الجمعة ٥ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٧
بقلم بيانكا ماضية

هديل الزمان

جملة قالها يوماً فريدريك نيتشه ، مفادها أن الإنسان القوي ذا الإرادة الصلبة هو من يضحك من مآسي الحياة ... وبقيت وشماً في ذاكرتي تفتح نافذتها وتطل علي بين الفينة والأخرى ... وكنتُ كلما يأوي إلي إحساس رهيب ليبيت أياماً لديّ فأخال أنني سأشهد احتضار روحي ، وسأراها وهي تسجى فوق سريري ، وسأقف أتلو بعض الصلوات كي لاتشعر بمر العذاب في خروجها من دنياي ، يأتي إلي كلام نيتشه ليقف بجواري ويواسيني على روحي التي أشعر بها تفارقني وهي تحتضر ، وأسأل جسدي الذي يشعر هو الآخر بمغادرة خليلته : ألديك من القوة كي تضحك من مآسي الحياة ؟ ويجيبني : لدي القوة كي أضحك من كل شيء وليس من مآسي الحياة وحسب ، ألم أكن أطير فرحاً حين كانت الروح تحلق معي ؟ ألم أرقد في ليالي الضجر ليتسلل إلي الرقاد دونما عناء ؟ ألم تشاركيني فرحي وترحي ؟ ألم نقو في كل الأيام على لحظات حسبناها دهوراً ؟!! .
أجيبه : فلمَ إذاً تدع خليلتك تذهب إلى ماوراء السحب ، أليست هي التي تدغدغ أنفاسُها رقادَك ، لماذا تدعها مسجاة مابين الحياة والموت ؟!

ثم أراه كمن يتسلل في الظلام ليدنو من سور حدائقها ، يفتح بابها ليتنسم العطر الذي خبأته له ذات يوم ، فيلتقيها كعاشق فقد معشوقه ، كمتسول يستجدي منها برعم زهرة رنت إليه من بعيد ، يقبل يديها راجياً ألا تفارقه ، يذكرها بأيام كانا يصعدان فيها القمم وكانت وشوشاتهما تسابق كل زفرة تهمس على استحياء .
ويدب شيء ما في هذه الروح ، يوقظها من سباتها العميق ، من احتضارها ، من استكانتها للمآسي والعذابات ، وتقوم من على سريري ، لتخرج وترى نور الشمس بعد أن غاب عنها طويلاً ، وتصغي إلى هديل الزمان ، فمنه وحده تتلمس سحر الأبدية .

وأقف أتأمل ملياً تفاصيلها وحركاتها وانبعاث الحياة من جديد فيها ، وتتولاني الدهشة وهي تفاجئني بأغانيها التي طفقتُ أنتظرها صامتة ، وأسترق السمع إلى همساتها لي ... لقد نسلتْ ألحانها من بسمة الوتر في زوايا قلبي ، وكأنها كانت تدرك أين مكمنها فيه ، وراحت تغمرني بموجات أنغامها ، تعزفها لي موسيقا ترحل بي إلى شواطئ نائية ، إلى أماكن لايزال همسها يعبث في أذني ، وألوذ بالصمت كي أنصت جيداً ، وأغمض عيني لأسترجع رفيف الدهشة التي داهمتني وأنا أختلس النظر إلى ماحولي ، أحاول أن أفيء بظلال المكان ، بين وشيع الشجر الذي ألفاه قلبي هبة أتت إليه من عصور سحيقة .
كنت جالسة وكان الياسمين يعرّش فوق كتفي ، وكان المساء أمواجاً تقهقه في دعة وحبور ، وكانت ظلال الأشجار تترك مجلسي لتخيم في الأفق البعيد ، ترنو إلى ما لم يكن في حسبانها ، حينها لم أطلب منها شيئاً ، لكنها ملأت أفقي بندى لايزال معلقاً بذاك الذي انبسط رقيقاً أخضر فوق الأرض طالباً مني أن أقرع ناقوس روحي لأبدأ بالحياة .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى