الجمعة ٢٤ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٨
بقلم بسام عورتاني

من الغربة إلى الوطن

مساء الخير

مساء الخير أيها الوطن. عساك كما تحب وعسى الليل كما اللون الأسود.

اشتقت إلى هذا الحنين الذي صلبني لآكل من لحمي مرتين: مرة عندما كنت واقفا ببوابة الذاكرة ومرة عندما كنت متأرجحا كالموج في وجه الصمت.

اشتقت لك يا سيدتي كي يتجدد وجداني من جديد وينمو الرحيق بين جفوني. فأنا هكذا كالإنسان المتماهي مع ذاته وكالبركان المنفجر من ذاته.

سيدتي لقد تراجع الموت لكي أمر وتراجعت أنتي لكي أعبث بشعرك الممدد على كتفي.

أنا وأنت هناك عند الحد الأخير من تصورات الخلق وعند نهاية أي حلم كان صغير.

وكل الأمنيات تراكمت لكي تصبح كرة ثلج تمر على رقاب من لا يدركون الحقيقة.

الحاجة عندي كحد السيف،إن لم تلبى تصبح عبأً وستنفجر دما على أي رقبة، فهي أم القصاص وأم الاختراع النهائي.

كل الخلق سيدتي يغني من أجلك، ومن أجل الجمال المسجى على أي طريق تمرين بها. كل الأغاني التي كتبت أخذت حروفها من ترددات صوتك، فلا تتردي بأن تتمردي علي وعلى كلي. أنا وأنت لسنا كالعادة نلهو بأي عبارات اخترعها الشعراء، نحن نلهو الآن بالأحجار الكريمة وبكل تفاصيل الطبيعة، نحن نشتق الابتسامات من رحيق الورود البرية. نحن خلقنا لكي نستمر بالحفر في أعماقنا وفي أعماق أي مجهول. من أجل الحضارات القديمة ومن أجل كل الرموز التي دفنت مع كل الكنوز التي تحمل الموت على راحتها لكي تنسى.

الأسماء تعبير عن مجاهيل حية وأسمك كالبدر حياة وضوء يزين الأرض ومن حولها ومع هذا لا يختصرك بل يجعلك قابلة لكل الاحتمالات والتأويلات.

مجهول رمزي يبتز الضعفاء ليسمو شموخا على رؤوس الجبال،أنت وأنا قصة من وحي كل الأشياء ومن اختراع من يتناقضون لكي نعيش.

فيك الأسماء تعطى قدْرها وفيك تنمو الطرقات. لقد تفككت قصائد العظماء لتركب تاجك وترحل مع أسيادها لترحل..

قد حان وقت السفر

الوقت يحدد الاتجاه ويحدد جملة المشاعر التي ترتبت ليتمدد وليتسع على حساب الأشياء.

لم يعد المكان مثير لحالة الفوضى الخلاقة، ولم يعد يستفز الوجدان كما العادة. بل أصبح بوجهه الآخر، الروتين الفراغ الذي يبتز الحشرات.

بالأمس كنا نتحسس الضياع بعمق، وكنا نتسلى على ذاكرة الفوضى وعلى تقلبات النفس المتعددة. وكنا نتألم لنبتسم بدون قلق، حتى التوازن كان من المفارقات التي تجعلنا نبتزه ولا نكترث له لأنه متوفر في كل مكان يشبهنا.

فعلاً كانت العادات التي خلقناها والمكان من صنع صدف مجنونة، ومن مواجهات تافهه أحياناً بين أحلامنا ألمصطنعه(أحلام الآخرين) وأحلامنا التي نبحث عنها بجِد ونجهلها بالوقت ذاته. ولم تكن المفاجئات ذكيه لأنها كانت تباغتنا ونحن نبتسم ونسخر بنفس الوقت.

الماضي الأقصى ملتصق بالزمن الوجودي ولم يستسلم بعد لإرادة الحب، ولكن يرسل لنا دائماً شارات تلاشيه ويخبرنا بأن المستقبل يقف على مرمى قبلة وحرارة ابتسامه.

أقنعة المسخرة التي نلبسها كل يوم قبل الخروج من المنزل نحتاجها لكي نمارس الحب بالطبيعة أيضاً. ونحتاجها لكي نبدو أفضل المتهكمين من ملابسنا الداخلية.

حان وقت الوقت، وحان الرحيل والارتقاء للمدى الذي ينتظر شفتاها، فلم تكن وقائع الحب القديمة مثريه لأي رواية بطل أو عاشق، ولم تعد رسائل الغزل ممتلئة من تراكيب المطبخ الشعري الخيالي/الواقعي، بل أصبحت مستهلكة لأنها لا تثمر أجنةً تؤكد الوجود البيولوجي. ما فائدة التأوهات التي تنتهي بالنعاس؟ وتنتهي بالقرف الفطري من الغريزة الشعواء؟؟هههههه

نجر الماضي ليلتصق بالمستقبل، فتتقلص المسافة بين الإحساس والإحساس وتتداخل أحرف الجر مع حركات النصب وأحزاب الجوع والرفع إلى السماء. نعم الفوضى نوعين: نوعٌ يُخلق ليخلق وآخر يُخلق ليهدم. نحن والوقت نقيضان هذا ما يقلق الوعي ويعطل الحواس...

تأملات بالعودة

كيف ترى نفسك؟ كيف ترى هذا العالم؟

من زوايا البيت القديم؟ أم من ثنايا الأفق الذي يمتلك خيالك؟

عدت إلى هذا المكان لتبدأ من جديد. مختصراً عشرة أعوام مرّت كالحلم.

أنت الآن هنا تتمايل بين ذاكرتين مثقلات بجمل مركبه، ذاكرة كونت ملامحك

ونحتت فيك إصراراً آخر. وذاكرة أخضعتك لكل العمليات الجراحية الممكنة.

كيف ترى نفسك؟ هل من الشباك يظهر القمر؟ أم من أفق النوارس يتجلى ألمك؟

للمكان خصوصية لا يدركها المستقر، يعطينا المكان ذاكرته ليموت بهدوء. ويترك لنا حيرة التناقض وبلاغة الأحلام.

أنت الآن بدون مكان. تترمى على أرصفة الطرقات وتريح مؤخرتك على أطراف مقاعد المقاهي العاهرة. تتذكر وتحلم، تبحث عن أطراف البدايات وبيدك وردة. تتلقى التهاني بالعودة، وهي حقيقةً فرحة الآخرين لألمك. لو كنت أعلم بأن ألمي سيفرح آخرين لما تألمت. لو أعلم بأن الفرحة تأتي على أنقاض الذات لما تضجرت.

شوارع هذه المدينة لا تشبه شيء، إنها تائهة وأسماؤها لا تصلح للمفاخرة. تذكرني بالانزواء وتجعلني أرتد على ذاتي.

أنت الآن عنوان جديد. تجربتك هي من صنع المكان القديم والحلم له السماء.

كيف تعرف ماذا تريد؟ هل البداية تبدأ بالتنازلات؟ كيف أعترض على أكلة ممله؟

كيف أنجو من رغباتي التي كانت تخرج من فوهة البركان بدون إعلان؟

تمنيت أن أغير اسمي لأستهل بالشكليات وبتنظيف المفاسد المستترة بين الأحرف الأولى التي نطقني بها العالم.

أحتاج لأمي لتدربني على أول خطواتي في البلوغ. تداعب هيجاني وتلاطف خشونتي، وتعاند عنادي لكي أشتد من جديد.

المسافة بين كل أعضائي تلاشت وتماهت نفسي بكلي، فأصبحت كتلةً تتنفس بالماء. والهواء يلفها كالعادة.

فعلاً أو حتماً سيكون الماضي ذيلاً أجرُّ به غبار الأرض. وسيكون الحاضر تحليقاً على فرائس ملائكية.

عاداتي تراجعت لتفسح المجال لمكارم الآخرين ولترتاح من حماقاتي ومزاج جسدي المتأهب.

في هذا المكان ينمو الحب في الطرقات الوعرة. ويترعرع بين همسات الضجر والخوف والعبث. ينتظر الفارس الشجاع ليفض بكارة الحلم. وينتهي بتفاهة ونمطية التكاثر.

قد تكون هنا الطبيعة مختلفة، لها قواعدها ولها تضاريس مشوّهه. فمثلاً الموت هنا من البديهيات نقاشها من بدائع القدر. والحجارة أيضاً هنا من ألعاب الفقراء. قد ترى دميةً من حجر أو سيارة من حجر أو كرةً من حجر. فهي من الصناعات الوطنية. لكنها لمستهلك وحيد بائس.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى