«وحدة العقل البشري» لمحمد يغان
صدر عن دار فضاءات للنشر والتوزيع –عمان وبدعم من وزارة الثقافة كتاب «وحدة العقل البشري» للباحث محمد فيصل يغان وقد جاء الكتاب في280 صفحة من القطع المتوسط، وصمم غلافه الفنان نضال جمهور
كتاب يحاول ان يبحث وبصورة نقدية بنية العقل الكوني وتشكلاته مستندا على رؤيته لبنية العقل العربي، مقتربا من الكثير من الكتاب الذين سبقوه في هذا المجال ومفترقا عنهم في الوقت نفسه ليشكل رؤية مغاير ة، ومما جاء في مقدمة الكتاب يقول الكاتب محمد يغان:
إذن، فالنقد هو لمنتجات العقل، للمعرفة، والمعرفة قائمة على نماذج تأتي من الفكر والتجربة، وتخضع للتعديل بالفكر والتجربة. أي أنَّها تاريخية بامتياز وخاضعة لظروف الزمان والمكان. بالمقابل، فإنَّ مفهوم العقل حدسيا يوحي كما قلنا بالعكس من ذلك، يوحي بالتمايز والاستقلالية عن المحيط، وهو شديد الذاتية ومكون رئيس لمفهوم هوية وإنسانية الإنسان. ومن جانب آخر، فإنَّ من نتائج النقد، التصنيف والتمييز، أي أنْ يكون هناك عقل ناضج وآخر بدائي، عقل متطور وآخر متخلف إلى ما هناك من تصنيفات ممكنة، وهنا الخطورة والمشكلة، فهذه الصفات سرعان ما تدخل في تعريف «أنواع من البشر» يكون التخلف والبدائية وغيرها من النعوت كالعقل أو بالأحرى بدلا منه، حدودا دائمة وأصيلة. إنَّ تمرير منتج العقل على أنَّه العقل، ومن ثم تناسي العقل المكوِّن «بكسر الواو» وإبعاده عن الصورة، يقود بالضرورة إلى أنْ يصبح تصنيف البشر على أساس شكل ونوع العقل ممكنا.
العرض السابق هو بالواقع لنمط من التفكير قائم على أحد النماذج التي أنتجها العقل البشري في مرحلة تاريخية معينة، ونحن في هذا الكتاب نخضع هذا النموذج للنقد، ونبين مآخذه ونقترح نموذجا بديلا انطلاقا من فهمنا القائم على حقيقة أنَّ العقل البشري، في تعامله مع الواقع المحيط به، يسعى إلى النظام، ويبحث عنه في خضم التعدد والتنوع القائم في الواقع إلى درجة الفوضى، فإدارة محيطه والتحكم فيه يتطلب فهم العلاقات والقوانين التي تحكم تفاعل أجزاء هذا المحيط في ما بينها كي يتمكن من إدارتها وتطويعها لصالحه. والنظام هو وضع الظواهر والأحداث في نسق مكاني وزماني «نموذج» يسهل على العقل البشري استنباط القوانين المسيرة للعناصر المشكلة لهذا النسق، وبالتالي التنبّؤ في مستقبلها والتحكم فيه. العقل البشري ومن مبدأ الاقتصاد في الجهد، يرى في محاولة استنباط قوانين خاصة لكل ظاهرة أو حدث على حدة عبثية ومضيعة للوقت والجهد، فإمّا أن تتسق الأحداث في مجاميع وأنساق، وإمَّا أنْ تبقى خارج دائرة البحث العقلي.
هكذا ومن خلال آلية تشكيل المفاهيم والتي نتطرق إليها في متن هذا الكتاب، يقوم العقل ببناء نماذج مثالية قياسية تسمح له باستنباط القوانين العامة بأكبر درجة من العمومية والدقة ممكنة، ومن ثم تطبيق هذه القوانين على الظواهر والأحداث الفردية. أقرب الأمثلة إلينا من العلوم الدقيقة هي النماذج الهندسية المثالية التي استنبطها العقل البشري كاتساق في المكان من ملاحظاته للتنوع والتعدد الهائل في الظواهر المحيطة به، فكان المثلث المثالي والذي سمح للعقل باستنباط العلاقات المعروفة بين إجزائه من زوايا وأضلاع، وكذلك الدائرة الكاملة وقوانينها. ومن العلوم الفيزيائية نجد نموذج الإطار المرجعي العطالي المثالي والذي من خلاله استبط نيوتن قوانينه الشهيرة الثلاثة، وأيضًا نموذج الغازات المثالية والذي من خلاله تم استنباط القوانين العامة للغازات إلى آخر هذه النماذج التي نصادفها في كافة مناحي الفكر البشري. حتى في نظرية النسبية الخاصة، والتي يفترض فيها إلغاء فكرة الإطار-النموذج المرجعي المميز، تتعامل في حيثياتها مع «الإطار المرجعي الذاتي،PROPER REFERENCE FRAME» والذي يكون فيه الجسم المدروس في حالة «خاصة»، حالة السكون، ومنها تشتق الوزن الذاتي والطول الذاتي والوقت الذاتي.
أمَّا النسق في الزمان، فتمَّ تحقيقه من خلال النموذج العللي من جهه، فلكل حدث علة سابقة عليه زمانا، ومن خلال النموذج الغائي من جهة أخرى والذي يفترض وراء كل ظاهرة غاية وإرادة.
نتيجة لكمال وجمال هذه النماذج المثالية بالمقارنة مع تعدد وتنوع الواقع الفوضوي، كثيرا ما يشطح العقل إلى اعتبار هذه النماذج أصلاً ومبدأًَُ للوجود، واعتبار الواقع محاكاة بائسة لهذا المبدأ.
كما قد يلجأ العقل إلى آلية المماثلة لاستعارة نموذج قائم في مجال ما من مجالات المعرفة وتوظيفه في مجال آخر قيد البحث، نجد مثلا في العلوم الدقيقة توظيف نموذج النظام الشمسي الكوبرنيقي في نموذج بوهر للذرة، حيث النواة الثقيلة تماثل الشمس في المركز، والإلكترونات تماثل الكواكب في أفلاكها المحددة، وكذلك استعارة نموذج نيوتن لقوى التجاذب ما بين الأجسام وقانون التناسب العكسي مع مربع المسافة وتوظيفه في بحث تفاعل الأجسام المشحونة كهربيا.
لا تتوقف هذه الآلية العقلية في خلق النماذج المثالية على العلوم الدقيقة، بل تتعداها إلى العلوم الإنسانية التي وبحكم طبيعتها غير الدقيقة، تغري العقل البشري على التوسع في آلية المماثلة بالأخصّ مع نماذج مستقاة من العلوم الدقيقة. وكون موضوع البحث هنا هو العقل البشري وتجلياته الثقافية والمعرفية، نقتصر في هذه المقدمة على الإشارة إلى بعض النماذج السائدة في هذا المضمار ومن ثم نقدم للنموذج البديل الذي نطرحه من خلال هذا الكتاب للعقل وتجلياته في الثقافة والمعرفة عامة.
يبدو أنَّ النموذج الأقدم والذي لا يزال حاضرا في الأذهان بدرجة كبيرة هو النموذج العرفاني، أو ما يمكن تسميته بنموذج المركز المضيء والذي تشكل بالمماثلة مع المصباح الذي يبدد الظلمات والذي بنوره ينقلنا من الظلمات إلى النور، وهو بطبيعته إلهيٌّ ومفارق، والعقول البشرية نتصورها نحن مماثلة للحوامات الليلية الطيارة، منها ما يقترب من المصدر فيشع ضياء ومنها ما يتحد معه ويحترق بوهجه ومنها ما يبعد عنه فيلفه الظلام. ومن هذا النموذج تتعدد الاستنتاجات، فمن طبيعة النور، إلى الاستعداد الطبيعي لدى المتلقي لأنَّ يعكس هذا النور، إلى المجاهدات المطلوبة للتقرب والاقتراب من مصدر النور، ولا تزال لغتنا زاخرة بالمصطلحات الملازمة لهذا النموذج كشاهد على مدى تغلغل هذا النموذج في فكرنا من مثل العلم نور، والمدينة الفلانية كانت مركز إشعاع فكري إلى آخر هذه المصطلحات.
