لم تُجْدِ

 والاستطلاع الذي نشرته مع بعض المحامين والمهندسين ؟

 لم يُجْدِ أيضاً .

 ألم تقل إنّ مهندس البلدية قال لك: ابنِ العريشة ولا خوف عليك ؟

 نعم قال ، وقال أيضاً : إذا عاد جارك إلى الشكوى ستعود
البلدية إلى إزالة العريشة.

 أين المشكلة إذن ؟

 المشكلة ياصديقي أنّني فقدت احترام جيراني الذين فقدوا الثقة بجدوى العمل في هذا البلد… كل التجار والصنّاع في حيّنا، لديهم عرائش، ولم يجرؤ أحد على هدمها … أما عريشة المثقّف الصحفي الذي ينبّه إلى الممارسات الخاطئة وينتقد الناس على تصرّفاتهم ويكتب ويكتب لقاء (فرنكات) .. فقد هُدمت عريشته … فما جدوى الثقافة والعلم في هذا البلد؟ وما دمت بلا سقف وبلا أمان … كيف يمكن أن أناقش مشكلة الصراع العربي الصهيوني … أو المرايا المحدّبة ؟…
ولم أكد أكمل كلامي حتّى وضع الأديب يديه على صدغيه وأطرق برهة… رفع آلة التسجيل عالياً … أعاد الشريط إلى أوّله :

 أعزائي المستمعين نحييكم ونرحب بكم في برنامجنا الجديد " مكاشفات " وحتى تكون للبرنامج مصداقيتُه … سأبدأ بنفسي أوّلاً فأكاشفكم بأنّ هذا البرنامج، في ظل مثقّف لاتظلّله عريشة أو سقف يؤويه، لايمكنه الاستمرار … أعزّائي المستمعين … انتهت حلقتنا لهذا اليوم.. بل لقد انتهى البرنامج الإذاعي الجديد في دورته الحالية …

وهذا ( أحمد ) يقول لكم : الوداع .

محمد جمال طحّان
ص . ب 8997
حلب - سورية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى