الجمعة ٣ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٦
بقلم عزت السيد أحمد

من يحق له الاجتهاد والتحديث

ليس التنطع للإفتاء والاجتهاد بجديد، ولكننا اليوم أمام سيل جارف من الفتاوى والاجتهادات المطروحة في الأسواق طرح أي سلعة. فهل الاجتهاد والإفتاء حقٌّ لأي واحد بدعوى حرية الرأي والتعبير ووجوب احترام الرأي الآخر؟

قيل لملك الشِّعر العربي أَبي الطَّيِّب المتنبِّي في أَمر ابتدعه: لا تقول العرب مثل هذا، أَو: لا يكون هذا في لغة العرب أَو شعرها. فأَجابه أَبو الطَّيِّب إجابةً ربَّما لم يفهمها وربَّما لا يقف على معناها إلا قليلون، إذ قال: أَنا أَخلق اللغة.

ولقد تعرَّض أَبو تمَّام ـ قدوة المتنبِّي وأَحد أَكبر أَعلام التَّجديد في الشِّعر العربي ـ لقصَّةٍ مشابهة، وذلك عندما سأَله أَحدهم: لم تقول ما لا يُفهم؟ ولم تقلَّ بداهة المعلِّم وأَلمعيَّته عمَّا كان عند تلميذه الفذِّ فقال للسَّائل: ولمَ لا تفهم ما يقال؟! ولقد اهتمَّ معاصرو شاعرنا بتجديداته التي حظيت بانتشارٍ واشتهارٍ واسعين، وقد قال أَحد الأَعراب بما يشبه هذه القصَّة: إمَّا أَن يكون ما قالته العرب الشِّعرَ وليس أَبو تمَّام بشاعر، أَو أَن يكون وحده لشَّاعر وليس كلُّ ما عداه بشاعر.

إنَّ هاتين القصَّتين تضعانا أَمام مشكلة الحداثة والتَّجديد وجهاً لوجه، وتفتحان أَمامنا كوةً جديدةً لنلج منها إلى صلب هذه المشكلة وماهيَّتها، بل إنَّهما تفرضان علينا إعادة نظرتنا ومعالجتنا لهذه المعضلة التي سيطرت على عقولنا منذ فترةٍ طويلةٍ ولم تَزلْ تَلفُّ في أَدمغتنا وتدور كريحٍ تعصفُ في كوخٍ مُخَلَّعٍ يومَ شِتاءٍ ماطرٍ بارد.

يتجلَّى إطار هذه الكوة المفتوحة في سؤال حسَّاسٍ وجوهريٍّ يمكِّننا من وضع إصبعنا على عين الجرح، وهو: من يحقُّ له التَّحديث والتَّجديد؟ التَّحديث والتَّجديد بمعنى الخلق الخارق للمألوف الذي يطوي قديماً طيَّاً فعليَّاً ويفارقه، لا بمعنى حداثة السَّيرورة التَّاريخيَّة والسِّياق التَّطوري المألوف عادةً وطبعاً، وإن خالف هذا العرف في بعض الأَحايين.

لقد أَخذ بعض الشُّـبَّان هاتين القصَّتين، وما شابههما، منطلقاً لنفث كروبهم وعقد نقصهم، بل لنقل: للتَّعبير عن رغبات طبيعيَّة في النَّفس البشريَّة، ولكن على نحوٍ نابٍ غير مستحسنٍ ولا مقبولٍ في معظم الأَحيان وهذا ما سنحاول جلو صدأه فيما يلي:

ليس لأَحدٍ أَن يدَّعيَ الوصاية على مُشاعٍ بين البشر، وليس لأَحدٍ، مهما عزَّ وبزَّ وسما وعلا وأَيَّاً كانت صفته، أَن يزعم أَنَّه أَحرص من غيره على ضربٍ من هذا الـمُشاع: كالماء والهواء والنُّور واللغة والعمل والشِّعر والرَّسم وضروب الفنِّ كلِّها، وبالتَّالي فإنَّ التَّحديث والتَّجديد في ذلك كلِّه أَمرٌ مشروعٌ ولا يحقُّ لامرءٍ مهما اتَّخذ من صفةٍ أَن يحجر هذا الحقَّ أَو يُعطِّله، وهنا تقع المشكلة وتتفاقم أَبعادها، فهل التَّحديث ـ بالمعنى المؤطَّر هنا ـ أَمرٌ مُشاعٌ أَيضاً؟ وإن لم يكن كذلك فمن ذا الذي يحقُّ له التَّحديث الضَّارب بالمألوف عُرض الحائط، كأن يقول مثلاً: بحور الشِّعر سيئة لا تفي بالغرض وهذه أَبحري أَو هذا شعري الجديد. أَو يقول مثلاً: الإصرار على كسر همزة إنَّ بعد القول لا معنى له ويجب تجويز الفتح والكسر ..... وهلمَّ جرَّاً من هذه الأَمثلة؟

صحيحٌ أَنَّ ما ذكرناه أُمور مُشاعةٌ بين النَّاس على حدٍّ سواء، وكلُّ واحدٍ يملك منها أَو يملكها بقدر ما يملكها الآخر، ولكن هذه المشاعيَّة مرتبطةٌ بالحقِّ العام؛ حقِّ الجماعة والمجتمع، وبالتَّالي فإنَّ مشروعيَّة التَّعديل والتَّجديد والتَّغيير ... محفوفةٌ بالإطار الشَّخصي الذي لا يعتدي على الحقِّ العام، ولذلك فإنَّ حجب الوصاية عن الأَفراد لا يعني انتفاء الوصاية فهي نَوْطٌ بالمؤسَّسات الاجتماعيَّة والاعتباريَّة المختلفة، فحماية الهواء من التَّلوُّث مسؤوليَّة الدَّولة وكذلك الوصاية على الأَمواه، واللغة والفنون مسؤوليَّةٌ معلَّقةٌ يعتنقها المجتمع ولأَنَّ المجتمع غائبٌ عن مثل هذه المسؤوليَّة لاعتبارات طبيعيَّة فإنَّها ـ المسؤوليَّة ـ مُعلَّقةٌ برقاب الفئة المثقَّفة الواعية كشريحةٍ واسعةٍ وأَغلبيَّة متماسكة مؤتلفة.

كلُّ هذا غير وافٍ ولا يعطي الجواب الذي نريد. والحقُّ أَنَّنا لم نقصد منه جواباً بقدر ما أَردناه تمهيداً للجواب، وسنستبق مكان مبتغى التَّمهيد لندلي به هنا: مهما كان موقفنا أَو رأينا، وكذلك اجتهاد غيرنا، في مشروعيَّة ومشاعيَّة حقِّ الاجتهاد والتَّجديد والتَّغيير والتَّبديل .... في هذه الـمُشاعات فإنَّنا لا نستطيع في خاتمة المطاف أَن نحجب هذا الحقَّ عن أَحد ـ بغضِّ النَّظر عن كثيرٍ من الاعتبارات ـ ولا أَن نقصره على أَحد، ولكنَّ الزَّمان وحده الكفيل بديمومة الصَّحيح الصَّائب وباندثار الخاطئ المتعثِّر، وكلُّ ذلك نَوْطٌ بالحقِّ العام والمؤسَّسات الاجتماعيَّة والاعتباريَّة المتعدِّدة التي تأخذ على عاتقها تقبُّل المحدث واستحسانه، ومن ثمَّ تداوله وترويجه أَو رفضه واستنكاره وبالتَّالي عدم تعاطي التَّعامل معه أَو تداوله، الأَمر الذي يقود بالضَّرورة إلى تلاشيه أَو زواله. والتَّاريخ خير شاهدٍ ودليلٍ على ذلك، فكثيرون أُولئك الذين ابتكروا كلماتٍ جديدة وحدَّثوا في القيم الاجتماعيَّة والجماليَّة والأَخلاقيَّة ... فعاش ما عاش وزال ما زال، ونُسي كلُّ ما دار حولها من سجالٍ وصراعٍ وجدال.

هنا نعود إلى سؤالنا الآنف: من يحقُّ له التَّحديث؟

لا شكَّ في أَنَّ طاقةً من الضَّوء كافيةً قد انتثرت على مشكلتنا تسوِّغ لنا أَن نبدأ طرح رأينا فيها؛ كما أَنَّه لا يجوز لغير الطَّبيب أَن يعالج المرضى، وكما أَنَّه لا يحقُّ لغير الصَّيدلاني أَن يركِّب الأَدوية فكذلك لا يحقُّ لغير الشَّاعر أَن يجتهد في الشِّعر، ولا يحقُّ للسِّكِّير أَو غير الملتزم بالتَّعاليم الدِّينيَّة أَن يفتي في الدِّين، وكذلك في الرَّسم والنَّحت واللغة والعمارة .... ومن الجور والجهل بل والغباء أَن نقبل هذا الحكم في مكان ولا نقبله في مكانٍ آخر، فلا أَحد يسلِّم نفسه لغير الطَّبيب إذا مرض، وهذا ما لا يمكن نكرانه، فكيف نأمن أَن نثق بتجديداتِ مَنْ لم يكن مختصَّـاً في أَيٍّ من المجالات السَّابقة؟ إنَّ التَّساهل واللامبالاة ناجمين عن عدم الإحساس بالمسؤوليَّة بالدَّرجة الأُولى، وهذا الإحساس لا يمتلكه إلا من يعاني من نتائجه وفي مكنته التَّبصُّر بالنَّتائج سلفاً.

هذا يعني بدايةً أَنَّ الحقَّ في التحديث محصورٌ بأَهل الاختصاص من حيث المبدأ، دون أَن ينفي بالإطلاق إمكان انبثاقه من غير المختصِّين، ولكنَّ ذلك شاذٌّ ونادر، على أَنَّ المختصِّين أَنفسهم متفاوتون في درجات فهمهم واتقانهم لاختصاصاتهم، فليس كلُّ الموسيقيين سواءٌ ولا كلُّ الشُّعراء كبعضهم بعضاً ولا كلُّ الأَطباء في سويَّةٍ واحدة .... ذلك أَنَّنا في كلِّ اختصاصٍ أَمام فريقين: فريقٌ على محض الاختصاص وفريقٌ ذو روحٍ إبداعيَّة، والمبدعون الحقيقيَّون وحدهم هم أَصحاب الحقِّ في التَّحديث والتَّجديد، وهم يمارسون ذلك، غالباً، بصورةٍ لا شعوريَّةٍ، وبدوافعَ لإبداعيَّة صِرفة لا تُغرض إلى معارضة المألوف بقدر ما تصبو إلى إرضاء الذَّات المبدعة وإرواء تطلُّعها إلى التَّميُّز والتَّمايز.

ها هنا تعترضنا مشكلةٌ جديدةٌ هي الأَهمُّ والأَخطر، بل هي مربط الفرس كما يقال، هذه المشكلة هي عدم معرفة المرء قدر نفسه وتطاوله على ما ليس يحقُّ له: يسمُّونها غروراً، تكبُّراً، طيشاً، مراهقةً، تسرُّعاً، نرجسيَّةً ... وهذه التَّسميات كلُّها صحيحةٌ وخاطئةٌ بآنٍ معاً؛ صحيحةٌ بالنَّظر إلى أُسلوبها ونتائجها. وخاطئةٌ لأَنَّها لم تحاول الحفر تحت ظواهرها للوصول إلى أُسسها الطَّبيعيَّة، إلى البواعث الفطريَّة التي تنبتها. ولذلك لن نميل إلى هذه التَّسميات وسنحاول كشف الغطاء عنها.

يقول أَبو عثمان الجاحظ: «إنِّي رأَيتُ الإنسانَ متماسكاً وفوقَ المتماسكِ حتَّى إذا سُئِلَ عن رأيه في ابنه أَو شعره فإنَّه يكونُ متهافتاً وفوق المتهافت». وجلى المعنى ذاته ابنُ خلدون إذ قال بعد حثِّه المبدعين على مراجعة نتاجاتهم بالنَّقد والتَّنقيح: «فإنَّ الإنسان مفتونٌ ببنات فكره وإبداع قريحته». والحقُّ أَنَّ هذه ظاهرةٌ طبيعيَّةٌ معروفةٌ يمكن إدراكها بسهولةٍ ويسرٍ عند المبدعين جميعهم، حتَّى المبدع النَّاقد الذي يقدر الوقوف على عثراته وعيوبه لا يستطيع أَن يتنكَّر لإبداعه، وليس في مكنته إلا أَن يعدَّه بضعاً منه كولده. على أَنَّ ذلك يختلف تماماً عن الثِّقة بالنَّفس والثِّقة بإبداعها وروعته، هذا الأَمر الذي صاغه أَبو الطَّيب المتنبِّي بقوله:

أَنامُ ملءَ جفوني عن شواردها ويسهرُ الخلقُ جرَّاها ويختصمُ

وترتبط بهذه المشكلة معضلةٌ أُخرى هي ظاهرة ادِّعاء الموهبة والإبداع وتوهُّم امتلاك المواهب، وهذه معضلةٌ أَعيت من يداويها. نعم، إنَّ المبدعين الحقيقيِّين المنطلقين في إبداعاتهم من مواهب وملكات إبداعيَّة قد يخطئوا أَو يتعثَّروا ... إلاَّ أَنَّهم يظلُّون مبدعين وموهوبين، ولكن كيف تتفاهمُ مع مدَّعٍ منتبج الذَّات منتفخها، متورِّم الأَفكار والآراء، يحسب ـ إن كان ميدان ادِّعائه الشعر ـ أَنَّه خاتم الشُّعراء قياساً على خاتم الأَنبياء، ويظنُّ ـ إن كان الرَّسم اختصاصه في الدِّعاء ـ أَنَّه بموته سيموت فنُّ الرَّسم .... إن ذُكر المتنبِّي أَمامه ظنَّه ممثِّلاً، وإن ذُكر رافائيل خاله لاعب كرة قدم، وإن صادفه حسن الحظِّ وعرف أَنَّ المتنبِّي شاعراً حقَّره ولعن تقليديَّته و(كلاسيكيَّته)، وربَّما قال: (كلُّ شعره لا يساوي وصفي للقشِّ المخملي على ثغر الجمر في قصيدتي الأَخيرة أَو غيرها .....). وفي حين يقف فقهاء لغتنا المعاصرين، الكبار، ساعاتٍ مفكِّرين قبل الإفتاء في جواز النِّسبة إلى جمعٍ له مفردٌ من لفظه نجد الواحد من هؤلاء يجمعُ خطـأً وينسب إلى هذا الجمع الخطأ، ويفتي في هذا وذاك ويقترح حذف هذا وذاك ويرى أَنَّ القدماء قد أَخطأوا في هذه القاعدة وتلك ....

والطَّامَّة الكبرى أَنَّ أَمثال هذا المصاب بإسهال الاجتهادات التَّحديثيَّة في اللغة والشِّعر عاجزٌ عن الكلام بالفصحى دقيقةً كاملةً دون ستين خطأً لغويَّاً ونحويَّاً وأُسلوبيَّاً .... وربَّما عجز موسيقيو هذا النَّوع عن التَّميي


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى