هزيمة 1967 أدت الى عزلة جيل وهجرة جيل أخر
بالأمس القريب احتفت الاوساط الادبية في مصر ببلوغ الشاعر "احمد عبدالمعطي حجازي" الستين من عمره الجميل، والشاعر الذي بدأ حياته قائلا: "انا اصغر فرسان الكلمة " صار رائدا كبيرا من رواد حركة الشعر الحر، ومازال محتفظا بحيوية الشباب وحكمة التجوال في الزمن. وطوال هذا الحوار الذي امتد الى قرابة الساعتين كان للمدينة حضورها الشعري والانساني كما كان الشاعر متكئا على جراحات جيل ذهب مع الحلم حتى أخر الطريق التي أدت الى انتحار، وصمت، وجنون بعض أفراده المبرزين.
– كان الخروج من "تلا" الى "القاهرة " فكانت "مدينة بلا قلب ".. فما دواعي الخروج، وكيف اختلفت الرؤية الشعرية للمدينة ؟
– دواعي الخروج من القرية للمدينة كانت طبيعية، لان الريف المصري طارد، وهو لا يطرد فئة معينة، ولكنه يطرد كثيرا من الفئات، والمدينة تمثل حلما، او فرصة أغنى للتقدم بشكل عام، ولذلك نجد ان كثيرا من ابناء الفلاحين عرفوا الهجرة الى المدن منذ الاربعينات، هذه الهجرة حدثت هن قبل - بلاشك - ولكنها لم تكن ظاهرة. فالهجرة الواسعة بدأت - ربما - منذ الاربعينات، وباعثها ان الصناعة المصرية عرفت شيئا من الازدهار بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية التي منعت حركة الصادرات والواردات بين مصر والدول الاوروبية فتشجع الرأسماليون المصريون أو تشجعت فئات واسعة على دخول مجال الصناعة سواء في إطار مشروعات كبرى أو صغري، فانتشرت مصانع الحلج والغزل والنسج، وقامت هذه المصانع او معظمها على اطراف المدن، فشدت ابناء الفلاحين الفقراء ليعملوا فيها، وفي مقدمتهم ابناء "المنوفية ". والفئة الاخرى التي كان لابد لها ان تهاجر من الريف الى المدن هي فئة المثقفين، واعني المتعلمين الذين يكملون دراستهم الأولية في مدارس القرية - وهي لا تعدو ان تكون مدارس ابتدائية - ثم يذهبون الى المدن القريبة لقطع مرحلة التعليم الثانوي وبعد ذلك يمكنهم ان يذهبوا الى القاهرة لاستكمال دراستهم العالية، او يذهبوا الى "الاسكندرية " لانها كانت قد بدأت نشاطها الجامعي بجامعة "فاروق الاول " وانا من هؤلاء فبعد ان انتهيت من المرحلة الابتدائية بـ "تلا" ذهبت الى "شبين الكوم " لاكمل دراستي بمدرسة المعلمين التي كانت الدراسة بها آنذاك ست سنوات، وتخرجت سنة 1955 ولكن سلطات الامن لم توافق على تعييني مدرسا لاني كنت قد اعتقلت لمدة شهر في نوفمبر 1954 بعد مشاركتي في مظاهرة بـ "شبين الكوم ".
– هل جاء اعتقالك ضمن تداعيات مارس 1954؟
– كان ذلك في اعقاب أزمة مارس 1954 وما تلاها، بالاضافة الى انه كان لي نشاط وطني بشكل عام، ففي تلك الفترة كان المد الثوري على أشده، وكانت المدارس والجامعات تشارك في العمل الوطني، واي حدث كان يقع في القاهرة كنت تجد له اصداء بالاقاليم، لكن في نوفمبر كانت ذكرى "محمد فريد" واتخذنا منها ذريعة للخروج في مظاهرة واعتقلت لمدة شهر ثم أفرج عني لانه لم يكن هناك سبب يؤدي لاستمرار الاعتقال، واكملت دراستي وحصلت على دبلوم المعلمين، ورغم ان ترتيبي كان الاول على المدرسة والخامس عل القطر، فلم أعين، وعندئذ فكرت في البحث عن عمل بالقاهرة، اي ان السبب الرئيسي كان هو البحث عن عمل، لكن السبب الحقيقي مختلط، فأول قصيدة نشرت لي في مارس 1955 بمجلة "الرسالة الجديدة "، وكان حلم الظهور والوصول الى منابر النشر بالقاهرة، والاتصال بالحركة الثقافية والشعرية على وجه الخصوص دافعا اساسيا آخر للخروج، ولكنني كنت اعتقد بإمكانية تحقيق هذا الاتصال بصرف النظر عن مكان وجودي فالشاعر يستطيع ان يكون موجودا بأسوان ومتصلا بالحياة الثقافية في ذات الوقت ويستطيع ان ينشر في اي مكان لانه لا ينشر بشخصه ولكن بقيمة انتاجه، وفي تلك الفترة كنا نتابع في مجلة "الرسالة الجديدة " قصائد ومقالات المصريين الذين يعيشون في العاصمة والاقاليم على السواء، والعرب الذين يعيشون خارج مصر في سوريا أو لبنان أو العراق، لكنني كنت أعلم ان وجودي بالقاهرة اكثر جدوى حيث يتاح لي الاتصال المباشر بالحياة الثقافية. كنت على مفترق طرق، إما ان اشتغل بعيدا عن القاهرة، واجعل الشعر اهتماما ثانويا، واما ان اذهب الى العاصمة لأعطي نفسي تماما للشعر، وهذا ما كنت في حاجة اليه، ليس فقط لانشر اشعاري، ولكن لانغمس في الحركة الثقافية وأتعلم منها واطور موهبتي، واكمل ثقافتي التي كانت لا تزال محدودة، في هذه الفترة كان علي ان اتقدم بسرعة او تفرض علي ظروف الحياة الشخصية العامة ايقاعا أبطأ، فلو كنت أعيش خارج القاهرة لأصبحت فكرة الزواج مطروحة، وبالتالي سيؤدي ذلك الى الانشغال في الحياة الا سرية والعملية، ومن حسن الصدف انني واجهت مشكلة في التعيين فكان لابد من المجرة الى القاهرة، وخلال شهور تالية من تاريخ نشر قصيدتي الأولى نشرت لي أربع قصائد واستقبلها النقاد بحماسة، أذكر منهم الناقد "أنور المعداوي" والدكتور "عبدالقادر القط " و" رجاء النقاش " الذي كان طالبا أنذاك، وقدمني هؤلاء النقاد لبعض الصحفيين المعروفين آنذاك مثل "مرسي الشافعي" وعن طريقه عملت مصححا لمدة خمسة عشر يوما بدار الهلال ثم انتقلت للعمل بمجلة "صباح الخير" في ذات الفترة التي عمل بها الشاعر "صلاح عبدالصبور" كنا نحرر بابا اسمه "عصير الكتب "، ونتابع الحياة الثقافية، وفي مرحلة متقدمة انتقلت للعمل -"روز اليوسف " اما عن صورة "القاهرة " فقد كانت في خيالي صورة مركبة من الواقع والخيال، من الاسطورة والعناصر الفلكلورية الموروثة من الريف لأن صورة المدينة الكبرى (القاهرة بالذات ) عند الريفيين صورة سيئة، ولولا اوليا، الله (الامام الشافعي والحسين والسيدة زينب ) لكانت مجرد بؤرة فساد ملعونة، وهذه الصورة لها أسبابها الاجتماعية والاقتصادية والاخلاقية، لكن لم يكن هذا هو الوجه الوحيد للقاهرة، فالوجه الآخر هو الوجه المشرق لعاصمة الثقافة العربية الحديثة، وهذه الصورة بوجهيها موجودة في شعري الاول : فالقاهرة هي المدينة التي لا يعرف فيها احد احدا، المدينة التي هي صورة من صور الجحيم بالنسبة لشاب ريفي بريء، يكاد يكون طفلا يبحث عن الدف ء والصداقة والاخوة... الخ.
القاهرة آنذاك كانت في نظري مدينة معادية للانسان، تبني نفسها على اشلائه، مدينة كبرى لان الانسان فيها صفه.
الانسان ضئيل والعمارات عالية، هذا ما تجده في شعري الذي كتبته خلال الفترة الأولى التي قضيتها في القاهرة، تجد البراءة في مواجهة العنف والقوة المستفحلة لكل ما هو آلي وصناعي ومصطنع، لا شجر ولا زهور ولا حقول بالمدينة، لا قمر في سماء المدينة ولا فجر فيها أيضا. أما الوجه الآخر المشرق للقاهرة فكان ناتج عنصرين مؤثرين في تكوين صورتها، خصوصا في المرحلة الأولى وهما: الحركة الثورية الجديدة فقد كان هناك مشروع ثوري ينقي المدينة ويطهرها من أثامها، يحولها الى مدينة للانسان لا ضد الانسان وهذا ترده في قصائدي التي كتبتها عن "جمال عبدالناصر" في الفترة الأولى، وعن الثورة العربية في سوريا والعراق والجزائر. اما العنصر الآخر فهو الحب الذي يعني الخروج من الوحشة الفردية الى اقامة علاقة بالمعنى المباشر بين رجل وامرأة، وايضا الحب بمعنى الصداقة وأظن انه لم يحتفل - في جيلي على الاقل - شاعر كما احتفلت انا بالصداقة فكثير من قصائدي تتحدث عن اصدقاء او تبدأ بيا أصدقاء. المدينة كانت مرفوضة ومكروهة وكنت اعتبر نفسي عدوا لها وعلاقتي بها تتوزع بين السلب والايجاب، فالمدينة ترفضني وأنا ارفضها كذلك، وهذا الموقف عبرت عنه في قصائد مثل (سلة ليمون - مقتل صبي - الطريق الى السيدة - الى اللقاء... الخ ) بعد ذلك تغيرت الصورة تماما، وهناك قصيدة اسمها (حب في الظلام ) تضمنت لأول مرة عبارة اقول فيها: (أحس كأن المدينة تدخل قلبي) هذه هي الفترة التي بدأت تشهد تطورا ايجابيا في علاقتي بالقاهرة.
– في نوفمبر 1954 كان اعتقالك وكانت الساحة تفلي بتيارات سياسية، هل كنت منخرطا في نشاط سياسي او ممنهجا بشكل يؤدي لتكرار اعتقالك مرة ثانية ؟
– كان عمري ثلاثة عشر عاما سنة 1948 ومنذ هذا التاريخ حتى سنة 1951 كنت متعاطفا مع الاخوان المسلمين لسببين : الاول، انهم شاركوا في حرب فلسطين، اما الثاني فهو انهم كانوا مضطهدين آنذاك. بعد ذلك ما كدت انصرف بجد للقراءة والكتابة حتى انتهت علاقتي العاطفية بهم لانني كنت اكتب واقرأ بكثافة (ربما كنت اكتب كل يوم قصيدة ) واصبح حصاد قراءاتي الادبية والفكرية آنذاك يبعدني تماما عن هذا التيار، لانني انصرفت لقراءة توفيق الحكيم - البدايات مع المنفلوطي والرافعي - والعقاد وقليل من طه حسين، وبداية من 1957 توجهت لقراءة "عبدالرحمن بدوي" في سلسلة اعماله الفلسفية ابتداء من الفلسفة اليونانية وانتهاء بالفلسفة الالمانية الحديثة، ثم القليل جدا من "سلامة موسى" لانني لم اكن احب لغته، ولا ازال اعتقد ان لغته لغة تعليمية، صحفية خالية من الجمال، وبسيطة لا ترضي غرور شاعر (وأنا في ذلك الوقت كنت شاعرا). بالاضافة الى المناهج الدراسية الادبية التي كانت منظمة من العصر الجاهلي الى العصر الحديث، وانهمكت في قراءة الرومانتيكيين خصوصا.. علي محمود طه وابراهيم ناجي ومحمود حسن اسماعيل وصالح الشر نوبي ومحمد عبدالمعطي الهمشري وايضا الرومانتيكيين العرب مثل المهجريين : ايليا ابوماهي وليس جبران خليل جبران فقد كان احساسي نحو لفته ان بها جمالا وبساطة ودفئا وعفوية تلقائية ولكن بها قدرا من الركاكة التي دخلتها عن طريق العامية اللبنانية من ناحية، ومن ناحية أخرى عن طريق اللغة الانجيلية التوراتية، وامتدت قراءاتي الى جورج صياح وميخائيل نعيمة شعره وكتبه النثرية خاصة كتابه الاول (الغربال ) كما امتدت الى قراءة الرومانتيكيين المقيمين بالبلاد العربية مثل الياس ابو شبكة اللبناني وابوا لقاسم الشابي التونسي، هذه القراءات ابعدتني تماما عن فكر الاخوان المسلمين وكان زملائي في ذلك الوقت يرون ان هذه القراءات افسدت عقيدتي، وجهات الامن كانت تعتبرني من الاخوان المسلمين رغم اني لم أنتم في فترة الصبا لاي حزب، فلم أكن شيوعيا ولا من اتباع مصر الفتاة، اذ كانت الاحزاب التقليدية قد انتهت بحلها سنة 1953، اما بعد ذلك فقد تعاطفت مع البعثيين والناصريين خصوصا بين 1956، رم و م
– من "القاهرة " الى مدن الآخرين كان الخروج الثاني الى "باريس " الذي استمر سبعة عشر عاما، فكيف كنت ترى المدينة !
– "باريس" كانت بالنسبة لي مدينة محايدة، فهي ليست وطنا، وبالتالي لا اخشي فيها على نفسي بحكم أني فيها زائر، واقامتي ايا كانت مؤقتة حتى لو طالت، وعندما قررت السفر لم يكن في ذهني انني سوف أبقى هذه الفترة فقد كانت (فسحة ) اكثر مما هي معاناة، لم تكن في ذهني فكرة العمل او الاقامة الطويلة لذا كانت "باريس " باستمرار خيالا جميلا على عكس صورة القاهرة التي خرجت بها من الريف. لكن صورة باريس التي خرجت بها من القاهرة هي الصورة التي قدمها توفيق الحكيم واحمد الصاوي محمد وطه حسين فهي مدينة النور، لذلك كانت عكسية تماما ولم تنقلب مع طول الاقامة رأسا على عقب، وكل ما هنالك انها لم تعد مدينة زيارة انما تحولت من مجرد فكرة خيالية او حلم الى مدينة حية اعرفها من الداخل عن طريق العمل واعيش فيها. وبشكل عام تجربتي في باريس تجربة ايجابية. وليست هذه هي الصورة الموضوعية لباريس، فهي تختلف من شخص لآخر لاني ما كدت اصل الى باريس في اول مارس 1974 او بعد وصولي بشهر حتى ظهرت مقالة عني في صحيفة (الليموند) - اكبر صحيفة فرنسية - كتبها الشاعر والروائي المغربي الطاهر بن جلون ومقالة أخرى في صحيفة (ليوما نتيه ) -وهي صحيفة الحزب الشيوعي الفرنسي - كتبها "هنري الج " ودعيت للقاء بطلاب واساتذة قسم الدراسات العربية بجامعة (باريس 8) واللقاء الذي كان مقررا له ساعتان امتد الى اربع ساعات، وعلى اثر هذا اللقاء عرض علي العمل بالجامعة، واستمر العمل بين هذه الجامعة وجامعة باريس 3 (السوربون الجديدة ) بداية من العام الدرامي 1974- 1975 الى ان رحلت عن باريس في آخر سنة 1990، كل شيء كان مفتوحا: العمل من ناحية، والاقامة والسكن بأجر معتدل عن طريق بلدية "باريس "، والصداقات التي نشأت بيني وبين اساتذة الجامعة خصوصا "جاك بيرك " الذي تعرفت عليه بمصر ثم توثقت علاقتي به في باريس، كذلك "جمال بن شيخ "، ويعد اكبر استاذ للادب العربي في فرنسا وهو شاعر وناقد من اصل جزائري فباريس تحولت من ان تكون "كارت بوستال " جميلا الى مدينة تدخل في تكوين إحساسي بالمواطنة، اصبحت مصدرا اساسيا من مصادري الروحية والثقافية ثم ساهمت في تكويني من جديد عن طريق اكتساب اللغة والصداقات القوية التي نشأت بيني وبين الفرنسيين، ثم المعرفة الوثيقة بدروبها لان حياتي في فرنسا لم تكن فقط في "باريس " كنا نخرج من آن لآخر الى الريف - البحر - الجبل، كذلك عن طريق الاولاد، فاثنان من ابنائي الاربعة مولودان في "باريس " وقد تشكل وعيهم جميعا هناك، واكتسبوا الجنسية الفرنسية الى جانب الجنسية المصرية، اصبحت باريس امتدادا للوطن، هذا هو تحولها من فكرة شعرية الى عنصر اساسي في التكوين.
– بالنسبة لسنوات الخروج الشعري والنقدي من مصر في السبعينات، هناك اتهامات بالهرب والتخلي، فكيف ترى حصادها الممثل الآن في الساحة الشعرية ؟
– الثقافة المصرية بداية من السبعينات نتيجة لانقلاب كامل في الحياة المصرية الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، وهذا الانقلاب لم يكن ايجابيا لانه كان استمرارا واستطرادا للكارثة التي وقعت في 1967، وكانت النتيجة حصادا شقيا وهجرة واسعة للمثقفين المصريين، مصر اصبحت طاردة لمثقفيها، في ذلك الوقت خرج "علي الراعي" - "الفريد فرج " – "محمود امين العالم - بهاء طاهر - سعد اراش - كرم مطاوع - امير اسكندر - غالي شكري" (خرج الى بيروت اولا ثم الى باريس لم كذلك عدد كبير من اساتذة الجامعة مثل عبدالرحمن بدوي (خرج في اوائل السبعينات )، عدد لا بأس به من الكتاب والشعراء هاجروا الى بلاد عربية، وقليلون ذهبوا الى اوروبا وآخرون انتقلوا من بلاد عربية الى فرنسا حتى الفنانين التشكيليين "آدم حنين " وجورج البهجوري وعدلي رزق الله ورجائي وحتى الموسيقيين رمزي يس وعاطف حليم. هذا الخروج ادى الى خلخلة الحياة الثقافية في مصر خاصة بعد ان تولى المسؤولية "يوسف السباعي" و" عبدالقادر حاتم " ولم تكن علاقتهما بالمثقفين وبالاجيال الجديدة علاقة طيبة، كانت علاقة حادة وعنيفة، فالمثقفون لدى هؤلاء المسؤولين اما ناصريون او يساريون، كذلك كان بالنسبة للاجيال التالية لجيلي اما الاجيال الجديدة التي ظهرت في اوائل السبعينات فقد فقدت علاقتها بالجيل الذي هاجر، ولم يكن لها أدنى علاقة بالمسؤولين عن الثقافة في ذلك الوقت مما أدى الى ظهورهم عن طريق مجلات "الماستر" فهم رافضون للثقافة الرسمية رفضهم للهزيمة ولنتائجها، وقد حدثت جفوة بينهم وبين الاجيال السابقة فهي في نظرهم مسؤولة عن الهزيمة، حتى المثقفون الذين ظلوا بمصر ولم يهاجروا لم يسلموا من هذا الاتهام اذ كانوا مضطرين للعسل في اطار المؤسسات الموجودة، مثلا صلاح عبدالصبور كرئيس تحرير لمجلة الكاتب ورئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب ثم مستشار ثقافي في الهند، كذلك يوسف ادريس ولويس عوض فضلا عن توفيق الحكيم وحسين فوزي.
– ولكن كان هناك احتفال بالاجيال الجديدة من قبل مجلة الكاتب عن طريق صلاح عبدالصبور كذلك قدمهم رجاء النقاش بمجلة الهلال.
– كان اجتهادا فرديا، ومحاولة لانشاء جسور لم تكن موجودة لان العلاقة العاطفية والفكرية لم تكن موجودة وبالتالي لو نشرت قصيدة او اثنتان او عدد خاص لم يكن ذلك ليقيم علاقة، فالسياسة العامة كانت تدرجهم ضمن تيارات اليسار، ولم تكن هناك لفة مشتركة بينهم وبين الموجودين، كان سوء الفهم متبادلا، مثلا اعتبر صلاح عبدالصبور في ذلك الوقت حكوميا وليس معنى ذلك انه كان يؤيد سياستها او يعتبر وجها من وجوهها، كما ان لويس عوض ايد الرئيس السادات لكنه فصل من الاهرام ومنع من نشر دراسته عن جمال الدين الافغاني واصبح موضوعا لهجوم عنيف، هذا الخلل الشديد لم يؤد فقط الى هجرة جيل وعزلة جيل جديد، انما كانت له نتائج فاجعة لان اربعة مبدعين انتحروا: صلاح جاهين ومحمود دياب ونجيب سرور الذي كف عن العمل وجلس على المقهى غارقا في الشراب حتى مات، وصمت نعمان عاشور، صلاح عبدالصبور مات بالمستشفى القريب من بيتي ولم تكن المشادة التي حدثت بينه وبين بهجت عثمان الا القشة التي قصمت ظهر البعير لان السنوات العشر السابقة على هذه الحادثة بالنسبة له كانت حصارا وانتحارا بطرق مختلفة، هناك جيل سحق وأصيب منه من أصيب بالجنون والانتحار، اي حصاد يكون حين يصبح الوطن وطنا آخر؟ يسقط الحلم سقوطا نهائيا ولا يبقى شيء يضيء الطريق للاجيال التي عاشت في صباها الباكر حلم الستينات، ثم ان الاجيال السابقة -التي كانت في حكم النموذج او المثل الذي كان يتعلم منه جيل السبعينات - هاجر معظمها والجزء الباقي انتحر بطريقة من الطرق، والنتيجة ان الاجيال الجديدة وجدت نفسها في اليتم لان الجميع تخلوا عنها: الوطن والثورة والاجيال السابقة، وجاءت التربية الفنية ضعيفة فلم يجدوا ما يتلقونه، كما ان حافز التلقي كان يتمثل في رفض كل ما له علاقة بالتربية وبالنظام، فعبر هذا الجيل عن نفسه برفض النحو واللغة والعروض والمعجم فعنصر الرفض والتمرد سمة أساسية من سمات عمل هذا الجيل ولكن عنصر التربية - وهو الاساس عندي - كان من الممكن ان يتفجر حتى تظهر منه اعظم الثمار، لكن لم يكن موجودا حتى يكون هناك ابداع حقيقي، ولذلك اشك في الكثير من النتائج التي وصل اليها هذا الجيل، فما نواه الآن فقرا في المعجم، الجملة العربية عنده ليست مستقيمة فيها قدر كاف من الركاكة، والركاكة ليست بالقياس الى نموذج بالذات ولكن بالقياس الى متن اللفة كما نعرفها، وليس ذلك بالقياس الى لفة في عصر ما، بل بالقياس الى ما يمكن ان نسميه قوانين اللغة وطريقتها الخاصة في التعبير، لا في عمو معين بل في مختلف العصور. هناك ايضا الموقف من الموسيقى والايقاع، وأنا لا اتحدث عن نظام عروض خاص، ولكني اتحدث عن موسيقى الشعر بشكل عام فمن السهل ان افهم ان الانسان لا يرتاح الى ايقاع له طابع كلاسيكي سواء كان قادما من التجارب الشعرية القديمة أو من الشعر الحديث لانه من الممكن أيضا ان يصبح ايقاع الشعر الحر كلاسيكيا الآن بحيث إن الشاعر الشاب لا يجد نفسه فيه، عندئذ يصبح مواجها بضرورة البحث عن ايقاع آخر، وهذا الايقاع الآخر لابد ان يكون ايقاعا خاصا بالشعر، فالنشر ايضا له ايقاعاته ولابد ان يكون مقبولا لدى المتحدثين بهذه اللغة حتى يصبح الانتاج الجديد جزءا من السياق لا خارجه.
– هل هذا الرأي ينسحب على كل افراد جيل السبعينات الممثل في شعراء "اضاءة 77"؟
– رغم وضوح الابعاد الملحمية والد رامية في شعرك على وجه الخصوص في ديوان "اوراس " وقصائد أخرى يمثل الحوار جزءا هاما منها، فلماذا لم تكتب المسرح الشعري؟
– هذا جزء من برنامجي، وانا اعتقد ان القصيدة لابد أن تكون غنائية، أما الدراما او القصة فهي أشكال أخرى تختلف عن القصيدة الغنائية وعلى ذلك فبالامكان ان تتضمن القصيدة الغنائية عناصر دراسية او قصصية.
– قصيدة النثر صارت هما أساسيا من هموم الجيل
– أنا اقبلها عندما تكون تجربة، وأرفضها تماما اذا تصور البعض أنها افضل الاشكال أو اكثرها حداثة، ولأنها في هذه الحالة تصبح وباء كاسحا، انها شكل يعتمد على لغة فقيرة من ناحية المعجم، بسيطة ساذجة من ناحية التركيب، نثرية من ناحية الايقاع.