الأحد ١٩ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٨
بقلم عادل الأسطة

هل تورث الأرض كاللغة؟

قراءة في سطر شعري لمحمود درويش!!

تتكرر لازمة "الأرض تورث كاللغة" في قصيدة محمود درويش "مأساة النرجس.. ملهاة الفضة" من مجموعة "أرى ما أريد" (1990)، تتكرر أربع مرات، مرة في السطر العشرين، حيث تشكل نصف سطر، إذ لا ترد في السطر منفردة، وإنما يسبقها كلام، وثانية في السطر السابع والأربعين، وهنا تشكل سطرا شعرياً كاملا، وثالثة في الأسطر الشعرية (195/196/197) حيث ترد على النحو التالي:

"وإن الأرضَ
تورثُ
كاللغة..."

ورابعة في الأسطر (247 و248 و249) حيث ترد كما وردت في المرة الثالثة، ولكن دون "وإنّ" التي تفيد التوكيد، وهو ما كانت عليه في المرة الأولى، خلافا لما كانت عليه في المرة الثانية حيث اقترنت العبارة بـ"إنّ". ولربما يتساءل المرء عن سبب اقترانها تارة بـ"وإن" و"إنّ" وطوراً عن سبب إسقاط هاتين. فهل كانت الضرورة الشعرية هي التي تلجيء الشاعر إلى الإلصاق والإسقاط؟

ليس هذا هو المهم، في هذه المقالة، فالمهم هو العبارة "الأرض تورث كاللغة" التي تظل عالقة في الذهن بعد قراءة القصيدة، حتى إن المرء ليحتاج، حين يريد معرفة القصيدة التي وردت فيها، إلى أن يتصفح دواوين الشاعر، مثلها مثل عبارة "من يكتب حكايته.. يرث أرض الكلام" التي وردت في إحدى قصائد "لماذا تركت الحصان وحيدا؟"

ينسى المرء القصيدة، ويتذكر العبارة، ويكررها، أحيانا، دون أن يمعن النظر فيها. هكذا تأسره العبارة للوهلة الأولى، وهكذا يكررها، تماما كما يكرر بعض المقاطع التي وردت في قصائد أسبق للشاعر مثل قصيدة "بيروت" التي يرد فيها:

"لم نولد لنسأل: كيف تم الانتقال الفذ مما ليس عضويا
إلى العضوي؟
لم نولد لنسأل...
قد ولدنا كيفما اتفق
انتشرنا كالنمال على الحصيرة
ثم أصبحنا خيولا تسحب العربات..."

ولكن المرء حين يتأمل العبارة ويمعن النظر فيها، سرعان ما يعود إلى نصوص أدبية لكتاب عالميين، وليتساءل إن كان تكراره لها، وبخاصة إن كان، ذات نهار، ذا فكر يساري، يعني اقتناعه بها والتزامه بما يرد فيها. وسوف أعود إلى النصوص الأدبية بعد قليل.

الجديد الذي يقتنع به قائل العبارة، هكذا يتضح منها، أن الأرض تورث، والقديم الذي كان قائلها مقتنعا به هو أن اللغة تورث. هكذا توصل قائل العبارة إلى قناعة تبدو من خلال النص قناعة جديدة، وشبهها بشيء يبدو مقتنعا به ولا جدال حوله: اللغة تورث، وشبهها بشيء، يبدو مقتنعا به ولا جدال حوله: اللغة تورث، واكتشف الآن، وهذا هو لسان قائل العبارة، أن الأرض أيضا تورث.

قد تحيلنا هذه القناعة لدرويش، القناعة التي قالها عام 1990، أو أسبق بقليل، إلى مواقفه السابقة. وقد تتطلب منا أن نمعن النظر في شعره كله، ابتداء من قصائده التي كتبها يوم كان ماركسيا وعضوا في الحزب الشيوعي، ومرورا بتلك التي كتبها يوم تخلى عن الماركسية وأصبح قريبا من م.ت.ف. كتب درويش، قبل عام 1970، ما نصه:

"وأبي قال مرة
الذي ما له وطن
ما له في الثرى ضريح
ونهاني عن السفر"

وغني عن الشرح أن الشاعر هنا يدعو إلى ضرورة التمسك بالوطن، فمن لا وطن له لا قبر له، وهذا ما تعزز لديه يوم توفي معين بسيسو في (لندن) عام 1984، واحتار الفلسطينيون أين سيدفنونه. ولكن الشاعر، ما بين العامين 1970 و1984، مرّ بحالات عديدة، حالة الارتباط بالثورة ورموزها، وحالة الاختلاف مع الثورة والسخط على الأنظمة العربية، وتوصل، ذات نهار، وهو يهيم، في شوارع باريس، إلى أن وطنه هو قصيدته الجديدة. وهذا ما ورد في قصيدة "رحلة المتنبي إلى مصر" (1980) التي نشرت فيما بعد في مجموعة "حصار لمدائح البحر" (1984). يقول درويش فيها:

"وأسلمني الرحيل إلى الرحيل
ولا أرى بلدا هناك
ولا أرى أحداً هناك
الأرض أصغر من مرور الرمح في خصر نحيل
والأرض أكبر من خيام الأنبياء
ولا أرى بلدا ورائي
لا أرى أحداً أمامي
هذا زحام قاحل"

ويتابع:

"وطني قصيدتي الجديدة"

وهكذا تصبح القصيدة، لا الأرض، وطن الشاعر، ويصبح هذا الشاعر ينتمي إإلى الشعر لا إلى الأرض التي ضاقت به، وإن كان يتساءل في القصيدة نفسها:

هل وطني قصيدتي الجديدة؟

وإن كان أيضا يعود في "لماذا تركت الحصان وحيدا؟" ليكتب:

"من يكتب حكايته يرث أرض الكلام!"

وكان قبل ذلك، وتحديدا بعد الخروج من بيروت عام 1982، كتب عن وطن من كلام وعن بلد من كلام؛ ولذا واصل السفر، معبراً عن مأساة الفلسطيني الذي يختلف عن بقية خلق الله الذين يعودون إلى ديارهم، في حين أنه- اي الفلسطيني- يواصل السفر بحثا عن الصفر.

نعود إلى التساؤل الذي اخترناه عنوانا لهذه المقالة: هل تورث الأرض كاللغة؟". وإلى تكرار السؤال: هل كان درويش سيقول هذا الكلام لو كان ماركسيا، او لو ظل ماركسيا؟

أشير، ابتداء، إلى أن اجتزاء العبارة من النص وعزلها عنه تذكرنا بقاريء الآية "ولا تقربوا الصلاة" دون أن يكمل "وأنتم سكارى". وهذا يعني أن عزل العبارة عن القصيدة يمنحها معنى مغايرا ربما أراد الشاعر من خلال النص قول عكسه. والقصيدة تبدأ بالفعل "عادوا"، وهي تتخيل عودة ما، عودةً إلى الأرض، عودةً إلى الوضع الطبيعي للإنسان الذي خلقه الخالق ليعيش لا ليقتل، عودة إلى الحياة الإنسانية... الخ. وإذا ما أخذنا بتفسير صبحي شحروري في كتابه "تأويل الشعر المحلي" (1995) للأسطر التالية:

"جبل على بحر
وخلف الذكريات بحيرتان،
وساحل للأنبياء،"

وإذا ما تذكرنا محمود درويش، في رام الله، في 9/5/1996، من أنه كان في القصيدة تخيل العودة وتصورها، وها هي تتحقق، أدركنا أن الضمير في "عادوا" يعود إلى الفلسطينيين، وأن المكان الذي عادوا إليه هو فلسطين. وهكذا فإن حياة المنفى، على طولها، لم تُنسِ الفلسطينيين أن أرض فلسطين ليست لهم. إنها أرضهم وهي ميراثهم كما أنهم ورثوا اللغة العربية عن أجدادهم العرب منذ تكلم العربي العربية.

كيف نوفق إذن بين قول الشاعر "والأرض تورث كاللغة"

وبين قوله:

"قد ولدنا كيفما اتفق
انتشرنا كالنمال على الحصيرة"

وبين قوله في قصيدة "مديح الظل العالي" (1982)

"لغة تفتش عن بنيها
تموت ككل ما فيها
وترمى في المعاجم".

ونحن وإن كنا ندرك أن لا قراءة لنص خارج شروطه التي قيل فيها، متتبعين خطى أصحاب المنهج الاجتماعي ومبتعدين عن خطى البنيويين،- وبالتالي فإننا لسنا أمام محمود درويش واحد ثابت، وإنما نحن أمام محمود درويش المتغير والمتطور والمتأثر بالظروف التي مر بها شعبه والشعوب الأخرى-، فإننا بحاجة إلى قراءة التاريخ لنتأكد إن كان ما قاله الشاعر صحيحا. ونحن بحاجة إلى التساؤل التالي: هل حافظت الشعوب على أرضها منذ وجدت عليها؟ وهل اللغات التي ظهرت ظلت تورث حتى لحظتنا؟ أليس هناك شعب اندثر وخلفه على أرضه شعب آخر؟ ألا توجد لغات اندثرت أيضا؟ وقراءة أشعار درويش تشير إلى هذا، فهو مثلا يكتب عن خُطْبة الهندي الأحمر "ما قبل الأخيرة" أمام الرجل الأبيض. وإن كان أيضا كتب في "مديح الظل العالي":

"كل الشعوب تعودت أن تدفن الموتى بأضلاعي
وتبنى معبداً فيها
وترحل عن ثراي"

سوف أشير هنا إلى كاتبين عالميين لهما موقف مختلف عن موقف محمود درويش في عبارته هذه. الأول هو (جورج برناردشو) والثاني هو (برتولد بريخت).

في مسرحيته التي نقلت إلى العربية (بجماليون) يعالج الكاتب الإيرلندي الساخر (جورج برناردشو) قضية اللغة ليسخر من بعض الفئات في المجتمع الإنجليزي، وتحديداً الفئات التي تندرج ضمن الطبقة البرجوازية. لقد كان أفراد هذه الطبقة في أكثرهم، يعتقدون أن اللغة تورث، وأن أفراد طبقة ما لا يمكن أن يتقنوا لغة غير لغة طبقتهم. وتأتي المفاجأة من واحد من الطبقة البرجوازية نفسها، وذلك حين يعكف (هجنر) على تعليم (ليزا)، بائعة الورود الفقيرة وابنة الشارع، لغة طبقته، وينجح في ذلك، وإن كان يدرك أن عمله صعب وصعب للغاية:

"إن هذا أصعب عمل قمت به، وإياك أن تنكري ذلك يا أمي. لكنك لا تتصورين مقدار الإثارة في أخذ إنسان ما وتحويله إلى إنسان آخر مختلف تمام الاختلاف بخلق لغة جديدة له. إن ذلك بمثابة ملء أعمق هوة تفصل بين طبقة وطبقة وبين روح وروح".

ولا أرى ضرورة للاستطراد في الوقوف أمام هذه المسرحية التي تناولها بالدرس غير دارس عربي. وهنا يمكن الوقوف أمام (برتولد بريخت) في مسرحيته "دائرة الطباشير القوقازية "التي نقلت أيضا إلى العربية.

يبني (بريخت) مسرحيته على قصة المرأتين اللتين ذهبتا إلى سيدنا سليمان ليحكم بينهما في أمر الولد الذي تركته أمه التي ولدته للمربية التي ربته. طالبت الأم البيولوجية بابنها في حين رفضت التي ربته إعادته لمّا جاءت الأولى، بعد غياب، تسترده، وكان حكم سيدنا سليمان لصالح المربية لا لصالح الوالدة. وهكذا يتنازع، في المسرحية، أصحابُ الأرض مع مزارعيها. يهرب الأولون حين تقع الحرب، فيما يدافع المزارعون عنها ولا يتخلون البتة عن حراستها ومقاومة المحتلين، وحين تنتهي الحرب يعود المالكون ليستردوها فيرفض المزارعون إعادتها، ويذهب هؤلاء وهؤلاء إلى المحكمة لتقضي بينهما بالأمر، ولتصبح الأرض للذين دافعوا عنها لا للذين ورثوها، وهذا ما يرجحه (بريخت) شخصيا. وهكذا تصبح وراثة الأرض أمرا غير مقنع.

ولا يخفى أن (برناردشو) كان اشتراكيا فابيا، تماما كما لا يخفى أن (بريخت) كان شيوعياً ألمانياً. وربما تجدر الإشارة أيضا إلى رواية كنفاني "عائد إلى حيفا" (1969). ينحاز خلدون (دوف) لوالديه اللذين ربياه، لا لوالديه اللذين تركاه وهربا دون أن يعملا على إعادته، وإن كان غسان يرى أن ما حدث عام 1948 ليس مبرراً لهذا، وإلا لكان ما حدث مع اليهود في فترة الحكم النازي مبرراً، فترْكُ الفلسطينيين الأرض جاء نتيجة عدم تكافؤ بين الطرفين، ولم يكن الفلسطينيون وحدهم مسؤولين عما جرى لهم. ومع ذلك يدافع (دوف) عن خياره.

هنا يمكن العودة إلى محمود درويش مرة أخرى. لا يعدم المرء في أشعار درويش وجود مقاطع تؤكد ما ذهب إليه (برناردشو). يرد في قصيدة "تعاليم حورية" من ديوان "لماذا تركت الحصان وحيدا؟" المقطع التالي:

"وأنشأ المنفى لنا لغتين:
دارجةً ليفهمها الحمام ويحفظ الذكرى
وفصحى... كي أفسر للظلال ظلالها"

وواضح دلالة الفعل "أنشأ"، وواضح أيضا دور المنفى في إيجاد لغتين للابن الذي انفصل عن أمه. إنه يتقن لغتها، ولكنه يجيد لغة أخرى لا تجيدها الأم التي لم تمر بالتجربة التي مر بها الابن، ولو كانت مرّت بالتجربة نفسها لربما أتقنت اللغة التي أتقنها. وأيا كان الأمر فإن لغة الظلال ما كانت لأنه يقيم في المنفى وحسب، وإنما جاءت نتيجة تثقيف الشاعر ذاته وقراءته المستمرة، تماما مثل (ليزا) التي لولا جهود (هجنر) لما أتقنت اللغة الجديدة، وإن دلّ هذا على شيء فإنما يدل على أن اللغة تتعلم أيضا. فما الذي رمى إليه الشاعر من قوله: "الأرض تورث كاللغة؟" ولعلنا هنا، بعد قراءة ما جرى على أرض فلسطين منذ 1882 حتى هذه اللحظة (26/5/2000) نتوصل إلى أن الأرض أيضا يمكن أن تكتسب من خلال الحرب. لقد كسب الإسرائيليون الحرب وخسرناها.

في قصيدة "خلاف، غير لغوي، مع امريء القيس" (1995) بعثرت اللغة قلبها عندما غيرت دربها. وقد يقول درويش إنني أقول الأرض تورث كما اللغة تورث، وأقصد بذلك أن الإنسان يورث أبناءه هاتين- أي الأرض واللغة. والأرض محايدة، وإنما يكون الفعل صادراً عن الإنسان لا عنها، والأرض في العبارة نائب فاعل لا فاعل. قد يقول هذا، ويضيف: ولقد ذكرت في رسالتي إلى سميح القاسم "هناك شجرة خروب" أن الطبيعة محايدة، وحيادها يجرحني:

"لا تصدقني فأنا لا أسأل، بقدر ما أشير إلى "حياء" الطبيعة الجارح". ونلحظ أنه وضع مفردة "حياء" بين علامتي تنصيص. لقد أقام الإسرائيليون كيبوتس (يسعور) على أنقاض البروة، ولم تثر الطبيعة التي ظلت تعطي الثمار ذاتها على الرغم من اختلاف سكانها، ولم تحزن حين أقام عليها سكان جدد عوضاً عن سكانها الذين ورثوها أبا عن جد، بل إنها أعطت، حين استغلها السكان الجدد بوسائل علمية، أكثر مما كانت تعطيه.

حقا إن كنفاني في "العاشق" ذهب إلى أن فلسطين تواطأت مع الفدائي ضد الكابتن (بلاك)، إلا أنها أيضا في "عائد إلى حيفا" لم تغضب حين أخذها عنوة الإسرائيليون، و(دوف) لم يعد مع والديه وفضل البقاء مع مربيته.

هل يقصد درويش من وراء قوله أن فلسطين لنا مهما طال الأمد، وأن لا شرعية حقيقية إلا شرعية الحق لا شرعية القوة، وأننا سنعود من المنفى ذات يوم؟ وكما ذكرت علينا ألا نأخذ سطراً من نص ونكتفي به، لقد أنهى الشاعر قصيدته التي بدأها بالفعل "عادوا" بالتالي: "يعرفون، ويحلمون، ويرجعون، ويحلمون، ويعرفون، ويرجعون، ويرجعون، ويحلمون، ويحلمون، ويرجعون".

تُرى هل تورث الأرض كاللغة؟ سننتظر وسنرى!!

قراءة في سطر شعري لمحمود درويش!!

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى