الأحد ١٦ تموز (يوليو) ٢٠٠٦
بقلم فاروق مواسي

همسات أم خطرات ؟

تقديم لديوان الشاعر جورج فرح

صوت الشاعر جورج فرح له نكهته داخل المشهد الشعري المحلي ، فهو يكتب أناه ووجدانه بلغة شعرية مباشرة في التناول تتوصل أكثر مما تستعصي ، كما أن الصور لديه ينحتها بتهويماته المتماثلة الهادئة، يوحي بالشيء أحيانًا ، ويقوله كثيرًا كما يشعر به - من غير إقحام عمق ما أو تأهب ما لغرائبية مفتعلة ....إضافة إلى هذا، فإن الموقف الشعري الذي اعتاده في أشعاره يتضافر في تناسق بنائي إيقاعي .، ففيه يتزنر بالنغمة ، ويوقّع على ترنيمها خلجاته انعكاسـًا لمرآته ووجدانه ، ولنسق اعترافًا من اعترافاته الموقّـعة :

ضَحْكَةُ الأطفالِ في عُرفيَ أشجى

مِن رَنينِ العُودِ

واللَّحْنِ الحَنونِ...

في آلام الشاعر وآلامه يمتطي ظهر القصيدة ، ويشد الركاب للرحيل إليها وفيها ، ورغم أن غريزته المتفاعلة فيها محاولة التوثب والانطلاق ، ومآله ينحو إلى الوصول إلى معراج تخيّره ، فإن طبعه بما فيه من انفعال كان يتجه سهمًا وراء سهم لاكتناز معنى حواسه أو لاصطيادها ، وهو يؤولها ويؤولها وهيهات .... :

الأحزان ضمن نسيجها .

هناكَ وقفتُ في لهفٍ

أناجي طيفَكِ الغائبْ،

ومن خلفِ الضَّبابِ أطلَّ

نورٌ خافِتٌ شاحِبْ

يسائلني،

ويفتحُ لي جراحًا شئتُ أدمِلُها

فيسخرُ مِن مُكابرَتي

ويهزأ مِن مُحاوَلتي

يقولُ بلهجةٍ تكوي:

أتنكرُ قلبَكَ الذائبْ؟

وبي ذكرى لأيّامٍ قضيناها،

وهل أنسى؟

شربنا دمعَنا فيها،

وكأسًا يتبعُ الكأسا

وأبحَرْنا بأحلامٍ تجسُّ قلوبَنا جَسّا

وغِبنا في غياهبِها...

وفي مثل ذلك ينسج مكنون كلماته ، وذلك على المنوال ذاته الذي جعل فيه .

إنّ انشغاله باحتدام أحاسيسه أخذه إلى أن ينفعل و يتوق – يتوق لأن يكون في ذهن الدراية والحكاية ، ومناجاة الوطن :

وافى إلينا ذاتَ يـومٍ سائلُ

مُستعطِفـًًا مُستجديًا يتـوَسَّلُ

ويقــولُ: إني تائـــهٌ ومُشرَّدٌ

قاسيتُ في التَّرحالِ ما لا يُحمَلُ

ضاقَتْ بيَ الدُّنيا فما لي ملجأٌ

في الأرضِ إلاَّكُم، وإني آمـلُ

ألاَّ تـردّوني ذليـلاً خائــبًا

جازاكُمُ البـاري إذا لـم تبْخَلـوا

ومضى فأحضرَ حِملَهُ ومَتاعَهُ

ثمَّ استقرَّ ببابِنـا لا يَرحَـلُ

حتى إذا قَـدِمَ الشتاءُ وبردُهُ

وغَدَتْ رياحُ الزمهرير توَلوِلُ

قُلنا لهُ: هَلاّ احتمَيتَ منَ الأذى

في البيتِ حتَّى أن تكُفَّ هَواطِلُ

مُـذّ ذاكَ كانَ نصيبُـهُ ما نابَنا

مِن كُلِّ ما يَروي الظَّما أويُؤكَلُ

وغدا الغريبُ على المدَى مُتوطِّنًا

مُتـصرِّفًا في أمـرِنا، لا يسألُ

فإذا نطقنا جُملةً قـالَ اسكتوا،

وإذا استرحنا بُرهةً قالَ اعملوا!

وإذا أضَأنـا شَمعةً قالَ : اطفئوا،

وإذا كَسَــرنا خُبزَنـا يتمَلمَلُ

قُلنـا لـهُ: يا ضيفَنـا أثقَلتَنــا

أنهَكتَنا، والضَّيـفُ لا يتـدَلَّلُ!

قـالَ: وربِّ الكونِ إني مالِـكٌ

للـدارِ مُـذ كانَ النشوءُ الأوَّلُ

إن تقبَلوا حُكـمي بقيتُمْ ههـنا

فإذا أبيتُم فاستـعدّوا وارحلوا !

إذن هي حكاية السيطرة على النرجس والزعتر والزيتون ، حكاية الخداع والجنون .....

أما الطبيعة كلها فتتموّج وتتدافع لديه بأجنحة قد نراها ، لتطير من قفص آنيتها ومحدوديتها إلى أفق مستجد، ومن طينة العبث إلى طينة الأمنية :

للجِباهِ السُّمرِ في بَلَدي

رواياتٌ أصيلَةْ،

تروي الجبالُ فُصُولَها

والمَرْجُ يَضفُرُها

جَديلَة...

للمُروجِ الخُضْرِ

في بلدي

نُجَيماتٌ دَليلةْ

تحجُبُ الظُلُماتِ حتّى

يهتَدي الغادي سَبيلَهْ...

ولذاك الصَّخْرِ

لو تدرونَ

أعماقٌ سَليلَةْ

رَسَّخَ الزَّيتُونُ فيها

لمدَى الدَّهرِ

أصُولَهْ...

وأنا...

مجنونُ زَيتوني وكَرْمي،

وأنا...

أهوَى مِنَ الكَرمِ خَميلهْ...

وأنا

من خَيرِ كَرمي كُلُّ خَمْري

وأنا خَمري دَمي

آبى بَديلَه!

شاعرنا يكتفي بسكنى بيت متواضع من أُلفة وتوتر حواسّ، وكم راوح أن تكون له حجرة علوية مشرعة على القضية وعلى المُثار وعلى السؤال، على المعاني المحتملة لأشياء لم تنكشف بالاختزال ، فجاء ليقولها صريحة وحادة وجارحة ..يتحقق في الفعل، ذاتاً حيّة منحازة... وباحتمالات داعية ، كأنه مرأى أو صدى ، وهذا الصدى يتموسق في الوزن الذي لم يتنازل عن توقيعه :

ألا عِديني،
وهاتي الوَعْدَ مِنكِ
وماطِليني.
عِديني

وهو يدأب على إقامة علاقات جديدة من خلال الصور والاستعارات :

ويخطو الدَّهرُ

مُسرِعةً خُطاهُ
ويلطُمُ مَوجُكِ العاتي سَفيني...

أراني فيكِ مَرهونًا، وإنّي

أسيرُ هَواكِ

يا ذاتَ الرَّهينِ!

وهذا أيضاً يفـعّل حركة قد تمتحن الإنسان عمودياً، في نسغ أعماقه، وقد تتواصل مع المد الأفقي لمعاناته، فيتماسّ مع العناصر الجوهرية لوجوده هو ، وهذا ما يمنحنه شعوراً حقيقياً بالانتماء إلى هويّة شمولية، أصلها ثابت في السماء وفرعها في الأرض، تماماً كالضوء ، وخلافًا لما ورد حول الكلمة الطيبة وشجرتها :

وأصبَحَتْ شُجيرتي،

مِن مَشتلِ السَّلامْ،

مَحزونةً كئيبَةْ

وَلم تزَلْ غريبَةْ

تنتظرُ العجيبَةْ

في مَوكِبِ الأيَّامْ..

الشاعر يغترف من ماء ذاته ليعبّر عن الرؤيا المحتملة ، فيحقق وجوده ووجدانه ، أناه وذاته عبر تموجات حالمة ورافضة ، متناهية وبمعناها الكلي أو الجزئي ، إنه شعر صاحبه:

حُرٌّ أنا

كالرّيحِ، كالنَّسَماتِ

في وُسْعِ الفَضاءْ...

بعَزيمَتي

وإرادَتي

وبصَبْوَتي لِلحَقِّ

والنُّورِ المبَشّرِ والضّياءْ.....

تقديم لديوان الشاعر جورج فرح

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى