الأحد ١٣ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢٠
بقلم جورج سلوم

نوبة صرَع

قصتي اليوم – يا مَن تقرؤون - بوليسيّة، فيها مجرمٌ وضحيّة، ومحقّقٌ قد يبحث عن الملابسات بطريقة الخطف خلفاً.. لكنّها قصة قصيرة، لذا لن يعتصر القارئ أفكاره ويشحذ مخيّلته في متاهة الاحتمالات الممكنة وغير الممكنة، ليُماطَ اللثام عن المجرم في الصفحة الأخيرة.

فالضحية كانت هيَ، وهي المجرمة أيضاً، وهي من أضمرت وأضرمت وخطّطت وصمّمت ونفّذت واقترفت، وهي من شككت ثم بادرت واشتكت، وهي التي وجّهت إصبع الاتهام إليّ.. ولا بصمات إلا بصماتي عليها وبصماتها عليّ!..

وبطلتي كانت تجرّب لوحدها وأمام المرآة مشهداً تمثيليّاً كلّ مرّة، أو لنقل كل نوبة من نوب الجنون التي تنتابها، وتمثّل انتحاراً فاشلاً لا يكتمل كأيّ منتحرٍ جبان!..أو مُرائي، فيكتفي بجرح إصبعه لتسيل نقطتان من دمه ويصيح مُوَلوِلاً أنا الذي كنت سأموت، وهبّوا لنجدتي.

أو مثل من يذيع على الملأ بأنه بيوم كذا وتاريخ كذا سيُلقي بنفسه إلى التهلكة من بناية في منتصف السوق..وفعلاً يدلّي ساقه اليسرى وينتظر تجمّع الجمهور ليظهر لهم ساقه اليمنى، ثم يتشبّث بناصية السطح ويترنّح وكأنه يهوي.. ويترنح أيضاً على صيحات الجمهور وآهاتهم وتأوّهاتهم وكأنه يتراقص على أنغامهم.

وبعد أن يسألونه عن شكواه ويعِدونه بتحقيق مطالبه، ينتظر من يمدّ له يد العون وذراع النجاة أو يتلقّفه لينقذه، كمغامرٍ انتحاريّ ذي قضيّة مطلبيّة محقّة.

هدّدتني مراراً بأنها ستنتحر، ومرّرَت سكين المطبخ على رقبتها الطريّة أمامي..وكنت أسمع حفيفاً عذباً على العنق المرمريّ وكأنه عود كمانٍ موسيقيّ يحزّ أوتاره ولا يجزّها، وكنت أهبّ مذعوراً لأنتشلها من إتمام العزف موافقاً على طلباتها، وزيادة.

وأسعفتها مرّةً إلى المشفى بحجّة تناولها لمئات الحبوب الدوائية، إذ اتّصلَت بي يومها مودّعة، ووجدتها فعلاً مضطجعة على الأرض مسترخية كخرقة بالية، وحولها عشرات العلب الدوائية الفارغة.. وبعد غسيل المعدة لم تستفرغ حبّة دواء واحدة، واستبقوها ليلتها للمراقبة ولم تظهر عليها عارضة من عوارض التسمّم الدوائي.

طلبَت إليّ يوماً أن آتيها بمسدّسٍ محشوّ، وسألتني كيف يمكنها أن تنصب مشنقة ذاتية، وقالت إنها ستشرد إلى طرف المدينة في عزّ الليل لوحدها عسى أن يختطفها المغتصبون الملثمون، فيتقاسمونها بالتسلسل في مغارتهم المخفيّة ويمثّلون بها، ثم يجدها العابرون جثة مرميّة مقطّعة الأوصال.

كانت تسألني..كم من الوقت سأبكي لفقدها؟

أو لو اتصلوا طالبين فدية مالية..فهل سأدفع؟

وحديثها عن اسطوانة الغاز التي ستتركها مفتوحة، وأسلاك الكهرباء المعرّاة التي قد تصعقها في الحمّام عاريةَ الجسد مغسولةً بالماء والصابون، والوسادة المبلولة التي ستكتم أنفاسها، والكثير الكثير من وسائل الموت التي قرأتْها أو سمِعَتْ عنها.

كانت تستلذّ بانفعالاتي ولهفتي لإنقاذها، وترضى كالطفلة المدللة إن حقّقتُ رغبتها أو اشتريت لها بدل قطعة الحلوى قطعتين، وتبكي وتلتجئ وتلوذ بي إذ أمسح دموعَها الفوّارة..ثم صارت تكتفي بوعودي التي غالباً ما أنسى تنفيذها.

-أنا كالقطة بسبعة أرواح ولا أموت بسهولة.

تقولها بفخر عندما تكون في طور السعادة والرضى..وتقول إنها شمعة ستنطفئ فجأة بنفخة هواء إن كانت في طور اليأس والقنوط..وتضيف:

 وماذا ستفعل لو نجحَت محاولاتي أيها المجرم؟

قلت ساخراً:

 في المرّة القادمة سأستأخِر عليك قليلاً عساك تفلحين..ولكني أعتقد أني سأموت قبلك، فكل من عرّض نفسه للموت استأخره الموت.

قالت وقد أطرَبَتها ـ كما يبدو ـ فكرة أن أموت قبلها:

 تعال ننتحر سويّاً كعاشقين متعانقين ونلقي بأنفسنا من على الجرف مثلما يفعلون في اليابان فيدفنوننا معاً، أو تعال نكتّف بعضنا بعضاً على سكة القطار، فتودّعني عندما نسمع صافرته، وتزداد التصاقاً بي عندما يقترب منّا، ونصمّ آذاننا كلّما اقتربَت عجلاته الحديدية، ونغمض جفوننا فلا نرى اندهاسنا وتقطيعنا..أوّاه..كم ستتسارع دقّات قلبنا ساعتها؟ّ!..أواه.. وسيعجزون عن فصل أجسادنا المتشابكة ودمائنا المتمازجة.

 أقترح طريقة أقلّ ألماً وإيلاماً بجرعةٍ من السّم نتوازعها..لكنّي لا أريد الموت حالياً، وما زال بي شغفٌ بالحياة التي لم أشبع من لذائذها.

قالت بعد أن غاصت في أفكارها لثوان:

 أتدري؟..كلّما همَمْتُ لإنجاز انتحاري الكامل، أتوقّف إذ أتذكّرك.

وأضافت بعد أن حملقت في وجهي:

 تردعني عن المضيّ في جريمتي صورةٌ أتخيّلك فيها مع امرأة أخرى بعدي، فتزوران قبري سويّة ثم تتأبّطها وتبني معها قصة حبٍّ جديدة على أطلالي..وستقول لها أين الثريّا من الثرى؟

ضحكتُ، وأحسست بالغرور ساعتها..وقلت:

 لا..لا تقلقي..سأضع صورتكِ بجانب سريري المزدوج معها، فتشاهدين كلّ شيء سيجري بيننا ولن تفوتكِ فائتة.

وانقضّت عليّ ساعتها كاللبوة الجريحة، وأمسكت بخناقي:

 ويلك..سأخنقكما لحظتها بيديّ هاتين، ولو جئتكما من العالم الآخر.

وكنت سعيداً إذ أمسكت بخناقي وأمسكتُ بخناقها، وتعاركنا وتصارعنا حبّاً حتى لتمزّقت بعض ثيابنا، وتصافعنا، وتلاكمنا جولاتٍ وجولات حتى سقطنا معاً صريعين بالضربة القاضية.

قالت بعد أن استفاقت وأسدلت الكواليس على مسرح جريمتها:

 إنها الجريمة الكاملة، وكل أركانها وعناصرها متواجدة، إنها الجريمة الأولى والخطيئة الأصلية التي ارتكبَتها أمّنا حواء، ولا جريمة قبلها، وابتدأت تلك الجريمة بسبق الإصرار والترصّد على امتلاك ما ليس لها، ثم أعقبتها بسرقة التفاحة، ثم أشركت آدم في أكلها، ثم كذبت على الإله وقالت إن الحيّة أغوتها، ثم أعقبها العقاب الإلهي، ومع ذلك ما زلتُ كحواء أميل لتلك الجريمة.

