

هاتفٌ من فَلسْطِين
هُنَاكَ، حَيْثُ مَنْبِتُ الزَّيْتُونِ، وَرِيحُ الأَرْضِ المُقَدَّسَةِ، وَظِلُّ المَآذِنِ الشَّامِخَةِ، أَرْوَاحٌ احْتَرَقَتْ أَجْسَادُهَا، وَحَسْنَاوَاتٌ تَجَرَّدْنَ مِنْ أَثْوَابِهِنَّ الرَّثَّةِ البَالِيَةِ، مَزَّقَتْهَا الحَرْبُ القَاهِرَةُ، وَآلَامُ النَّكْبَةِ وَالنُّزُوحِ، وَالفِرَاقِ المُكْرَهِ، يَبْكِينَ عَلَى الأَطْلَالِ، بَعْدَ تَوْدِيعِهِنَّ الدِّيَارَ، لِفَرْطِ التَّهْجِيرِ الجَمَاعِيِّ، وَالقَتْلِ المُنَظَّمِ، وَالإِبَادَةِ، وَغَدْرِ العُرُوبَةِ، وَطَعْنِهَا فِي الخَاصِرَةِ بِسَكَاكِينِ الغَدْرِ وَالخِذْلَانِ...
هُنَاكَ، حَيْثُ تَنْبُتُ الزَّيْتُونَةُ فِي تُرَابٍ مُبَارَكٍ، وَتُقْرَعُ أَجْرَاسُ الحُرِّيَّةِ فِي صُبْحٍ لَا يَغِيبُ، هُنَاكَ، حَيْثُ الأَرْضُ تُحَدِّثُ السَّمَاءَ بِلُغَةِ الدِّمَاءِ الطَّاهِرَةِ، وَهَمْسِ الرِّيَاحِ يَحْمِلُ أَنْشُودَةَ الصُّمُودِ، أَرْوَاحٌ تَحْتَرِقُ، وَأَجْسَادٌ تُدَاسُ، وَأَحْلَامٌ تَتَكَسَّرُ عَلَى جُدْرَانِ العِدَاءِ.
هُنَاكَ، فِي بِلَادٍ يُنَادِيهَا التَّارِيخُ: "فِلَسْطِينُ!"
يَنْبُضُ الجُرْحُ، وَيَتَفَتَّحُ الوَجَعُ، وَتُزْهَرُ كَلِمَةُ "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" عَلَى شِفَاهِ مَنْ يُوَدِّعُونَ الحَيَاةَ بِشُوقٍ إِلَى الخُلُودِ.
ضُعَفَاؤُهَا لَا حَوْلَ لَهُمْ وَلَا قُوَّةَ، إِلَّا بِالثِّقَةِ بِاللَّهِ، وَاليَقِينِ بِوَعْدِهِ، وَالقَلْبِ الَّذِي لَا يَحِيدُ.
أَطْفَالُهَا؟ حَلَّقَتْ أَرْوَاحُهُمْ إِلَى عَلْيَاءِ السَّمَاءِ، وَسَكَنُوا فِي ظِلِّ الرَّحْمَةِ، هُمُ الوِلْدَانُ المُخَلَّدُونَ فِي جِنَانِ الْخُلُودِ.
وَرِجَالُهَا؟
﴿رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾.
وَنِسَاؤُهَا؟
حُورٌ عِينٌ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الآخِرَةِ، حَمَلْنَ العِفَّةَ فِي قُلُوبِهِنَّ، وَالوَطَنَ فِي أَعْيُنِهِنَّ، وَالكَبِيرَ وَالصَّغِيرَ فِي أَحْضَانِهِنَّ، وَأَصْبَحْنَ أَسِيرَاتٍ فِي يَدِ مَنْ لَا يَعْرِفُ لِلشَّرَفِ مَعْنًى، وَلَا لِلرَّحْمَةِ طَرِيقًا.
زَحَفَ عَلَى غَزَّةَ الزَّاحِفُ الغَادِرُ، بِقَنَابِلِهِ المُحَرَّمَةِ، وَنِيرَانِهِ المُتَفَحِّمَةِ، فَهَدَمَ الدُّورَ فَوْقَ سَاكِنِيهَا، وَتَنَاثَرَتْ أَجْسَادُهُمْ فِي الفَضَاءِ، وَلَكِنْ... قُلُوبُهُمْ لَمْ تَزَلْ تَنْبِضُ بِالكَرَامَةِ، وَأَلْسِنَتُهُمْ تَنْطِقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ.
وَالأُمَّهَاتُ؟
هُنَّ اللَّوَاتِي يُزَغْرِدْنَ وَأَعْيُنُهُنَّ تَحْمِلُ نُورًا وَدَمْعًا، يُوَدِّعْنَ الشُّهَدَاءَ وَيَحْمِلْنَ فِي صُدُورِهِنَّ رُوحَ فِلَسْطِين.
يَسْتَغِيثُونَ فَلا مُغِيثَ، يَصْرُخُونَ تَحْتَ الرُّكَامِ فَلا أَحَدَ يَسْمَعُ، وَإِذَا سَمِعَ فَإِنَّهُ عَرَبِيٌّ مَشْغُولٌ بِحِسَابِ الأَرْقَامِ وَعُقُودِ الذُّلِّ وَمَوَاعِيدِ الطَّاعَةِ!.
لَمْ يَبْقَ لَهُمْ مِنَ الحَيَاةِ إِلَّا رَاحَةُ الشَّهَادَةِ، وَرَائِحَةُ الفِرْدَوْسِ، وَيَقِينُ الْعَوْدَةِ الَّتِي تَسْرِي فِي دِمَائِهِمْ. لَمْ تُسَلِّمْ مِنْ قَسْوَةِ العَدُوِّ حَتَّى الأَرَامِلُ، وَالأَيْتَامُ، وَالشُّيُوخُ الَّذِينَ تَسَاءَلُوا: "مَاذَا أَرَادَ لَنَا القَدَرُ؟!"
وَلَكِنَّهُمْ يَحْمِلُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَمِيَّةَ الدِّينِ وَالوَطَنِ، وَفِي أَعْيُنِهِمْ نُورَ الإِيمَانِ، وَفِي رُؤُوسِهِمُ العِزَّةَ وَالإِبَاءَ. لَمْ يَسْتَسْلِمُوا لِلْمَوْتِ، بَلْ وَاجَهُوهُ بِصَدْرٍ مَفْتُوحٍ، وَعَيْنٍ تَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ وَتَقُولُ: "وَعْدُكَ حَقٌّ يَا رَبُّ."
لَيْسَ لَهُمْ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ...
فَمَنْ سَيَتَوَلَّى أَمْرَ الَّذِينَ يَنْزِفُونَ؟!.
مَنْ سَيَكُونُ لَهُمْ وَهُمْ يُنَادُونَ فِي الصَّبَاحِ وَالمَسَاءِ وَالبُكُورِ وَالأَصَالِ: "يَا رَبُّ، هَلْ مِنْ مَفْرَجٍ لِلْكَرْبِ؟!" لَكِنَّهُمْ يَعْرِفُونَ أَنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ وَعْدَهُ، وَأَنَّ اليَوْمَ قَرِيبٌ، وَالنَّصْرَ آتٍ، وَالزَّمَانَ سَيَنْطِقُ، وَالحُرِّيَّةَ سَتُكْتَبُ بِدَمَاءِ الصَّابِرِينَ!.
وَيَوْمَئِذٍ... يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ.
_رَقْصَةُ النَّصْرِ وَدُعَاءُ الرَّحْمَةِ
قُومِي يَا غَزَّةَ العِزَّةِ، أَرْقُصِي وَافْرَحِي، هَا قَدْ لَاحَ فَجْرُ النَّصْرِ، وَانْزَاحَ سِتَارُ الظُّلْمِ، فَشَمْسُكِ أَشْرَقَتْ مِنْ جَدِيدٍ، وَنُورُهَا يَتَسَلَّلُ بَيْنَ جِرَاحِكِ المُنِيرَةِ، كَأَنَّهَا تُوَاسِيكِ وَتَهْمِسُ لَكِ: "هَذَا يَوْمُكِ، فَافْرَحِي يَا زَهْرَةَ المَدَائِنِ، وَيَا رَمْزَ الكِبْرِيَاءِ."
نَسِيجُ أَشِعَّتِهَا كَبَيْتِ العَنْكَبُوتِ، فِي حَاشِيَةِ الأُفُقِ، وَصَفْحَةُ الفَجْرِ انْطَوَتْ كَأَوْرَاقِ الدَّفَاتِرِ، لِتَبْدَأَ صَفْحَةٌ جَدِيدَةٌ خَطَّهَا الأَبْطَالُ بِدِمَائِهِمْ، وَصَاغُوهَا بِتَضْحِيَاتِهِمْ، وَرَسَمُوهَا بِمَآثِرِهِمُ العَظِيمَةِ. وَأَطَلَّتْ عُيُونُ السَّمَاءِ بِالغُيُومِ، وَتَبَسَّمَتِ السُّحُبُ، وَأَمْطَرَتْ دُمُوعَ الفَرَحِ مَطَرًا غَزِيرًا، بِفَضْلِ اللهِ، فَغَسَلَتِ الأَرْضَ الَّتِي أَثْقَلَتْهَا آلاَمُ الحَرْبِ، وَجَرَتِ الأَنْهَارُ، وَنَزَلَتِ السُّيُولُ وَالوِدْيَانُ، وَهَبَّتِ النَّسَائِمُ المُبْتَلَّةُ بِنَدَى اللَّيْلِ عَنْ أَوْرَاقِ أَشْجَارِ الزَّيْتُونِ، كَأَنَّهَا تَرْوِي قِصَّةَ صُمُودِهَا، وَتَتَحَرَّرُ مِنْ غُبَارِ الحَرْبِ وَدَنَسِ المُعْتَدِينَ.
قُومِي، أَرْقُصِي فَرَحًا يَا طِفْلَةَ الزَّيْتُونِ، فَقَدِ انْقَشَعَ اللَّيْلُ، وَهَا هُوَ صُبْحُ الحُرِّيَّةِ يَبْزُغُ مِنْ جَدِيدٍ!.وَدَاعًا لِلآلاَمِ وَالأَحْزَانِ، وَالأَحْقَادِ، وَالأَضْغَانِ، فَلا مَظَالِمَ بَعْدَ اليَوْمِ، وَلا قَهْرَ، وَلا اضْطِهَادَ. لا نَدْبَ، لا نَشِيجَ، لا تَنْدِيدَ، لا جَلْسَةً عَرَبِيَّةً جَوْفَاءَ، وَلا عِبْرِيَّةً خَادِعَةً. انْتَهَتِ المُسَاوَمَاتُ، وَسَقَطَتِ الأَقْنِعَةُ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْ تِلْكَ الزَّوَابِعِ سِوَى نَصْرِكِ المُبِينِ، ذَلِكَ النَّصْرُ الَّذِي لَطَالَمَا أَضَاءَ سَمَاءَكِ النَّقِيَّةَ، وَرَفْرَفَتْ رَايَتُهُ فَوْقَ جُدْرَانِكِ العَتِيقَةِ.
لا ذُلَّ، لا انْكِسَارَ، لا انْهزامَ بَعْدَ اليَوْمِ!.
قِفِي يَا غَزَّةُ بِشُمُوخِكِ المُعْتَادِ، وَارْفَعِي جَبِينَكِ نَحْوَ السَّمَاءِ، فَأَنْتِ الَّتِي كَسَرْتِ القَيْدَ، وَأَسْقَطْتِ الجَلَّادَ. ائْذَنِي لِلنَّاسِ أَنْ يَأْوُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ بِسَلاَمٍ، أَنْ يَعُودُوا إِلَى أَهْلِهِمْ بِقُلُوبٍ مُطْمَئِنَّةٍ، أَنْ تَسْتَعِيدَ الطَّبِيعَةُ أَنْفَاسَهَا بَعْدَ أَنْ خَنَقَتْهَا نِيرَانُ القَصْفِ وَالدَّمَارِ. هَا هِيَ الطُّيُورُ تَعُودُ إِلَى وُكْنَاتِهَا وَأَعْشَاشِهَا، وَالوُحُوشُ إِلَى غَابَاتِهَا، وَالأَنْهَارُ إِلَى مَجَارِيهَا، وَالأَرْضُ إِلَى خُصُوبَتِهَا، وَالسَّمَاءُ إِلَى نَقَائِهَا.
لَمْ يَبْقَ إِلَّا كِبْرِيَاؤُكِ وَعُنْفُوَانُكِ، يَتَأَلَّقَانِ فَوْقَ شَاطِئِ الرَّاحَةِ وَالأَمَانِ، وَسَطَ أَنْغَامِ الفَرَحِ وَأَهَازِيجِ الحُرِّيَّةِ. انْطَلِقِي يَا غَزَّةُ، ارْفَعِي صَوْتَكِ عَالِيًا، غَنِّي لِلْحُرِّيَّةِ، غَنِّي "عَلِّ الكُوفِيَّةَ"، وَ**"المِيجَانَا"**، دَعِي أَنْغَامَ العُودِ تَدُوِي فِي الأَرْجَاءِ، دَعِي المُوسِيقَى تَرْوِي لِلْعَالَمِ كُلِّهِ قِصَّةَ الصَّبْرِ وَالصُّمُودِ وَالانْتِصَارِ، فِي سُكُونِ اللَّيْلِ مَعَ هَدِيرِ الرِّيَاحِ الَّتِي تُلَامِسُ ذَوَائِبَ الأَشْجَارِ وَرُؤُوسَ الأَبْرَاجِ.
اُطْلُبِي الرَّحْمَةَ لِشُهَدَائِكِ، الَّذِينَ لَهُمْ مِنْ حَنَايَا ضُلُوعِكِ سَرِيرًا وَمَرْقَدًا، وَمَكَانَةً فِي القَلْبِ قَبْلَ سَرِيرِكِ، وَمِنْ أَحْشَاءِ مَهْدِكِ قَبْلَ مِهَادِكِ.
هُمُ الَّذِينَ رَحَلُوا بِأَجْسَادِهِمْ، لَكِنَّ أَرْوَاحَهُمْ بَقِيَتْ تَحْلِقُ فِي سَمَاءِ المَجْدِ، مَنْقُوشَةً عَلَى صَفَحَاتِ التَّارِيخِ بِمِدَادِ العِزَّةِ وَالكَرَامَةِ.
الَّذِينَ قَدَّمَ لَهُمُ الدَّهْرُ كَأْسَ الشَّقَاءِ فِي الدُّنْيَا، وَوَهَبَهُمْ نَعِيمَ الخُلُودِ فِي الآخِرَةِ، فَشَرِبُوا الأُولَى بِقُلُوبٍ ثَابِتَةٍ، وَاشْتَاقُوا إِلَى الأُخْرَى بِعُيُونٍ مُطْمَئِنَّةٍ.
اُطْلُبِي لَهُمُ الرَّحْمَةَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَصْحَابَ قُلُوبٍ بَيْضَاءَ، وَأَنْفُسٍ تُحِبُّ مَنْ لَا يُحِبُّهَا، وَتَرْحَمُ أَسْرَى مَنْ لَا يَرْحَمُ أَسْرَاهَا.
تَبْتَسِمُ عَذْبَةً رَائِقَةً، لَا يُخَالِطُهَا مَزْجُ رِيبَةٍ أَوْ شَكٍّ، وَأَيَادِيهِمْ مَمْدُودَةٌ لِاجْتِنَاءِ الخَيْرِ دَائِمًا، كَشَجَرَةٍ كَرِيمَةٍ بِالثِّمَارِ، وَارِفَةِ الظِّلَالِ، تُعْطِي بِلَا مُقَابِلٍ، وَتَمْنَحُ بِلَا تَرَدُّدٍ.
قِفِي وَقْفَةَ المُتَرَيِّثِ أَمَامَ مَسْرَحِ الحَيَاةِ الحَافِلِ بِالزَّخَارِفِ وَالتَّهَاوِيلِ، وَتَأَمَّلِي كَيْفَ يَمْضِي الزَّمَنُ كَرِيحٍ عَابِرَةٍ، لَا يَبْقَى مِنْهُ إِلَّا مَا نُقِشَ عَلَى جَبِينِ التَّضْحِيَةِ.
