الأحد ١٥ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم فلسطين حسن محمود أبو زهو

هوامش على جسد محترق

لا يُنصح بقراءة هذه الحكاية لمن لا زال في أوّل الحُب...

بالفطرة نخاف الأماكن المعتمة والدم، بالفطرة نهاب الأنين وأصواتا تُناجي ربها للخلاص، بتلقائية يزداد النبض كجرس كهربائي، وترتبك الخطوات، دُوار وأخيلة ثم متاهات، في أقبية مشفى الشفاء، مسلخ بشري، وأكياس جثث، ورائحة مزعجة تدفعك للتقيؤ، لا ماء ولا أحد يستجيب لصراخك، الكل يصيح... الكل مُتعب، والأطفال يدفعون خطر الجنون بالبكاء، الكل متواطئ عليك، إياك أن تنجو، هكذا تكذب الجدران، إياك أن تُدرك حدود بدنك، إلى الآن أنت في قبضتهم، والاحتمالات إما أن تكون أشلاء أو طعاما للكلاب، أو اغتصاب ثم ندفنك حيا أو تذوب مع خيمتك، إياك أن تتصرف كبشري، عليك أن تجوع وتعوي ثم تسقط صريعا كجبل.

أعبر العتمة وكأنني اعبر نفسي، وصوت شيخ بعيد يتلو بصوت يذبحك على الفقد، آيات من سورة الحج.

اقتربت من غرفته وانا مهيأة لكل شيء، وكأنه كان بانتظاري، فبمجرد أن أضأت مصباح الهاتف واقتربت منه، أزاح رأسه صوبي وهو يقول :"مريم... لا تجزعي، اقتربي شيئا مني.. احتمليني قليلا، ثم....." سكت عن الكلام وهو يُحدق بالصنم الذي هو انا، توقف وهو يُدرك حجم الألم الذي طاح بي، لرؤيتي حبيب قلبي، مسلوخ الجلد ومشوه الوجه والأطراف.
"شفاهي المتلعثمة لن تقترب أكثر منك، أسمعك جيدا ... سألتصق بوجهك المطهو على الجحيم إن اقتربت أكثر، ينزُّ منه القَيح والصفار وفقاعات معبئة بشحم ساخن،... ثم أنني قلقة بعض الشيء، أختي تمكث في خيمتها المتعبة بلا ضوء، دَفعت قوة الضغط الناتجة عن الصواريخ بلحم عينيها إلى الخارج، كفتات سمك التونة تَلَطّخ الخدين والشعر المبتل بالدم مع الرمل، كالخفاش تَعثر على نفسها في الظلام، وتَختبئ عنها الشمس كشيء بذيء، فاعذرني لا مجال لأن أكون الأمس، ولا مجال للاقتراب"،

يتململ الجسد التمري العجف الماثل أمامي، ثم يحدق مع دمعة، وهو يقول: أتصدقين يا مريم، إلى الآن لا أعرف شكل وجهي في المرآة، غير أنه ككامل بدني، متجعد بالدم كالهريس، ...مريم: أيخبت الحُبُّ حين نبدوا كالمسوخ؟"

ـ" بالمطلق ليس جيدا أنك حي، توقعت موتك، أتيت رغم الخطر لأضمن لك حفرة في بطن التراب! تَعِب قلبي حين وجدت لصدرك شهيقا يرفعه،... أتعجب لِمَ لَم تمت؟ لِمَ لَم تُشبع النار من كُلّك؟ لا ماء في غزّة فكيف أطفأوك؟ معاناتك بدأت الآن! لو أنّكَ مُت لكنت مشابها لموت أمي الى حد ما، فقد كانت عند التكيّة تستل لأفواهنا لقمة من مَرَق ودخان، قُصِف المكان برمته، كانت هي والطهاة والجائعين والفاصوليا والدم يملأؤون أرجاء المكان.

كأننا نكفر حين نحب... ونتطهر في أذهانهم ونحن نُذبح، الاثم والخطيئة عجينة خميرتها اللسان الذي ينطق بها!
ـ يا مريم :" لم أرجوه أن أحيا، ... قبل ان تَبلُغ النار رأسي كانت تأكل نِصفيّ السفلي، لم أتفوه إلا بقول: يا الله يا الله ولا شيء آخر، والنار اخمدها الناجين بسف التراب،.. للتراب قيمته يبتلع سُؤَاتنا والحريق وندوس فيه أنفسنا دون أن نتذمر، ورغم أنني بِتُّ كالمسخ، إلا أنني لم أخسر النظر في عيني، ولو كانت اليمين قد انزلقت وتعجنت ببعض جفناي، لم اعد حيدر الذي كان قبل محرقة الخيام، أمي ووالدي وجميع اخوتي الصغار تجمروا مع الاغطية وظلوا منكمشين كحجارة الرخام،...."

ـ "سأزورك في حال منحونا هدنة بين الموتين، وتأجلت فرصة قتلي، ستكون عجينة لحمك قد جفت، لن آتيك بصلصال جديد لنخلق من الوهم واقعا نظهر فيه كالمهرجين.. إذ أننا في فراغ النفس المنهكة حد القيظ نبحث عن جيفة الروح ونتلهى بها، بل سآتيك ومعي الخطيئة ، سأراك بعيون اختي، أتحسس حضورك ثم أدفعك من خلف النافذة وأقتُلك.

سأريحك من عذاب أكبر من كلانا، كالراحة التي استشعرتها بالعثور على جمجمة أخي مع جزء من سلسلة ظهره بعد ستين يوم تحت الركام، كانت له رائحة نتنة، كانوا يكذبون في الحديث عن الملامح البهية والروائح العطرة للشهداء، فكلنا هنا بلا ملامح ورائحتنا الفطيس، وبيت القصيد لا ربك يتعطش لدمك ولا رضاه مقرون بحرقك في نار حميم..."

هل تستطيعين الرقص يا مريم؟

إذا غنيت لي.

وضحكنا من فجيعتنا، خرجت مترنحة اعبر ممر المشفى بضوءه الباهت المتقطع، كأخطبوت يرمي بأطرافه قلب المحيط."


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى