الأربعاء ٣٠ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٣
بقلم موسى إبراهيم

نساء 5


(18)

على الغصنِ الغضّ، كانَ يقف، تؤرجِحُهُ نسمات الهواء، ينفش ريشه ثم ينتفض بخفّة، ويُعيدُ لملمةَ ريشه كما كان، ليظهر أجمل وأكثر رتابةً، ريشهُ الأخضر الداكن كمعطفٍ جميل يلفّ جسمه النحيل .. رأسهُ أخضرٌ أيضاً لولا بقعتين بلونٍ أحمر فاتح تزيّن خدّيه. هي تجلسُ كعادتها على كرسيّها المقصّب، ترتاحُ في ظلّ هذه الشجرة المعمّرة، وتتأمّل صباحاً جديداً تعيشه في هذا القصر الكبير، كان ينظرُ إليها بحذر وريبة، يحاولُ حفظ ملامح وجهها الجميل كي يحكي لرفيقهِ الأحمر عن جمالها الأخّاذ الآسر، ثمّ إنه ومنذ أيّامٍ قليلة يفكّرُ في البقاء هنا بجانبها، يشعر أنّها وحيدة .. لحمته من بعيدٍ فأعجبها لون ريشه الجميل، وجذبتها إليه ظرافته وهو يحدّق بها كأنّه يعرفها، يُديرُ رأسه فوق عنقه كي يتمكن من رؤيتها من خلف الأغصان المتشابكة، أرادت أن تُبقيه معها، أمامها، كي تتأمّل منظره الجميل كلّ صباح، أمرت بإحضار قفص بلون ريشه، ثمّ فكّرت لو أنها تدعوه غداً لتناول الإفطار معها، ستبذر له بعض حبّات عبّاد الشمس.. سمع العصفورُ الأخضر ما كانت تهمس به لنفسها، فطار سعادةً وحلّق عائداً إلى دياره كي يودّع صديقه الأحمر ويعود إليها، في اليوم التالي جاء يرافقه الأحمر، كان صديقه متشوّقا لرؤية هذه الحسناء التي أفقدت الأخضر عقله فقرر أن يعيش حياته في قفص ليستغني بهذا عن حريته وجمال دياره، وقفا على الغصنّ الغضّ .. نفشا ريشيهما .. غرّدا قليلاً .. دعتهما إليها .. قالت: "هيتا لكما .. " أمسكت بالأحمر .. فقد أعجبها أكثر.. أسكنتهُ القفص الأخضر .. وظلّ الأخضرُ يصلّي قربها.. أملاً بأن يموت الأحمر يوماً ما .. ليحظى هو بالقفص .. ونظرة إعجابٍ منها تخصّه بها وحده.

(19)

في شارعٍ معتم، لا يُرى الظلُّ فيهِ، ولا يُسمَعُ إلا عواء ذئابٍ بشريّة تبحثُ عن ملاذٍ لشهواتِها المتعطّشة، في تلك العتمة، عيونٌ فقط. كانت تخطو هيَ مثلَ فراشة ليل، لا تدري كيف زُجَّ بأنوثتها الصارخة في هذا الشارع. تشقّ عواء الذئاب، بصوت نقرات كعبِ حذائها على الأسفلت البارد، وتشدّ ذاك الوشاح أكثر فأكثر .. علّه يسترُ بياضَ قلبها الخائف. بدأ العواء يقترب أكثر، والعيون تتكاثر من حولها، ظلّت تمشي، تنقرُ الأسفلت البارد، وتشدّ الوشاح أكثر، وتبكي أنوثتها المصلوبة على هذا الشارع المقيّدة بأقدامهم والمنتظرة وجه الله في السماء! إقترب الخوفُ من حافّة القلب وكادَ ينسكبُ شلالَ رعبٍ غزيرٍ ساقطْ .. ساقط..تنسابُ في الشارعِ أكثر .. تُسرعُ الخطى إلى حتفها .. لا لشيء .. ولكن لأنها في الموتِ أيضاً تكره الإنتظار ...كادَ الليلُ أن يُمسكَ حبلَ ستائر الفجر، لكنّ العتمة تشدّه أكثر .. فيفشل .. كان هو عائداً من معركةٍ قتل فيها ذئاباً كثيرةً، متعباً كانَ وغاضباً.. فاستراحَ على أحد أكتافِ الشارع .. كانَ بعيداً، بعيداً، لكنّ رائحة الدمّ تفوحُ منه، وتتسلل إلى كل شيء .. أسندَ الرشّاشَ، واستراحَ يفكّر، حتى سمع خطاها .. فاستفاقَ وانتصب..غزى بعينيه عيون الذئاب، عرفوهُ، أسرعوا إليها، أسرعوا إليها أكثر .. أمسكوا بخيطٍ يتدلّى من وشاحها، أسرع إليها، أسرع أكثر، مدّ يده، جاء حتفُه غدراً، سقطَ الليلُ في أحضانِ العتمة، أسلمَ الليلُ فجرهُ لشهوة العتمة، وانهارت هي.

(20)

على قارعة الطريق، نُبِذَت هي ورضيعتها، تبيعُ المناديل كي تحصل على قوت يومها، فتملأ ثدييها بعض الحليب لإسكات جوع الرضيعة التي لا تتوقّف عن البكاء إلا حينَ تُلقمها أمُّها هذا الصغير المتشقق من صقيع المدينة وبرد قلوبهم القارص. تتكوّر على طفلتها لتمنحها بعض الدفء والقليل القليل مما خبّأته من الحليب في صدرها. باغتها هدير المركبة التي توقّفت بمحاذاتها، نظرت إلى عجلاتها اللامعة، فعرفت أنها صاحبة الوجه الذي انعكست صورته على العجلة السوداء، منذ زمن لم ترَ وجهها الجميل ولا حتى انعكاسة صورته. ما زالت تتمتّع ببعض الجمال، عيناها الغارقتان في تعبٍ شديد، شعرها الأشقر المتقصّف، وشفتاها البارزتان على سطح وجهٍ نحتت الأيّام القاسية عليه بصماتها. رفعت عيناها ليظهر خياله من خلف زجاجٍ معتم، إشرأبّ عنقها تحاول قنص ملامحه، حدّقت أكثر، أرخت ذراعيها فانكشفت الرضيعة للعراء، مدّت يدها ونبّهته كما تفعل مع باقي الزبائن حين تعرض مناديلها للبيع، لكنّها في هذه المرّة كانت تنظر إلى زبونها وتمعن النظر، هبط الزجاج الأسود المعتم، هبطَ تدريجياً، ببطء، بغرور وكِبْر، إلتفت إليها الزبون الجديد، ونهرها قائلا: "الله يبعث لك .. روحي من هون .. بدي أمشي" عرفت الصوت، كان هو، تغيّر لون وجهها، وتغيّر لون الإشارة الضوئية إلى الأخضر، إرتفع صوت هدير المركبة، تحرّكت العجلات، رحل وجهها مع العجلات، صعد الزجاجُ الأسود المعتم من جديد بسرعة وخوف، ظلّت تجري وراء المركبة، تصرخ وهي تنادي عليه وقد ابتعد : "هذه أنا .. وهذه ابنتك .. أين تذهب ولمن تتركنا......؟؟؟؟؟"

(21)

صباحٌ جديد، صباحٌ آخر يُشرِعُ بوّابة الدنيا المظلمة، ويشقّ بنوره العتمة في كلّ مكان، تستيقظ العصافير على قِمَمِ شجر السرو الشاهق الذي يتوسّط شارع هذا الحيّ الراقي الهادئ، فيفصلُ مسربيّ الشارع عن بعضهما، ما زالت الستائر مسدلة خلف شبابيك تلك البيوت المترامية على جانبي الشارع، البيوت التي ترتدي قبعات القرميد الأحمر وتنعم بالسلام والنِعَم. كانت هي تدفعُ عربةً خشبيّة محمّلة بالخضار والفواكه، فتاة في مقتبل العمر، لم تغطِّ أتربةٌ الطرقاتِ الكثيرة جمال وجهها الملس، بيد أنّ أناملها بدأت تخشن جرّاء احتكاكها بالخشب الجافّ، تُنادي بصوتها الفيروزيّ على بضاعتها، تسمّي كل صنفٍ باسمه وتُتْبِعُـهُ بصفةٍ جاذبة، يغطّي جسدها ثوبٌ أسود، وعلى جدائلها الشقر يرتاحُ شالٌ أبيض كاد ينزلق من شدّة نعومة شعرها. مرّ بها، فالتهبت مشاعرهُ وانتفضت حواسّه واتّجهت جوارحهُ إليها، أوقفها وبدأ يتأمّل بضاعتها، كانَت شفاهُها أشهى من ذاك التفّاح الأحمر الممدّد بدلالٍ على ظهر العربة، وأندى من قطوف العنب المبللة بندى الصباح، كانت تعلم أنّ جسدها الجميل هو أيضاً أحد أسباب اجتذاب الزبائن لشراء بضاعتها، وأنّ لكلّ زبونٍ نصيبٌ من هذا الجسد، حتى أناملها المتشقق جلدها لم تنجُ من نظراتهم. سألها: "بكم كيلو الموز..؟" فأجابته وانتظرت السؤال التالي، ولكنه فاجأها حينَ أمسك يدها وكرّر السؤال ذاته، فعرفت حينئذ أنهُ أحد الزبائن، سحبت يدها من يده، وانحنت لتجلب شيئاً من بطن العربة، فخاف وارتعد، وهمّ بالرحيل مسرعاً، لكنها نادتهُ : "هذا الكرت .. عليهِ عنوان الشقة .. أنتظرك اليوم بعد الثامنة .. لا تتأخّر"


(22)

تكالبت الهموم على صدره حتى بات لا يفكّر بشيءٍ إلا فيها، فمنذ أن غادرته والحنين يحاصره من كلّ الإتجاهات، تارةً يخرجُ له من كتاب الشعر، وتارةً أخرى يتربّع على سطح مكتبه فوق معاملات المواطنين المتكدّسة، وتارةً يقتحم عليه خلوته وهو جالسٌ في بيت الخلاء، وتارةً ينزل عليهِ مع حبّات المطر الباردة في ليلةٍ ماطرة، وتارةً يستقرّ تحت أذنه وهو يحاول الخلود إلى النوم، حاول بشتّى الوسائل أن يتخلّص من الحنين إليها، وأن يتحرّر من حبّها العَلِقِ بقلبهِ، وأن يحرق جميع رسائلها الحميمية التي لا تخلو من أبيات الشعر الغزلية وكلمات الأغاني العاطفية، لكنه كان دائماً يفشل ويفشل ويفشل، حتى صار فشل نسيانها عائق أمام طموحاته، كأنّ حبّها طفلٌ لقيط أيقظ ضميره فتورّط هو بالبقيّة، وكأن حبّها مساميرٌ دُقّت في جسده فانغرست حتى مرّت تقطّع شرايينه واحداً تلو الآخر حتى استقرّت على جدار الذكريات وثبّتته فيه. وفي لحظةٍ مجنونة قرّر أن يتخلّص من قلبه، فشقّ صدرهُ بسكّين النسيان، وأخرج قلبهُ ثمّ أودعه صندوق الثلاجة في المطبخ، ومضى إلى عمله في ذلك اليوم بلا قلب، مرّ على الأزهار التي كان دائماً يلقي عليها تحية الصباح ولم يلتفت لها، مرّ على متسوّل ضيّعته السنين على أرصفة الجوع ولم يلقِ لهُ قطعة نقود واحدة ولا حتى فلس، أدار محرّك السيّارة ولم يشعل المذياع لسماع صوت فيروز الذي ينتظره في كلّ صباحٍ عبر الأثير القادم من البعيد، مرّ في طريقه إلى العمل بطفلة تقف على إشارة المرور ولم يرقّ لها قلبه، فقد تخلّص منه هذا الصباح، وقلبه الآن في صندوق الثلاجة، أشرع باب مكتبه وانتظر قهوة الصباح وطفق يتصفّح الصحف اليومية، قلب صفحة الوفيّات دون أن يتلو آية الفاتحة على أرواح من غابوا إلى عالمٍ آخر، قلب صفحة الشعر والقصص القصيرة ولم يتوقّف ولو لثانيةٍ فقط كي يتلو على نفسه بعض الحب والحنين، أشعل لفافة التبغ، وباشر العمل، معاملات كثيرة كانت متكدّسة على سطح مكتبه تلاشت خلال ساعات وانتهت، عند المساء، جاءت هي .. هي ذاتها .. من غادرته فنُفيَ قلبهُ بعدها إلى صندوق الثلاجة، ألقت عليه تحية المساء، فالتفت إليها ببرود وردّ عليها التحية، تفاجأت بردّة فعله، صرخت متسائلة : "أين ذهبتَ بقلبك؟" تحسّس صدره كان فارغاً، موحشاً ومُعتِماً.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى