مواجهة تسونامي
خبرٌ عاجلٌ طرق شاشات محطات التلفزة العالميَّة كلها؛ الفضائية منها والأرضيَّة:
– زلزال هائلٌ في أعماق المحيط الهادي يؤدِّي إلى طوفانٍ هائلٍ يضرب السَّواحل الجنوبية لدول شرقي آسيا، ويتوقَّع أن يؤدِّي إلى خسائر فادحة...
– طوفان تسونامي يجتاح المناطق السَّاحليَّة للعديد من دول شرقي آسيا ويمتدُّ إلى السَّواحل الإفريقيَّة...
– طوفان تسونامي يخلف عشرات الآلاف من القتلى ومئات الألوف من المشرَّدين والمنكوبين وخسائر بملايين الدولارات...
الخبر العاجل استولى على شاشات الفضائيَّات العالميَّة كلِّها؛ أينما قلَّبت بين أقنية التلفاز وجدت الصُّور ذاتها تتكرَّر والأخبار ذاتها والتعليقات ذاتها... كلُّ المحطات تتابع أخبار طوفان تسونامي وتعرض ما يصل إليها من جديد الأخبار والصُّور والتَّعليقات والنَّوادر والسَّبق الإعلامي... الأخبار تتغيَّرُ ما بَيْنَ السَّاعة والسَّاعة ولكن من سيءٍ إلى أسوأ...
لم يحدث زلزالٌ جديدٌ، ولم يحدث طوفانٌ آخر، ولكن كلَّما هَدَأت الأمور قليلاً تَبيَّن مدى الخطورة المحيقة بأكثر من سبع دول ضرب شطآنها طوفان تسونامي... تسونامي كارثة هائلة لم يسبق لها مثيل أو نظير منذ أكثر من مئة سنة... وراحت عناوين الأخبار تتنوَّع وتتغيَّر وتتبدَّل في تغطية هذا الحدث من مختلف جوانبه وأبعاده ونتائجه وانعكاساته التي راحت تتصاعد على نحو مأساوي:
– تسونامي يخلف عشرات الآلاف من القتلى ومئات آلاف المشردين والمنكوبين..
– تسونامي يُخَلِّفُ ستين ألف قتيلٍ وَيُتَوَقَّعُ أن يصل العدد إلى سبعين ألف قتيل...
– سبعون ألف قتيل هم ضحايا تسونامي حَتَّى الآن وَيُتَوَقَّعُ أن يصل العدد إلى ثمانين ألفاً...
– ضحايا تسونامي نحو خمس وسبعين ألفاً وَيُتَوَقَّعُ أن يصل عدد القتلى إلى تسعين ألفاً...
– اثنان وثمانون ألف قتيلٍ يخلفها تسونامي وراءه والمراقبون يتوقَّعون أن يرتفع عدد القتلى إلى مئة ألف...
– قتلى تسونامي تسعون ألفاً يُتَوَقَّعُ أن يصل العدد إلى مئة وخمس وعشرين ألفاً...
– ... مئة وعشرون ألف قتيلٍ وَيُتَوَقَّعُ المراقبون أن يصل العدد إلى مئة وأربعين ألفاً... وَيُتَوَقَّعُ أن يصل العدد إلى مئة وخمسين ألفاً...
– مئة وخمسون ألف قتيل هي الَّتي خلَّفها تسونامي ومازال البحث جارياً عن المفقودين...
الله أكبر... ما هذا؟ كلُّ يوم يزداد عدد القتلى هذا الازدياد الهائل وتقفز التوقُّعات هذه القفزات الكبيرة!! نسيت النَّاس أخبار المنكوبين والمشرَّدين والدمار الذي أصاب المدن وصارت تتابع أعداد القتلى التي تتزايد وتتزايد معها التَّوقُّعات... ولكن في ظلال ذلك ارتفعت أيضاً ضروب التَّساؤلات: كم سيكون إذن عدد المشردين والمنكوبين؟ وكم سيكون حجم الدَّمار؟ وكم ستكون الخسائر الماديَّة؟؟؟ واقتنصت وسائل الإعلام فرصة لبرامج تتناول الحدث وارتفعت مع متابعة الحدث عناوين هذه البرامج:
– لماذا حَدَثَ تسونامي؟
– ماذا أعدت الحكومات العربيَّة لمواجهة تسونامي؟
– لو كان تسونامي على الأرض العربيَّة ماذا كان سيحدث؟
– هل كانت الدُّول العربيَّة مؤهَّلَةً لاستقبال تسونامي؟؟
ـ .... تابعوا معنا برنامج كذا على محطة كذا...
