
نمر سعدي.. الرومانسي الجديد
لو كنت لا أعرف نمر سعدي لظننت أنه شاعر ستيني، فحرصه على تقاليد قصيدة التفعيلة حد التقديس يشجع على مثل هذا الظن..فضلا عن انتهاجه نهج الستينيين في محاولة غزل خيوط الواقع ونسجها في نسيج رومانسي يتخذ من عناصر الطبيعة وعاءً لقضايا الفكر.
للوهلة الأولى تبدو قصائد سعدي كأنها تقدم استعراضا للطبيعة، تتخذ فيه عناصرها سلطة مطلقة للفعل، ففي نص مثل (أغنية تحت أمطار أبابيلية) نلمح في العنوان عنصرين تقليدين من معجم الرومانسيين (أغنية – أمطار)، وفي القصيدة نقرأ:
في ليلةٍ ما عندما يصحو الندىفي حنطةِ الأيام ِسوفَ يضيئني وجعي الذي أدمنتهُزمناً... وتركضُ في مفاصلِ وردتينارُ المجوس ِ.....يحيلني ندميإلى أنقاضِ فردوس ٍيحيلُ دميفقاعاتِ النبيذِ المُرِّفي قلبِ إمرئِ القيسِالمُعذَّبِ بالجمالِ الحُرِّأو بلحاقِ قيصرْ
إنّ (وجعي) لا (يضيئني) إلا (عندما يصحو الندى)، وهذا الفعل متوقف تماما على الشرط حتى أن الشاعر لا يعرف موعدا له (في ليلة ما)، الطبيعة هي الحاكمة بسلطتها القسرية التي تجعلها وحدها القادرة على التحكم بالزمن.
يحاول الشاعر في بعض قصائده الهروب من هذه السلطة المطلقة، ففي قصيدة (قلبُ الإسفلت) تظهر صورة شخصية لرجل يطغى صوت وقع خطاه على كل شيء:
أبداً ترنُّ خطاكَ في صُمِّالشوارعِ كالنقيرِويصُدُّكَ الزمنُ المريرُعليكَ يوصدُ ألفَ بابْمنفاكَ أرضُ سدومَ...............فأحملْ قلبكَ المسكونَمثلكَ بالمزاميرِالقديمةِ.....أو صدى القبلاتِوأرحلْ عن زمانكَأو مكانكَفي اغتراب
فعلى الرغم من كون هذا الشخص محاصر بالزمن، منفي إلى (سدوم) فهو يظهر وهو يفعل أو يمتلك قدرة على الفعل حتى لو كان الفعل محض صوت خطى عالية، ولكن هذا لا يستمر طويلا، فسرعان ما تدركه سلطة الطبيعة وتبتلعه أو تحيط به من كل صوب:
يا آخري المملوءُ بيالمحفوفُ بالأطيافِ أو قلقِ ألضياءِأو السرابْلأكادُ أسمعُ من بعيدٍرجعَ وسوسة الخمورْوأرى الدجى المُنسلَّ منكهفٍ جليديِّ العصورِيلُفُّ أغربة َ المدينة في المدارجِبالضبابْ
هو ذا تلفه الطبيعة ضبابا وسرابا يخفيه ويسلبه القدرة المصطنعة على الفعل.
إن الإحساس بالعجز عن الفعل والذوبان في الطبيعة الطاغية عند نمر سعدي ينعكس في مظهر فني لافت للنظر، وهو كثرة ابتداء أسطره بصوت ساكن:
صوتُها لا أطيقُ إبتسامتَه الماكرةليعلّقَ أحزانها فوقَ أفراحِ قلبيويبرأُ من دمها.........ألحزنُ ذئبٌ بعينيَّ أعرفهُ.........ألحزنُ ذئبٌ بريءٌ يلاعبنيويُمسّدُّ لي وجعَ الذاكرة
في السطرين الرابع والخامس يلاحظ ابتداء الشاعر بكلمة (الحزن) ولأن الهمزة هنا هنا همزة وصل فإن البداية الصوتية الحقيقية للسطر ستكون بصوت اللام الساكنة. هذه الظاهرة تكاد لا تخلو منها قصيدة من قصائد نمر سعدي:
الحياةُ كما أنا أفهمُهالهفة ٌ لسماءٍ ملوَّنةٍ بالنداءاتِروحُ الينابيع ِتحملُني مثل عطرِ ألندىزهوة ٌ للحصانِ ِ المُجنَّح ِ فيَّإحتراقُ الأباريق ِ فيقُبة ِ ألليل ِ
في هذه القصيدة يحاول الشاعر صياغة مفهوم ذاتي للحياة غير أنه يبدأها بصوت ساكن، وهذا طبيعي حسب عقيدته في تسلط الطبيعة، فهذا الذي يحاول صياغة مفهوم الحياة يفعل ذلك لأنه يراها (الحياة – الطبيعة) القوة الوحيدة القادرة على الفعل، أما هو فـ (ساكن) لا يقدر إلا على التأمل ومحاولة الفهم.
في قصائد الشاعر نمر سعدي لا يستسلم وحده لسلطة الطبيعة، بل إننا سنكتشف كلما تقدمنا في قراءته إن المتكلم في قصائده ليس نمر سعدي بل ضمير الإنسان، فالجنس الإنساني كله مسحوق بجبروتها:
صرختُ من أبديّةِالأحزانِ في عينيكِيملأني اشتهاء الريح ِأين يكونُ عدلكِيا يبوسُ؟/هنا على زهر السياج ِظهرتُ في ثوبيانسللت كآخرِ الأزهار ِ....خلف َ القلب ِ نافذة ٌمن النعناع ِخلف َ مروج ِ نارْما غير َ سيّدةٍ هناكَيشعُّ منها دمعهاقمرا ً ينامُ على المدينةذابت أصابعها على حجر ٍلتأخذ َ شكلَ نورسةٍحزينةغنّتْ بلا معنىوأتعبها الحنينُ سدىفنامت في السكينة
هذه السيدة صورة للآخر الذي يحس الاستلاب فيسلم أمره ذائبا في (قمر) و(نورسة) نائما تحت وطأة الإحساس باللا جدوى والطبيعة ذات السلطة الطاغية.
وتبلغ سلطة الطبيعة أحيانا حدا تنفصل معه (الذات) عن الضمير:
شجرٌ وراء غموضها الشفافِفي المقهىوقلبي نجمة ٌ أخرىمعّلقة ٌ على الأغصان ِلا مطرٌ يوافينيبما ترثُ الأنوثة ُ من بهاءٍناصع ِ التكوين ِأحلمُ بانكساريمثل نهر ِ الضوءِموسيقى يرّفُ......كحفنةٍ بيضاءَ من عدم ٍومن ندم ٍيهدهدني لكي يغفو أنايَ
الحديث هنا عن الذات يبدو فيه كأن الضمير منفصل تماما عن الأنا المسحوق حتى يسقط في (العدم- الندم)، وعندها يكشف الضمير انفصاله عن الذات بعبارة جلية (يهدهدني لكي يغفو أنايَ).
وفي واحدة من قصائد الشاعر التي كتبها عام (2000) يصرح بفلسفته هذه، التي تقول بعجز الإنسان عن الفعل وخضوعه للسلطة المطلقة للطبيعة (على غير هداية):
بغير هدايةٍ أكتب ْبغير ِ هدايةٍ كالنهرْركضتُ مع الحياةِلغير ِ ما هدفٍ...وكان الدهرْورائي مثل طيف الذئبِفي قدميَّ قيدَ التبرْكثيرا ً سوفَ تقرؤني وتقرؤنيوتستغربْولكنيّ كذلك َ حين أكتبُلوعتي والشعرْبغير ِهدايةٍ كالشوقْلأني عشتُ أياميبغيرِ هدايةٍ كالشوقْكآخر نجمةٍ سقطتْأو إنسبرتْبغور ِ العشقْ
والغريب أنه يحاول هنا أن ينسب حتى هذا الإحساس بالعدمية واللا جدوى الى الطبيعة فهو ليس إلا (نهر) يركض في الحياة.