قلت:

 وما زلتِ تختبرين حبي لك بمحاولاتك الانتحارية؟

 نعم..أحبّ لهفتك إليّ واندفاعك المجنون لتنقذني..واحتضانك لي وكفكفكة دموعي..عندها أنام بأمان تحت جناحك..لذا لا تبتعد عني أرجوك..ابق قريباً، فقد أستنجد بك بأية لحظة!

في ذلك اليوم المشؤوم كنت مرتبطاً بعملي الوظيفي، ورنَّ هاتفها مراراً يطلبني، وابتسمت في نفسي ولم أجب، وعرفت أنها تمثّل مشهداً من مسرحيتها المعهودة، ولم أكن لأستطيع الانسحاب من عملي بسهولة، فاستأخرت عنها قصداً، وأهملت اتصالاتها مراراً.

وانطلقت عندما أمكنني الانسحاب من دوامي، انسحبت بهدوء، وسرت ماشياً إليها متخيّلاً كيف سأنقذها من نفسها، وكيف سأداويها وتداويني، وأداريها وتداريني، وأحتضنها وتلوذ بي.

ووقفتُ أمام محلّ لبيع الورد، واشتريت لها وردة حمراء مشوّكة أشبكها بأي ثغرة من ثيابها، واشتريت شراباً نشربه وبعضاً من طعام، وتبغاً نحرقه ونحن نلتقط أنفاسنا بعد إتمام عملية الإنقاذ.

وتباطأتُ أيضاً، وأنا أمشي، وكنت أتخيّل مبلغ الغضب الذي سأواجهه، وأتخيّل كيف سأمتصّ غضبها من فيها حتى تسكت، وأتخيّل كيف سأقيّدها لأتّقي ضرباتها على صدري، وكيف سينتقل الغضب إلى ساقيها تحاولان ركلي، وكيف سأحاول تثبيتهما لتبقى ارتجافاتها وتقلّصاتها العضلية تنتفض كالمصروع بين يدي، وتتكزّز وتعضّ لسانها وتعضّ اصبعي الذي يمنع فرط تكزّزاتها، حتى تستكين، وما أحيلى استكانتها بعد نوبة الصرع تلك.. فأمسح الزبد عن شفتيها المسترخيتين..وأغمض عيونها التي ما زالت مفتوحة ومحملقة فيما وراء الموت الذي نجت منه في تلك النوبة.

عندما دخلتُ إليها متباطئاً خفيفاً حذراً كاللص، كانت مستلقية على الأرض بلا حراك..باردة..وحيدة..ولم تنجح محاولاتي الإنقاذية، ولم أستطع إعادة سخونة الحياة إليها.وهكذا انتهى الأمر بأن أسدلتُ أجفانها كي لا تراني، ومسحت بعض الزبد أو القيئ عن صوارها، وسحبتُ غطاءً ما من على سريرها يدثّر برودتها، ورميت وردتي الحمراء على جثمانها.

وتكاثر المدعوون من رجال الشرطة بعد أن طلبتهم، ووجدوني جالساً بهدوء ووجوم أرتشف من شرابي وأنفث من سيجارتي، واعتبروني مجرماً ووافقت، واعترفت.

وها أنا بعد شهر من سجني على ذمة التحقيق، أدافع عن نفسي، وأتنصّل من جريمتي، وسأثبت لهم بأني فقط تأخّرت عن إنقاذها.

وتمّت تبرئتي بعد أن وجدوا دواءً للصّرع في أحد أدراجها، وشهد بذلك طبيبها الخاص.وأغلقوا الملفّ باعتبارها مجرّد نوبة صرع..ليس إلا!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى