مي حليمة
مهما تصادمت الرؤوس وبات الناس دون مأوى ، مهما قل خبز الشحيحين وصغر طبق المصدقين ، تبقى (مي حليمة) في صورة هذه الدروب الصغيرة تتحرك كنحلة تسعى وراء لقمة عيشها رغم بدانتها المفرطة، كنت صغيرا واعتدت على رؤيتها تحمل أشياء لا لزمة لها عند طبقة معينة من الناس، لكنها مهمة عند (مي حليمة) التي يلزمها كل شيء، حتى زوجها لم يعد يقوى على الحراك فأصبحت رجل ذلك الكوخ الصغير.
كنت صغير السن عندما كانت تزورنا في البيت، باعتبارها المرأة المساعدة في الحي، لم أكن أطوق رؤيتها في البيت باعتبار ملابسها الرثة ورائحتها التي كنت دائما أستغربها، لكن هذا الشعور كان طبيعيا، فقد كنت أجهل من هي (مي حليمة) وأجهل ظروفها المعيشية تماما، فكيف لطفل يعيش في سعادة أن يفكر بهذه المرأة البدينة. كبرت وخيال (مي حليمة) دائما بجانب الحي، إلى أن كتب الله أن أعرف من هي هذه المرأة المتسخة البدينة.
سأقول أني لو كنت بمستوى (مي حليمة) من الفقر، لمت مند زمن طويل، لكنها أصرت على الحياة فأصبحت على هذه الصورة التي أمست تعجبني ولن أمل يوما من وصفها لكل العالم.
كانت (مي حليمة) تتسول في شوارع المدينة قبل أن يمرض زوجها، ليصاب فيما بعد بشلل نصفي أطرحه الفراش وأبعد (مي حليمة) عن التسول لتصبح مساعدة لربات البيوت.
تتمتع (مي حليمة) بشعبية كبيرة، حيث تراها تمشي وسط الحي لا تكف عن إلقاء التحية على كل صغير وكبير، وهذا ما جعلني أعتقد في صغري أن (مي حليمة) تسكن بجوارنا،
والواقع أنها مستقرة بكوخ صغير بنيت جدرانه الأربعة وراء سوق الخضار، وهو بعيد عن حينا مسافة خمسة عشرة دقيقة مشيا على الأقدام.
أنجبت (مي حليمة) بنتان، الأولى سلكت طريق الدراسة بعد أن جاهدت بطلتنا في تعليمها أحسن تعليم، لتحصل على إجازة مكنتها من الاشتغال في شركة للمواد الغذائية بمدينة الدار البيضاء. أما الثانية، فكانت مختلة عقليا مما زاد الحياة صعوبة على (مي حليمة).
واليوم أرى (مي حليمة) تحمل قفة وهي تمشي محاولة الإسراع دون أن تنسى إلقاء تحيتها التي تصحبها ابتسامة أشعر من خلالها برغبة شديدة في العطاء أكثر فأكثر.
تقول (مي حليمة) للعالم من خلال طريقة عيشها (تكفي محبتكم لي كي أعيش في سعادة رغم بدانتي المفرطة ورائحتي النتنة).
يقول أحد الفلاسفة (ما أتفه العقول عندما تضع الشكل معيارا من معايير الاختيار وتحديد المستقبل، وتنسى ما هو أعمق) لو كان هذا الفيلسوف في عصرنا هذا، لقلت أنه يعرف (مي حليمة) حق المعرفة.
ستبقى (مي حليمة) في ذهني ما حييت، رغم بدانتها المفرطة ورائحتها النتنة.