عناوين تفلق الرَّأس بالصُّداع، ومخاوف تُوْقِفُ دقَّات القلوب... رعبٌ سيطر على الكثيرين...
أحد المسؤولين الكبار في هذه الدول العربيَّة انصدع رأسه من كثرة ما سمع هذه الإعلانات عن البرامج وراح يهجس بينه وبين نفسه: «ماذا يفعل لمواجهة تسونامي؟... إنَّهُ مسؤولٌ ومن واجبه أن يفعل شيئاً... إنَّها فرصته ليبيض وجهه أمام المسؤولين الأكبر منه...».
وراحت الأفكار تداعب مخيلته... أيام وهو يذرع غرفته مكتبه جيئة وذهاباً في أوقات الدَّوام، ويكمل ذلك في البيت... قَلَقٌ استبدَّ به... لم يعد يستطيع أن يفكر في شيءٍ غير تفادي تسونامي... كيف لا والتَّوقُّعات الجيولوجيَّة تقول باحتمال حدوث تسونامي آخر؟!... لا بدَّ إذن من احتياط... كيف يحتاط؟ ماذا يفعل؟... واستمرَّ القَلَقُ والتَّوتُّر يسيطران عليه...
لَمَعَت الفكرة فجأةً في ذهنه، هكذا أفكار المبدعين تلمع في الذِّهن على نحوٍ مفاجئٍ ثُمَّ تبدأ بالاتِّساع في الذِّهن رويداً رويداً... إنَّها إذن فكرةٌ إبداعيَّةٌ... أجل هكذا تأتي الأفكار المبدعة للمبدعين؛ يعانون، يتألَّمون وفجأةً تأتي الفكرة، الحل... ألم يقولوا إنَّ بَيْنَ الزِّلزال والطُّوفان بضع ساعات؟ كان الزِّلزال عند سومطرة وبعد ساعات كان طوفان تسونامي... تسونامي أين تقع؟ لا بد أنَّها على شاطئ إحدى الدُّول المنكوبة... ربما في إندونيسيا الأكثر تضرراً والتي وقع عليها الطوفان أولاً... ما بين إندونيسيا وشواطئنا مسافة... مسافة جيدة... يعني يحتاج طوفان تسونامي حَتَّى يصل إلى هنا بضع ساعات... الله الله... وجدتها... الحل سهلٌ، سهلٌ جدًّا... الآن يمكنني أن أشرب فنجان قهوتي بهدوء وراحة بال...
ضغط زر الجرس، دخل مدير المكتب وأومأ بالوصول وانتظار الأمر فقال له:
– فنجان قهوتي.
قالها ورأسه ملقى على مسند كرسيه وكأَنَّهُ يتنفَّس الصُّعداء بعد جولةٍ عنيفةٍ من الصِّراع الذي انتهى بانتصاره.
عندما وصل إليه فنجان القهوة كان قد أشعل التَّبغ في غليونه المفتول وبدأ بنفث دخانه بخيلاء وكبرياء. وفيما كان يضع له الآذن فنجان القهوة قال له:
– اذهب وأرسل حسن... أريده حالاً بين يدي.
حسن هو أحد حراسه المقربين جدًّا إليه، يثق فيه ثقةً كبيرةً، ويستطيع أن يعتمد عليه في المهمَّات الصَّعبة... والآن جاء دور هذه الثِّقة، وهذه المهمة. ولذلك عندما دَخَلَ حسن وطلب منه معلمه أن يجلس لم يتردد كثيراً فهو يعرف أنَّهُ سيكلِّفه بمهمةٍ وجلوسه ضروري ليحسن الاستماع إلى المطلوب والتَّعليمات اللازمة.
قال له:
– حسن... أمامك مهمَّةٌ سهلةٌ، سهلةٌ للغاية...
– أنا جاهز لأيِّ مهمَّةٍ.
– هذا ظنِّي فيك... سأرسلك إلى مدينة تسونامي في إندونيسيا. لن تفعل شيئاً هناك...
– ولماذا أذهب إذن؟
– اسمع أولاً ثُمَّ اسأل...
– حاضر.
– ستصلك تكاليف الإقامة وزيادة... كلُّ ما هو مطلوبٌ منك أن تجلس على الشَّاطِئ... شاطئ تسونامي... قبل أن تجلس على الشَّاطِئ ستشتري فور وصولك هاتفاً خليويًّا... وتجلس على الشَّاطِئ... لا عمل لك سوى أن تظلَّ جالساً على الشَّاطِئ... تراقب البحر...
– أراقب البحر؟
– نعم، تراقب البحر... تظلُّ تراقب البحر ليل نهار، وما إن تشاهد الطُّوفان يبدأ بالتَّحرُّك تتصل بي على الفور... على الفور، لا أريد أن تتأخر لحظةً واحدةً...
ـ لماذا؟
– يقولون إنَّ تسونامي آخر سيضرب شواطئ بلادنا، بجهودك سنستطيع تلافي مخاطر هذا الطوفان... سيحتاج الطوفان إلى بضع ساعات حَتَّى ينتقل من تسونامي إلى هنا... في هذه السَّاعات سنكون قد اتخذنا الاحتياطات اللازمة لتلافي مخاطر الطوفان... ولكن انتبه إلى نفسك، لا أريد أن أخسرك في الطوفان... اتخذ موضعاً آمناً...
– ولكن لا أستطيع وحدي القيام بهذه المهمة... أحتاج إلى اثنين معي على الأقلِّ كي نتناوب على المراقبة.
ـ خُذْ من شئت معك، ولكن أنت المسؤول أمامي عن هذه المهمة... لا أريد أن تنكب بلادنا بسبب تسونامي... لا أريد فضيحةً من هذا القبيل... وسائل الإعلام كلها تتابعنا وتتساءل منذ الآن عما سنفعله عندما يأتي تسونامي... يجب أن نقيم له كميناً محكماً... أتفهمني جيداً يا حسن؟
– طبعاً، طبعاً...
– لا أريد أن يعلم أحد بخطَّتِنا هذه حَتَّى لا يسبقني أحدٌ من المسؤولين إليها... فكرة هذا الكمين فكرتي يجب أن أكون أول من يلقي القبض على تسونامي... أقصد يجب أن أكون أوَّل من يتصدَّى له... يجب أن أتصدَّى له وحدي لأُخْرِسَ وسائل الإعلام الخبيثة التَّافهة هذه التي تصطاد في الماء العكر... أتفهمني يا حسن؟
– أفهمك يا سَيِّدي.
– أحسنت يا حسن.
– ولكن فاتورة الهاتف يا سَيِّدي؟
– سندفعها نحن يا حسن... أريد أن تُبَيِّضَ وجهي... مفهوم يا حسن؟
– مفهوم بالتَّأكيد، بالتَّأكيد يا سَيِّدي... ولكن أين نقيم هناك؟
– استأجر منتجعاً على الشَّاطِئ... على الشَّاطِئ تماماً يا حسن، لا أريد أن يغيب الشَّاطِئ لحظة عن عينيك.. أتفهمني يا حسن؟
– بالتأكيد يا سَيِّدي... ولكن أجرة مثل هذا المنتجع على الشَّاطِئ ستكون غالية... غالية جدًّا يا سَيِّدي... إنها بالعملة الصعبة.
– كلُّ شيءٍ محسوبٌ حسابه... سأرسل كتاباً إلى سفارتنا هناك وهي التي ستتولَّى هذه الأمور... ولكن إيَّاك أن تعرف السَّفارة شيئاً عن طبيعة المهمَّة... أتفهمني جيداً يا حسن؟
– بالتَّأكيد يا سَيِّدي... ولكن كم سنبقى هناك؟
– حَتَّى يعود تسونامي...
– حاضر يا سَيِّدي... ... ولكن إذا تأخر تسونامي كثيراً ماذا نفعل؟
– تظلُّ تنظره حَتَّى يعود.
– حاضر سَيِّدي... ولكن ألا يوجد موعدٌ أقصى لانتظار تسونامي... يعني، مثلاً، يعني أخشى أن يتأخَّرَ كثيراً...
– مهما تأخَّر، عليك أن تنتظره.
– حاضر سَيِّدي... حاضر... سَيِّدي.. سَيِّدي...
– ماذا يا حسن ماذا؟ فَلَقْتَ رأسي بأسئلتك... فَلَقَتَ رأسي، قل لي ماذا تريد أيضاً؟
– سَيِّدي، يعني، طالما أننا لا نعرف متى يأتي بل يعود تسونامي هل أستطيع أنا وزملائي أن نأخذ معنا زوجاتنا وأولادنا؟
– يا حسن، يا حسن أنت في مَهمَّةٍ... مَهَمَّةٍ خطيرةٍ على غايةٍ من السريَّة والخطورة والأهميَّة وتريد أن تأخذ النِّساء والأولاد معك؟ افهمني يا حسن.. البلاد معرَّضَةٌ لخطرٍ شديدٍ... يجب أن تضحِّي من أجل الوطن يا حسن... أتفهمني جيداً يا حسن؟
– أفهمك جيداً يا سَيِّدي... ولكن، ولكن قلت في نفسي... يعني إذا تأخر تسونامي في عودته... ولكن، ولكن... حاضر، كما تأمر يا سَيِّدي..... سَيِّدي ولكن إذا سمحت، أرجو أن تعذرني... افترض أن تسونامي تأخر كثيراً، يعني كثيراً جدًّا، هل أستطيع أن أستدعي زوجتي وأولادي إلى هناك؟
– عندها يحلُّها ألف حَلاَّلٍ... كلُّ شيءٍ في وقته حلوٌ... لا أريد أن يشغلك شيء عن مراقبة تسونامي، إنَّهُ خطيرٌ، خطيرٌ جدًّا جدًّا يا حسن... إنَّهُ يعرض أمن البلاد وأرواح المواطنين للخطر... أتفهمني يا حسن؟
– أفهمك يا سَيِّدي.
– لا يكفي أن تفهمني هكذا... أريد أن تفهمني جيداً جيداً يا حسن... مستقبلي السِّياسي بَيْنَ يديك... أنا أضع مستقبلي بين يديك... أتفهمني جيداً جيداً يا حسن؟
– اطمئن يا سَيِّدي... ضع يديك ورجليك في ماء باردٍ... سأظلُّ أراقب الشَّاطِئ أنا والشَّباب... لن يغيب الشَّاطِئ لحظة عن أعيننا... وما إن أرى تسونامي عائداً حَتَّى أتَّصلَ بك على الفور من دون أيِّ تردُّدٍ أو تأخيرٍ وأخبرك بعودته.
– أحسنت يا حسنت... الآن أحسنت.
– سَيِّدي؟!..
– ماذا هنالك؟
– سَيِّدي... ماذا نفعل بعد أن نخبرك بعودة تسونامي؟
– ماذا تفعلون؟!.. تعودون إلى هنا طبعاً.
– ونترك تسونامي هناك؟
– تترك تسونامي هناك؟؟!! وهل تريد أن تجلبه معك؟
– يعني، إذا كان خطراً لهذه الدَّرجة على أمن الدولة وأرواح المواطنين كما تقول، لماذا لا نلقي القبض عليه هناك ونخطفه ونجلبه سراً إلى هنا... أَو نغتاله هناك؟