اُنْظُرِي نَظْرَةَ الحَكِيمِ العَاقِلِ، الَّذِي يُدْرِكُ أَنَّ السَّعَادَةَ الكَاذِبَةَ لَيْسَتْ إِلَّا سَرَابًا، وَأَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ الحَقِيقِيَّةَ تَنْبُعُ مِنْ صِدْقِ الرُّوحِ وَنَقَاءِ السَّرِيرَةِ.
وَالَّذِينَ كَانُوا يَغْدُرُونَ بِكِ سِرًّا، هَا هُمْ الآنَ لَا يَضْحَكُونَ مَعَكِ سُرُورًا بِهَذَا النَّصْرِ، بَلْ يَبْكُونَ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، وَتَذُوبُ أَقْنِعَتُهُمْ أَمَامَ وَهَجِ الحَقِيقَةِ.
أَمَّا الجَالِسُونَ حَوْلَ طَاوِلَاتِ التَّطْبِيعِ مِنَ العَرَبِ الغَادِرِينَ بِطَعْنَاتِ الخِيَانَةِ، فَإِنَّهُمْ يُقَامِرُونَ بِأَنْفُسِهِمْ، وَلَا بُدَّ أَنَّهُمْ خَاسِرُونَ.
يَشِحُّونَ بِوُجُوهِهِمْ، وَتَعُودُ أَوْرَاقُهُمْ وَوَثَائِقُهُمْ إِلَى أَدْرَاجِهَا مَخْدُوعِينَ، وَأَفْئِدَتُهُمْ مَصْدُومَةٌ، وَكَأَنَّ التَّارِيخَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ بِازْدِرَاءِ، وَيَكْتُبُهُمْ فِي صَفَحَاتِهِ السَّوْدَاءِ.
اُطْلُبِي الرَّحْمَةَ لِجَمِيعِ القَادَةِ الشُّرَفَاءِ، الَّذِينَ وَقَفُوا شَامِخِينَ كَجِبَالٍ لَا تَنْحَنِي، وَأَقْسَمُوا أَنْ يَكُونُوا لِلْحَقِّ دِرْعًا وَسَيْفًا.
وَلِلْآبَاءِ العَائِدِينَ إِلَى مَنَازِلِهِمْ تَحْتَ سِتَارِ الظَّلَامِ، بِدُمُوعٍ سَاكِبَةٍ وَقُلُوبٍ وَاجِمَةٍ وَحَزِينَةٍ، بَعْدَ أَنْ سَايَرُوا الشَّمْسَ مِنْ مَشْرِقِهَا إِلَى مَغْرِبِهَا، فَلَمْ يَجِدُوا مَا يَمْسَحُونَ بِهِ دُمُوعَ أَبْنَائِهِمْ وَأَطْفَالِهِمْ حِينَ عَادُوا إِلَيْهِمْ.
اُطْلُبِي الرَّحْمَةَ لِجَمِيعِ الأُمَّهَاتِ الجَالِسَاتِ حَوْلَ أَسِرَّةِ أَبْنَائِهِنَّ الجُرْحَى وَالجِيَاعِ، وَقَدْ خَفَقَتْ قُلُوبُهُنَّ، وَحَارَتْ أَبْصَارُهُنَّ، مَخَافَةَ أَنْ يَذُقْنَ مَرَارَةَ الثُّكْلِ، وَالثُّكْلُ كَثِيرٌ عَلَى قُلُوبِ الأُمَّهَاتِ، وَلَكِنَّهُنَّ يَبْقَيْنَ قَنَادِيلَ صَبْرٍ، وَنَخِيلًا سَامِقَةً، لَا تَهُزُّهَا رِيَاحُ المِحَنِ، وَلَا تَكْسِرُهَا عَوَاصِفُ الأَلَمِ.
اُطْلُبِي الرَّحْمَةَ لَهُمْ جَمِيعًا، فَهُمْ نُجُومُ اللَّيْلِ فِي ظُلْمَةِ الطَّرِيقِ، وَهُمْ أَوْتَارُ العِزَّةِ فِي سِيمْفُونِيَّةِ التَّارِيخِ، وَهُمْ البِذْرَةُ الطَّيِّبَةُ الَّتِي سَتُنْبِتُ غَدًا حُقُولًا مِنَ الحُرِّيَّةِ وَالمَجْدِ.