
نـازك الـمـلائـكـة الـنـاي الـعـراقـي
لا يزيد خبر رحيل نازك الملائكة البارحة في غيابها الذي خيّم من زمن طويل. العزلة والمرض والسن حجبتها ردحاً عن الشعر والحياة نفسها. وكان مؤلما أن لا يبقى من الشاعرة سوى انتظار نبأ رحيلها، أن لا يسأل عنها أحد إلا في هذا الموضع، وأن ينعقد مؤتمر للشعر في القاهرة فلا يخطر اسمها ببال. لعله عقوقنا المزمن، لعله عقوق الدهر والحياة، وخبر موتها قد يضع نقطة ختامية لهذا الغياب المديد. وقد يدعونا إلى أن ننتشلها من النسيان الاضطراري. لن نقول عنها إنها أنهت شيئاً انتهى منذ زمن، ولا أن حقبة زالت معها فالواضح أن المرأة اللامعة والفريدة ليست بمكانها من تاريخ هو ذاتها غير واضح المكان. إذ يؤسف أن لا يبقى من نازك الملائكة سوى منازعات على الريادة لم تتأكد، وسوى منازعات على التجريب والحداثة باتت طي الأرشيف، وسوى احتجاج متأخر على تجديد خالته فلت من عقاله وشطح الى خارج السياج. يؤسف أن لا يبقى من نازك الملائكة سوى معالم تاريخ لم يتأرخ بعد، بل لا نجد سواه مدفناً ومعزلاً وبراءة من قراءة الناس ومراجعتهم. مفارقة «الحداثة» أنها لم تعد شيئاً راسخاً حتى في نظر أصحابها ومؤسسيها لذا بقيت بلا مكتبة وبلا ذاكرة وبلا تراث، وما يصيب نازك الملائكة اليوم لعنة تحيق بالجميع. وقد رحل السياب وحاوي وعبد الصبور وقباني ولم نعلم أنهم حظوا بغير التأبين فالتأبين ولم يؤذِن تراخي الزمن عليهم بإعادة قراءة أو تأويل.
لنعد مع نازك الملائكة إلى عراق الخمسينيات، الى مخاض اطلع أعمالاً بارزة في التاريخ وفي الموسيقى وفي الشعر وفي الفن التشكيلي، والأرجح أن ريادات كثيرة تكوّنت هناك، ولا نعدم الشعور بأن ذلك كله لم يكن ارتجالاً وإنما بُني على قاعدة تكاد تكون واقعاً فعلياً، وأنه مترابط متناظر بحيث يشكل في ما بين أطرافه عالماً. فالأعمال الموسيقية والتشكيلية والشعرية تكاد تكون مسوقة بشغف مشترك، هو نوع من إعادة إنتاج الواقع، من صياغة رواية ثانية للحياة العراقية ورؤية ثانية لاستحضار الماضي في الحاضر والتاريخ في المشهد الشعبي. وما تاريخ جواد علي وزخارف جواد سليم وموسيقى الأخوين بشير وشعر السياب والملائكة إلا صور متناظرة متحاكية لهذا الشغف. لم يكن غريبا أن يطلع الشغف العراقي من رحم معاناة لها أيضا واقعها ومخاضها شاعرات كثيرات فتكون في الساحة نازك الملائكة ولميعة عمارة وعاتكة الخزرجي وجميعهن بدون محاباة أوزان فعلية في الشعر. لم يكن غريبا أن تنازع شاعرة كالملائكة شاعرا على الريادة، فتكون المرأة هذه المرة بادئة متبوعة. ليست الريادة مهمة أصلا إذ لم تأت طفرة فقد سبقها تراث محترم حافل وطلة شعرية خاصة ومبتكرة أهلت الشاعرة لأن تقوم بهذه القفزة. ولسنا نجد على كل حال خطاً حاسماً بين عموديها وتفعيلتها لأن المسألة ليست في هذا الفرز. عمودي الملائكة يحمل كل الزخم التجديدي الذي في شعرها المفعّل. إنها هنا وهناك كسر لحماسة الشعر العربي وجزالته الحربية وخطابيته وجماهيريته والتباسه بأغراض أخرى كالتعليم والتحريض والتأريخ واندماجه في المناسبة. فالشاعرة التي قالت في عموديها عن القمر بأنه «كأس حليب ناعم ترف» لم تحتج الى أن تقول في تفعيلها أكثر من ذلك بكثير، فأن يكون القمر كأس حليب فتح في المخيلة أساسا، هذا لا يعني أن الملائكة لم تنجز في شعرها التفعيلي شيئاً ولكنه يعني أن في شعر شاعر واحد لا نقيم جداراً بين أوله ووسطه، كما يعني أنها لا تستطيع أن تمنح التفعيل بحد ذاته جوهرانية خاصة. في شعرها المفعّل الذي لا يتجلى في «الكوليرا» بقدر ما تتجلى في «صلات الأشباح»، مثلاً قدرة الشاعرة على أن تحصر القصيدة في بؤرة لغوية وعاطفية ومشهدية واحدة بدون ميل الى تشعب وتشتت غالبا ما أنهكا القصيدة الحديثة. في شعرها المفعّل ميل الى غناء صاف متسلسل صريح وجدل داخلي ومساءلة ناضجة وسيرة عاطفية جريئة ومطابقة وشبه شخصية، وكثافة وجدانية لا تسقط في السطحية العاطفية والكلام الممضوغ. وأيا كان الأمر فإننا، بغض النظر عن الإشكال، أمام شاعرة. ومن الظلم للملائكة أن نختصرها في معلم تاريخي، فرغم أنها استكانت الى ذلك، إلا أنها كانت بالضبط أقل مناسبة لهذا النزاع. إذ أنها في أبعد منه شاعرة وفي شعرها هناك كشف فعلي لذات مختمرة ناضجة، ولامرأة غنية قادرة وبهذا، بهذه الشاعرة وبتلـك الذات والمرأة تستحق نازك الملائكة أن تُرى في التاريخ.
أما عقود العزلة وسنوات الغياب وربما الغيبوبة فهي لا تكفي لتحجب امرأة بهذا البريق والذكاء والصدامية والاحتجاج والريادة (بمعنى المتبوعة لا التابعة) ولعل موت الملائكة النهائي يجعلنا نفهم أن ما أنجزته كان ذاتاً خاصا وحياة وامرأة فريدتين.