الجمعة ٢٥ حزيران (يونيو) ٢٠١٠
بقلم محمد حلمي الريشة

مَاسُ دِيكِ المَجْنُونَةِ

لاَ يُمْكِنُنِي أَنْ أَنْسَاهُ أَبَدًا مُنْذُ طُفُولَتِي؛ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى شَجَرَةِ مَجْنُونَةٍ مُعَقَّدَةِ الأَغْصَانِ، فَوْقَ سُورٍ عَالٍ لِبَوَّابَةٍ كَبِيرَةٍ.

لَمْ يَكُنْ يَظْهَرُ عَلَى أَحَدٍ طَوَالَ الوَقْتِ، لِدَرَجَةٍ تُنْسِيكَ وُجُودَهُ.

فَجْأَةً؛ يَقْفِزُ عَنْ عَرْشِهِ، كَبَرْقَةٍ لاَ تَكَادُ تَلْمَحُهَا، بِتَنْشِينِ جَسَدِهِ المُذَهَّبِ، وَتَاجِهِ القَانِيِّ، قَذِيفَةً دَقِيقَةً جِدًّا، عَلَى مَا بَيْنَ يَدَيْكَ.

كَمْ مَرَّةً سَالَ أَحْمَرُ البَطِّيخِ المَغْدُورِ، عَلَى الرَّغْمِ مِنْ شِدَّةِ حِرْصِي لِثِقَلِهِ، وَنُعُومَةِ مَلْمَسِ ثِيَابِهِ اليَابِسَةِ! كَمْ مَرَّةً تَهَشَّمتْ صُحُونُ الحُمُّصِ الصِّينِيَّةُ بَعْدَ أَنْ أَكُونَ لَعَقْتُ دَائِرَتَهُ تَدْرِيجِيًّا إِلَى الدَّاخِلِ، خِلاَلَ مَسَافَةِ النِّسْيَانِ اللَّذِيذَةِ مَا بَيْنَ المَطْعَمِ وَالعَرْشِ! كَمْ مَرَّةً تَنَاثَرَتْ أَرْحَامُ أَكْيَاسِ الوَرَقِ، بِأَجِنَّةٍ ثِمَارٍ نَاضِجَةٍ، وَكَمْ كَانَتْ تِلْكَ الوِلاَدَاتُ تُفْرِحُنَا، حِينَ كُنَّا نَقْطِفُ عَنْ شَجَرَةِ الأَرْضِ ثِمَارًا مُتَدَحْرِجَةً بَعِيدًا عَنْ أَرْحَامِ أُمَّهَاتِهَا الوَرَقِيَّةِ!

بَشَاعَةُ مَوْتِ العُنْفُوَانِ، مَا زَالَتْ تُغَلِّقُ عَيْنَيَّ عَنْ رُؤْيَةِ أَيِّ كَائِنٍ يُذْبَحُ، أَوْ يُعْطَى حُقْنَةً طِبِّيَّةً.

خِطَّةُ مُؤَامَرَةِ اغْتِيَالِهِ، مِنْ قِبَلِ رِجَالِ الحَيِّ، كَانَتْ شِبْهَ فَاشِلَةٍ؛ خَوْفُ الجَزَّارِ المُدَّعِي، وَرَجْفَتُه مَثِيلَ سِتَارَةٍ فِي رِيحٍ، لَمْ يَجْعَلاَ سِكِّينَهُ تَتَمَكَّنُ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ، عَلَى الرَّغْمِ مِنْ كَثْرَةِ رِجَالٍ، أَخْرَجُوا رَأْسَهُ المُتَوَّجَ مِنْ فُوَّهَةٍ صَغِيرَةٍ لِكِيسٍ مِنَ القِنَّبِ، بَعْدَ إِتْقَانِ القَبْضِ عَلَيْهِ بِمَشَقَّةٍ جَبَانَةِ جدًّا، وَخَوْفٍ يَتَطَايَرُ مِنَ العُيُونِ كَشَرَرٍ مُرَطَّبٍ لاَ يَشْتَعِلُ.

لاَ يُمْكِنُ أَنْ أَنْسَاهُ أَبَدًا؛ المَلِكُ الَّذِي انْتَصَبَ عَلَى سَاقَيْهِ كَعَمُودَيْ فُولاَذٍ، غَارِزًا مَخَالِبَهُ فِي الإِسْفَلْتِ الحَارِّ، وَرَافِعًا رَأْسَهُ شَامِخًا كَنسْرٍ، بِعَيْنَيْنِ مَثِيلَ رَأْسَيْ سَهْمَيْنِ، بَرَّاقَتَيْنِ تَأَمُّلاً كَشَاعِرٍ سُرْيَالِيٍّ، وَمُشْرَئِبَّةً عُنُقُهُ التُسَاقِطُ حَبَّاتَ الكِبَرِ المَاسِيَّةَ مُشَعْشِعَةً أَحْمَرَ نَقِيًّا، مُشَكِّلَةً عَمُودًا أَصْلَبَ، وَمُصِرَّةً عَلَى أَنَفَةِ الرُّوحِ، حِينَ يُغْتَالُ الجَسَدُ البَهِيُّ.

الرِّجَالُ الَّذِينَ جَلَسُوا عَلَى مُؤَخَّرَاتِهِمُ مَثِيلَ مُحَارِبِينَ فِي اسْتِرَاحَةٍ دَائِمَةٍ، لاَهِثِينَ مَعًا شَجَاعَةً مُزَوَّرَةً، وَنَازِفِينَ عَرَقًا مَغْشُوشًا، تَبَاهَوْا بِانْتِصَارِهِمُ المُنْكَمِشِ عَلَى ذَاتِهِ، أَمَامَ النِّسْوَةِ المُطِلاَّتِ، بِأَنْصَافِ أَثْدَائِهِنَّ، مِنَ النَّوَافِذِ النَّخِرَةِ، وَشُرُفَاتِ عُرُوضِ مَلاَبِسِ النَّوْمِ الشَّفِيفَةِ المُبَلَّلَةِ، تَرَكُونَا نَحْنُ الأَطْفَالَ، نُحَاوِلُ قَطْفَ ثَمَرَةِ الانْتِصَارِ غَيْرِ النَّاضِجَةِ (ثِمَارُهُ كَانَ ينَثَرَهَا مِنَ الأَكْيَاسِ نَاضِجَةً وَحَقِيقِيَّةً)، بِاقْتِرَابِنَا البَطِيءِ مِنْهُ، يَشُدُّ بَعْضُنَا بَعْضًا، حَذَرًا أَعْرَجَ، وَجُرْأَةً تَخْتَبِئُ وَرَاءَ ظُهُورِنَاةً.

الحَافِلَةُ الوَحِيدَةُ، الَّتِي كَانَتْ تَعْبُرُ مِنْ شَارِعِنَا الوَحِيدِ، تَبَاهَتْ أَيْضًا؛ بَكَّرَتْ مُرُورَهَا اليَوْمِيَّ، ذَاكَ الصَّبَاحَ البَاهِتَ، بِعَشْرِ دَقَائِقَ أَلَمٍ، وَعَجَلَتَيْنِ عَجُولَتَيْنِ تَوْأَمَيْنِ، وَسَوَّتِ المَلِكَ المُذَهَّبَ بِالإِسْفَلْتِ الأَحْمَرِ القَانِيِّ.

الآنَ— كَأَنَّا لَمْ نَكُنْ، لكِنْ؛ لاَ يُمْكِنُنَا أَنْ نَنْسَانَا أَبَدًا!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى