

هلاك ظالم بفكر عالم
سَمِعَ أَحَدٌ الصَّهَايِنَةَ يَوْمًا عَنْ عَالِمٍ كَتَبَ مَقَالَةً تَحْمِلُ عِنْوَانَ "هَلَاكٌ ظَالِمٌ بِفِكْر عَالِم"، وَذَلِكَ أَثْنَاءَ اسْتِرَاحَةٍ كَانَ يَتَنَاوَلُ فِيهَا قَدْحًا مِنَ الْقَهْوَةِ. أَثَارَتْ تِلْكَ الْكَلِمات فُضُولَهُ إِلَى دَرَجَةٍ جَعَلَتْهُ يَبْدَأُ رَحْلَة بَحْثٍ مَحْمُومَةٍ وَمَكَثَفَةً عَنْهُ. أَنْفَقْ مَلَايِينَ الدُّولَارَاتِ بِلَا تَرَدُّدٍ، مُعْتَمِدًا عَلَى أَحْدَثِ الْأَجْهِزَةِ وَالْوَسَائِلِ التِّقْنِيَّةِ الْحَدِيثَةِ، فِي سَبِيلِ الْوُصُولِ إِلَى هَذَا الْكَاتِبِ الْمَجْهُولِ.
خِلَالَ هَذِهِ الرِّحْلَةِ، كَانَ لِهَذَا الصَّهَيُونِي صَدِيقٌ يُدَّعَى مِيشَال، وَاَلَّذِي اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْفُضُولُ أَيْضًا بِسَبَبِ تَصَرُّفِ صَدِيقِه الْغَرِيبِ. وَفِي أَحَدِ الْأَيَّامِ، وَاجَهَ مِيشَال صَدِيقَهُ وَقَالَ لَهُ: لِمَاذَا تُنْفِقُ كُلَّ هَذَا الْمَالَ وَتَبْذُلُ هَذَا الْجَهْدَ مُسْتَعِينًا بِكُلِّ تِلْكَ الْأَدَوَاتِ وَالْأَجْهِزَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِلْعَثُورِ عَلَى شَخْصٍ كَتَبَ مَقَالًا؟ بَدَا الْأَمْرُ غَامِضًا بِالنِّسْبَةِ لَهُ وَغَيْرِ مَنْطِقِيٍّ. أجَابَه أَفْخَانَ: يَا صَدِيقِي مِيشَال، هَلْ تعْتَبَرُ نَفْسَكَ رَجُلَ دَوْلَةٍ بِحَقٍّ؟ كَيْفَ وَصَلَتْ لِهَذَا الْمَكَانِ الْمُهِمِّ وَأَصْبَحَتْ شَخْصِيَّةً ذَاتَ سِيَادَةٍ دُونَ أَنْ تَمْتَلِكِ الْقُدْرَةَ عَلَى إدْرَاكِ حَجْمِ الْأُمُورِ وَمَعَانِيهَا الأَعْمَقِ؟!
فَكَّرَ مِيْشَالُ طَوِيلًا قَبْلَ أَنْ يَتْحَدَّثَ قَائِلًا: عَفْوًا صَدِيقِي، لَكِنَّنِي لَمْ أَصِلْ بَعْد إِلَى فَهْمِ مَغْزَاكَ الْحَقِيقِيِّ وَلَا الْهَدَفَ الَّذِي تَسْعَى لِتَحْقِيقِهِ. حِينَهَا ضَحِكَ أَفْخَان ضِحْكَةً مَلِيئَةً بِالسُّخْرِيَةِ وَقَالَ: لَقَدْ اطَّلَعْتُ عَلَى الْمَقَالِ الَّذِي كَتَبَهُ هذا الْكَاتِبُ الْعَالِمُ، وَعُنْوَانُهُ كَمَا قُلْتَ هَلاَكُ ظَالِمٍ بِفِكْرِ عَالِمٍ، وَأَنَا عَلَى يَقِينٍ بِأَنَّهُ يُشِيرُ بِطَرِيقَةٍ أَوْ بِأُخْرَى لَنَا نَحْنُ. لَقَدْ عَرَّى حَقِيقَتَنَا وَكَتَبَهَا بِكُلِّ وَضُوحٍ. أَتَعَلَّمُ لِمَاذَا؟ لَأَنَّنَا لَمْ نَفْعَلْ سِوَى الظُّلْمِ، أَخْرَجْنَا أَصْحَابَ الْأَرْضِ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَسَلَبْنَا مُمْتَلَكَاتِهِمْ وَثَرَوَاتِهِمْ. وَعِنْدَمَا رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالِاعْتِرَاضِ اعْتَقَلْنَا أَبْنَاءَهُمْ وَنِسَائَهُمْ بِلَا رَحْمَةٍ. وَحِينَ قَرَّرُوا الدِّفَاعَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ لَمْ نَجِدْ حَرَجًا فِي قَتْلِ أَطْفَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ وَشُيُوخِهِمْ وَشَبَابِهِمْ الْعُزَّلِ، الَّذِينَ لَا يَمْلِكُونَ أَيَّ وَسِيلَةٍ لِلِّدِّفَاعِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ.
لَمْ يَتَوَقَّفْ نَهْجُ الظُّلْمِ الَّذِي اتَّبَعْنَاهُ عِندَ تِلْكَ الحُدُودِ، بَلْ تَجَاوَزَهَا لِيَشْمَلَ أَبْعَادًا أَكْبَرَ وَأَشَدَّ قَسْوَةً. فَقَدْ أُرْسِلْنَا إِلَى دُولٍ أُخْرَى لِتَوْطِيدِ نُفُوذِنَا، وَعَقَدْنَا صَفَقَاتٍ اسْتَوْرَدْنَا مِنْ خِلَالِهَا أَحْدَثَ أَنْوَاعِ الأَسْلِحَةِ وَأَكْثَرِهَا تَطَوُّرًا، فِي خُطْوَةٍ تُظْهِرُ أَنَّا عَلَى وَشَكِّ خَوْضِ حَرْبٍ ضَرُوسٍ ضِدَّ جُيُوشٍ عِمْلَاقَةٍ تُهَدِّدُ وُجُودَنَا. وَلَكِنْ كَمْ هُوَ مُحْزِنٌ أَنَّ الْحَقِيقَةَ مُغَيْرَةٌ تَمَامًا؛ نَحْنُ منْ اخْتَرْنَا لِأَنْفُسِنَا دَوْرَ الْخَصْمِ وَالْقَاضِي وَالْجَلَّادِ فِي مُوَاجَهَةِ شَعْبٍ أَعْزَلَ لَا يُطَالِبُ بِأَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ الْمَشْرُوع فِي أَنْ يَعِيشَ حَيَاةً كَرِيمَةً وَآمِنَةً.
وَعَلَى الرَّغْمِ مِنْ كُلِّ الجُهُودِ الَّتِي بَذَلْنَاهَا وَكُلِّ الأَسَالِيبِ القَمْعِيَّةِ الَّتِي اسْتَخْدَمْنَاهَا، لَمْ نَسْتَطِعْ اقْتِلاَعُهُمْ مِنْ جُذُورِهِمْ أَوْ كَسْرَ عَزِيمَتِهِمْ. وَحَقًّا يَا مِيشَال، لَا يَسْعُنِي إِلَّا أَنْ أَشْعُر بِالدَّهْشَةِ البَالِغَةِ أَمَامَ هَذَا الصُّمُودِ الأَسْطُورِيِّ الَّذِي يُظْهِرُونَهُ، بِرَغْمِ كُلِّ مَا اقْتَرَفْنَاهُ مِنْ أَعْمَالٍ شَنِيعَةٍ وَجُرْمٍ يَنْدَى لَهُ الجَبِينُ.
كَانَ مِيشَال يَنْصَتُ بِانْتِبَاهٍ لِكُلِّ كَلِمَةٍ تَصْدُرُ مِنْ أَفْخَان، وَلَمْ يَسْتَطِعْ كِتْمَانَ دَهْشَتِهِ فَسَأَلَهُ بِتَرَدُّدٍ: "لَكِنْ أَلَيْسَ مَا نَفْعَلُهُ دِفَاعًا عَنْ أَنْفُسِنَا؟ أَلَسْنَا نُحَاوِلُ حِمَايَةَ وُجُودِنَا؟". ضَحِكَ أَفْخَان ضَحْكَةً مَلِيئَةً بِالسُّخْرِيَةِ وَأَجَابَهُ قَائِلًا: "هَلْ تُسَمِّي قَتْلَ الأَطْفَالِ الرُّضَّعِ وَالْمُمَرِّضِينَ وَالأَطِبَّاءِ وَقَصْفَ الْمُسْتَشْفَيَاتِ دِفَاعًا عَنْ النَّفْسِ؟ وَهَلْ تُسَمِّي حَرْقَ الْبَشَرِ أَحْيَاءً جُزْءًا مِنَ الدِّفَاعِ؟ يَا مِيشَال، نَحْنُ نَفْعَلُ بِأَبْنَاءِ الْبَشَرِ مَا لَمْ تَفْعَلْهُ أَكْثَرُ الْحَيَوَانَاتِ وَحْشِيَّةً فِي الْبَرِّيَّةِ".
أَرْتَبَكْ مِيْشَالُ وَازْدَادَ فُضُولُهُ أَكْثَرَ، فَسَأَلَ أَفْخَانَ: "إِن كُنْتَ مُقْتَنِعًا أَنَّنَا ظَالِمُونَ، لِمَاذَا تَبْحَثُ عَنْ هَذَا الْعَالِمِ وَتَتَعَمَّقُ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ؟". أَخَذَ أَفْخَانُ نَفْسًا عَمِيقًا وَكَأَنَّهُ يُحَاوِلُ تَرْتِيبَ أَفْكَارِهِ، ثُمَّ أَجَابَ: "الْسَّبَبُ بَسِيطٌ يَا صَدِيقِي مِيْشَال. الْمَقَالَة كَانَتْ وَاضِحَةً وَصَادِمَةً. تَخَيَّلْ أَنَّ هَذَا الْعَالِمَ لَدَيْهِ الْقُدْرَةُ عَلَى هِلَاكِ الظَّالِمِينَ وَهُوه فِي أَبْسَطِ لَحَظَاتِهِ، بَيْنَمَا يَحْتسي قَدَحًا مِنَ الْقَهْوَةِ. نَحْنُ نَعِيشُ فِي عَالَمٍ بَاتَ الْعُلَمَاءُ هُمْ الْأَكْثَرَ قُدْرَةً عَلَى التَّحَكُّمِ فِي مَصِيرِ الْبَشَرِيَّةِ. عِنْدَمَا يَقُولُونَ شَيْئًا، فَإِنَّهُمْ يَفْعَلُونَهُ".
عِندَهَا أَجَابَ مِيْشَالٌ قَائِلًا: الْآنَ فَهِمْتُ مَقْصَدَكَ. إِذًا أَنتَ تَسْعَى لِلْعُثُورِ عَلَيْهِ وَقَتْلِهِ، أَلَيسَ كَذَٰلِكَ؟ فَرَدَّ أَفْخَانَ بِتَأكِيدٍ وَاضِحٍ: نَعَمْ، هَذَا هُوَ تَمَامًا مَا أُفَكِّرُ فِيهِ. لِأَنَّ الْأَمْرَ بِبَسَاطَةٍ، إِنْ كَانَ هَذَا الْعَالِمُ حَقًّا مُخْلِصًا لِلْحَقِيقَةِ وَلِخَيْرِ الْبَشَرِيَّةِ، لَمَا تَرَدَّدَ وَلَوْ لِلْحَظَةِ فِي مَنْحِ أَفْكَارِهِ وَإِبْدَاعَاتِهِ لِمَنْ هُم مَظْلُومُونَ، مِمَّا سَيُتِيحُ لَهُمْ فُرْصَة تَقْلِيصِ الْفَارِقِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، وَرُبَّمَا التَّغَلُّب عَلَيْنَا فِي النِّهَايَةِ.
وَمرَتِ الأَيَّامُ حتَّى تَمَكَّنَ أَفخان وَمُعاوِنِيهِ مِن تَحديدِ مَكانِ هَذا العَالِمِ. جَهَّزُوا كُلَّ مَا يَلزَمُ، وَبمُساعدَةِ بَعضِ أَفرادِ الجَاسُوسِيَّةِ، انطَلَقوا نَحوَ البَلْدَةِ الَّتي يُقيمُ فِيها. اتَّفَقَ أَفخان مَع مُعاوِنيهِ أَنَّهُ بِمُجرَّدِ الحُصولِ عَلَى سِرِّ المَقالةِ مِن هَذا العَالِمِ، وَعِندَ إِعطائِهِمِ الإشارةَ، يَقُومُونَ بِقَتْلِه. تَسَلَّلُوا إِلَى المَكانِ الَّذي يُقيمُ فِيهِ العَالِمُ، وَعِندمَا رَأَوْهُ، فُوجِئُوا بِعَدَمِ ارْتِباكِهِ أَو خَوْفِهِ عِندَ مُواجَهَةِ غُرباءَ لَم يَعْرِفْ عَنْهُم شَيْئًا. أَثَارَتْ هَذِهِ الثِّقَةُ وَهُدُوءُ العَالِمِ دَهْشَتَهُم، مِمَّا دَفَعَهُمْ لِسُؤَالِهِ عَنْ سَبَبِ عَدَمِ خَوْفِهِ. لَم يَلْتَفِتْ إِلَيْهِمِ العَالِمُ أَو يُديرَ كُرْسِيَّهُ لِيَنْظُرَ فِي اتِّجَاهِهِم، بَلْ فَاجَأَهُم قَائِلًا: "كُنتُ أَعلَمُ بِقُدومِكُمْ وَأَنَّ هَدَفَكُمْ هُوَ قَتْلِي لِمَنْعِي مِن تَسْريبِ المَعلُومَةِ الَّتي كَتَبْتُهَا فِي مَقالِي. هَذِهِ المَعلُومَةُ إِن تَمَّ الكَشفُ عَنْهَا سَتُعِيدُ التَّوازُنَ بَيْنَ جَمِيعِ الأَطْرَافِ".
قَالَ أَفْغَان: نَحْنُ لَا نُرِيدُ قَتْلَكَ أَيُّهَا الْعَالِمُ، وَلَكِنْ نَوَدُّ أَنْ تُخْبِرَنَا كَيْفَ يُمْكِنُكَ الْقَضَاءَ عَلَى الظَّالِمِينَ. ابْتَسَمَ الْعَالِمُ وَقَالَ: أَلَا تَعْلَمُ، أَيُّهَا الظَّالِمُ، أَنَّ الْأَسْلِحَةَ الَّتِي تَسْتَخْدِمُونَهَا لِقَتْلِ الْأَطْفَالِ وَالشُّيُوخِ وَالنِّسَاءِ الْعُزَّلِ مَا هِيَ إِلَّا نَتِيجَةٌ لِتَجَارِبَ أَجْرَاهَا الْعُلَمَاءُ وَتَحَوَّلَتْ إِلَى وَاقِعٍ؟ أَلَا تَعْلَمُ أَنَّ السِّلاَحَ النَّوَوِيَّ هُوَ نَتَاجُ مِعَادَلَةٍ تَوَصَّلَ إِلَيْهَا الْعَالِمُ أَيْنِشْتَايْن، وَالَّتِي أَثْبَتَتْ أَنْ تَخْصِيبَ الْيُورَانْيُومِ يُمْكِنُ أَنْ يُنْتِجَ هَذَا السِّلاَحَ الْمُدَمِّرَ؟
رَدَّ أَفْغَان: نَحْنُ نُدْرِكُ هذا، وَلَوْلَا هذا لَمَا أَتَيْنَا إِلَيْكَ هُنَا. فَكَلِمَاتُ الْعُلَمَاءِ وَأَبْحَاثِهِم تَصْنَعُ الْفَارِقَ وَتُغَيِّرُ مَوَازِينَ الْأُمُورِ.
أَكْمَلَ الْعَالِمُ حَدِيثَهُ قَائِلًا: سَأَكْشِفُ لَكُمْ سِرَّ مَقَالَتِي، لَكِنَّنِي مُتَيَقِّنٌ أَنَّكُمْ لَنْ تَتَمَكَّنُوا مِنْ فَكِّ رُمُوزِهَا. فَلَيْسَ هُنَاكَ مَنْ يُمْكِنُهُ فَكُّ رُمُوزِ هَذَا السِّرِّ إِلَّا شَخْصٌ يُدْعَى عَرَبِيٌّ. وَمَعَ ذَٰلِكَ، قَبْلَ أَنْ أُشَارِكُكُمْ هَذَا السِّرَّ، لَدَيَّ شَرْطٌ وَحِيدٌ: أُرِيدُ أَنْ تُخْبِرُونِي لِمَاذَا تَفْعَلُونَ كُلَّ مَا تَفْعَلُونَهُ بِأَبْنَاءِ الْبَشَرِ الَّذِينَ هُمْ مَثْلُكُمْ؟ أَلَيْسُوا بَشَرًا أَيْضًا؟ مَا تَقُومُونَ بِهِ مِنْ قَتْلٍ وَتَدمِيرٍ قَدْ تَجَاوَزَ حُدُودَ الْعَقْلِ الْبَشَرِيِّ. فَمَا السَّبَبُ وَرَاءَ كُلِّ هَذَا الْاضْطِهَادِ وَالظُّلْمِ الْفَاحِشِ؟
رَدَ أَفْخانَ وَقالَ: نَحْنُ نَعْلَمُ جَيِّدًا أَنَّ القُوَّةَ هِيَ العَامِلُ الحَاسِمُ فِي هَذَا العَالَمِ. وَلِهَذَا، قُمْنَا بِإِعْدَادِ أَقْوَى أَنْظِمَةِ القِتَالِ فِي مُخْتَلَفِ مَجَالَاتِ الدِّفاعِ، استَعَانَا بِالدُّوَلِ العُظْمَى لِتَحْقِيقِ غَايَاتِ بَعْضِ رُؤُوسِ الأَمْوَالِ الصَّهْيُونِيَّةِ لَدَيْنَا، وَالَّتِي تَطْمَحُ إِلَى إِقَامَةِ دَوْلَةٍ تَمْتَدُّ مِنَ النِّيْلِ إِلَى الفُرَاتِ. لِتَحْقِيقِ هَذِهِ الْغَايَةِ، انْتَهَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ: مِنَ سَفْكِ دِمَاءِ البَشَرِ إِلَى احْتِلاَلِ أَرَاضِيَهُمْ وَتَهْجِيرِهِمْ. لَكِنَّ مَا سَاعَدَنَا عَلَى ذَٰلِكَ هُوَ دَعْمُ تِلْكَ الدُّوَلِ نَفْسِهَا. فَبَعْضُهَا اسْتَطَعْنَا السَّيْطَرَةَ عَلَيْهِ عَنْ طَرِيقِ التَّطْبِيعِ، وَالدُّوَلُ الَّتِي لَمْ نَتَمَكَّنْ مِنَ السَّيْطَرَةِ عَلَيْهَا أَشْعَلْنَا فِيهَا نَارَ الفِتْنَةِ بَيْنَ شُعُوبِهَا، حَتَّى أَصْبَحُوا يَقْتُلُونَ بَعْضَهُمْ بَعْضًا. وَمَعَ ذَٰلِكَ، هُنَاكَ دُوَلٌ قَلِيلَةٌ لَمْ نَسْتَطِعْ التَّأْثِيرَ عَلَيْهَا، إِذَا تَمَكَّنَا مِنْ تَحْقِيقِ هَدَفِنَا هُنَاكَ، حِينَهَا سَيَتَحَقَّقُ شِعَارُنَا مِنَ النِّيْلِ إِلَى الفُرَاتِ. وَالآنَ يَا أَيُّهَا العَالَمُ المُغْرُورُ، لَقَدْ أَجَبْتُكَ عَلَى سُؤَالِكَ. حَانَ دَوْرُكَ لِتَكْشِفَ لَنَا السِّرَّ الَّذِي يُمْكِنُكَ مِنَ الْقَضَاءِ عَلَى الظَّالِمِينَ.
قَالَ العَالِمُ: خُذُوا هَذِهِ المُعَادَلَاتِ. (ا، ت، ح، ا، د، ا، ل، م، س، ل، م، ى، ن، و، ا، ل، ع، ر، ب) هَذِهِ المُعَادَلَةُ تُسَاوِي هَلاكَكُمْ أَمَّا المُعَادَلَةُ الثَّانِيَةُ (ر، م، ا، ل، م، ت، ح، ر، ك، ة، إ، د، ف، ن، ف، ى، ه، ا، ك، ل، ص، ه، ى و، ن، ي، م، ع، ت، د، ى) بِهَا هَلاكَهُمْ وَأَمَّا المُعَادَلَةُ الأخيرة (ر ل ة ك ك + س ش ب ن) سِلَاحُ هَلاكِ كُلِّ ظَالِمٍ وَمَا إِنْ قَامَ بِإِعْطَائِهِمْ إِيَّاهَا حَتَّى أَمَرَ أَفْخَانَ مُسَاعِديْهِ بِالِاقْتِرَابِ مِنَ العَالِمِ وَتَعْذِيبِهِ لِفَكِّ شَفْرَةِ هَذِهِ المُعَادَلَاتِ. وَعِندَ اقْتِرَابِهِمْ، فُوجِئُوا بِشَبَكَةٍ قَوِيَّةٍ، أَشْبَهَ بِشَبَكَةِ صَيْدٍ، تَسْقُطُ عَلَيْهِمْ وَتُقَيِّدُهُمْ، وَتَجْرُهُمْ إِلَى أَسْفَلَ. أُصِيبُوا بِالذُّعْرِ.
ضَحِكَ العَالِمُ عَبْرَ اللّاسِلْكِيِّ المُتَّصِلِ بِالمَوْقِعِ وَقالَ لَهُم: كُنتُ أَعْلَمُ أَنَّكُمْ خَائِنُونَ، وَأَنَّ الغَدْرَ يَجْرِي فِي عُرُوقِكُمْ، وَلهذا السَّبَبِ أَعَدَدْتُ كُلَّ الاستِعْدَادَاتِ لِهَذَا اللِّقَاءِ. وَالْآنَ هَا أَنتُمْ فِي قَبْضَتِي. هَلْ تَرَوْنَ هَذَا الحَوْضَ المُمتَلِئَ بِالمَاءِ السَّاخِنِ؟ بِإِمْكَانِي أَنْ أُسْلُخَكُمْ كَمَا يُسْلَخُ الحَيَوَانُ، وَلَكِنِّنِي سَأَتْرُكُكُمْ عِبْرَةً لِغَيْرِكُمْ مِمَّنْ يُشَارِكُونَكُمْ ذَاتَ الأَهْدَافِ.
وَأَضَافَ: أَمَّا إِنْ أَرَدْتُمْ فَكَّ شَفْرَةَ تِلْكَ الْمُعَادَلَاتِ، فَعَلَيْكُمْ التَّوَجُّهُ إِلَى صَحْرَاء تَذَوَّقْتُمْ فِيهَا أَشَدَّ أَنْوَاعِ الْهَزِيمَةِ. فَتِّشُوا فِي جِبَالِهَا وَسُهُولِهَا عَنْ رَجُلٍ يُدْعَى عَرَبِيٌّ. إِذَا وَصَلْتُمْ إِلَيْهِ، هُوَ الْوَحِيدُ الْقَادِرُ عَلَى فَكِّ اللُّغْزِ.
بعَدَّ اخْتِفَاءِ الْعَالِمِ وَإِطْلَاقِ سَرَاحِهِمْ، خَرَجُوا وَأَعَدُّوا الْجُيُوشَ حَتَّى وَصَلُوا إِلَى تِلْكَ الصَّحْرَاءِ الَّتِي أَخْبَرَهُمْ عَنْهَا الْعَالِمُ لِلْوُصُولِ إِلَى شَخْصٍ يُدْعَى "عَرَبِيٌّ". كَانَ عَرَبِيٌّ شَخْصًا ذَكِيًّا، يَضَعُ عَلَامَاتٍ تَدُلُّ عَلَى وُجُودِهِ لِيُشْعِرَ الْآخَرُونَ بِأَنَّهُمْ يَسِيرُونَ فِي الِاتِّجَاهِ الصَّحِيحِ. بَعْدَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مِنَ الْبَحْثِ، وَجَدُوا أَنْفُسَهُمْ فِي مُنْتَصَفِ الصَّحْرَاءِ، وَفَجْأَةَ سَمِعُوا صَدى صَوْتٍ عبْرَ الْجِبَالِ يَقُولُ: "مَرْحَبًا بِكُمْ أَيُّهَا الْخَائِنُونَ الْغَادِرُونَ، أَنْتُمْ الْآنَ فَوْقَ أَرْضِ عَرَبِيٍّ. كَيْفَ تَجْرَؤُونَ عَلَى التَّعَدِّي عَلَى حُقُوقِ الْآخَرِينَ؟"
أَجَابَهُمُ الصَّهيُونِيُّ قَائِلًا: "أَيْنَ أَنتَ أَيُّهَا الْعَرَبِيُّ؟ لَقَدْ جِئْنَاكَ مُزَوِّدِينَ بِكَافَّةِ الْأَسْلحَةِ، وَإِذَا لَمْ تُخْبِرْنَا بِسِرِّ الْمُعَادَلَاتِ الَّتِي تَحَدَّثَ عَنْهَا الْعَالِمُ فِي مَقَالَتِهِ عَنْ دِمَارِ الظَّالِمِ بِفِكْرِ عَالِم، سَوْفَ نَقْتُلُكَ."
رَدَّ عَرَبِيٌّ قَائِلًا: "أَنتُمْ دَائمًا تخْطِئُونَ، وَتَظُنُّونَ أَنَّ الْقُوَّةَ سَتَمْنَحُكُمْ مَا تُرِيدُونَ. إِذَا كُنتُمْ تَعْتَقِدُونَ ذَٰلِكَ، فَلْنَبْدَأْ بِمُحَاوَلَةِ فَكِّ شَفَرَاتِ الْمُعَادَلَاتِ. الْمُعَادَلَةُ الْأُولَى تُخْبِرُكُمْ بِأَنَّ اتِّحَادَ الْمُسْلِمِينَ وَالْعَرَبِ سَيَقْضِي عَلَى الظُّلْمِ، وَأَيُّ انْتِهَاكٍ لِحُقُوقِهِمْ سَيَنتَهِي بِالْهَلَاكِ. أَمَّا الْمُعَادَلَةُ الثَّانِيَةُ فَسَأُخْبِرُكُمْ بِهَا بَعْدَ الثَّالِثَةِ. تَقُولُ الثَّالِثَةُ إِنَّ الْحُرُوبَ لَنْ تَعْتَمِدَ بَعْدَ الْآنَ عَلَى الْأَسْلِحَةِ التَّقْلِيدِيَّةِ مِثْلَ الطَّائِرَاتِ وَالدَّبَّابَاتِ وَالْأَسْلِحَةِ النُّوَوِيَّةِ، بَلْ سَيَكُونُ هُنَاكَ سِلَاحٌ فَتَّاكٌ أَبْسَطُ مِمَّا تَتَخَيَّلُونَ؛ سِلَاحٌ لَا يَعْتَمِدُ عَلَى الْمَعَادِنِ، وَلَكِنَّ الْأَيَّامَ سَتَكْشِفُ عَنْهُ."
أَكْمَلَ عَرَبِيًّ قَائِلًا: "المِعَادَلَةُ الثَّانِيَةُ، الَّتِي أَجَّلَتْهَا لِلنِّهَايَةِ، تُلَخِّصُ رِسَالَةَ العَالِمِ لِي وَهي: إِذا جَاءَ هَؤُلَاءِ النَّاسُ بِجُيُوشِهِمْ، فَاسْتَعِدَّ لَهُمْ بِرِمَالٍ مُتَحَرِّكَةٍ صِنَاعِيَّةٍ تُغْطِي الصَّحْرَاءَ. عِندَمَا يُصْبِحُونَ فِي مُنْتَصَفِهَا، حَرِّكْ هَذِه الرِّمَالَ لِتَبْلَعَهُمْ. هَكَذَا كَانَتْ وَصِيَّتُهُ، وَهَا أَنَا أَفْعَلُهَا يَا قَتَلَة الْأَطْفَال."
لَمْ تَمُرَّ دَقَائِقٌ حَتَّى كَشَفَ عَرَبِيٌّ عَنْ هُوِيَّتِهِ، مُؤَكِّدًا أَنَّهُ هُوَ العَالِمُ الَّذِي قَابَلُوهُ سَابِقًا وَاسْمُهُ "عَرَبِيّ". ثُمَّ سَأَلَهُم عَنْ أَمَانِيِّهِمُ الأَخِيرَةِ وَتَحْتَ تَأْثِيرِ الرِّمَالِ المُتَحَرِّكَةِ، غَابَتْ جُيُوشُهُمْ بِكُلِّ مَا امْتَلَكُوهُ مِنْ قُوَّةٍ.