

وردة الخيام
قادته قدماه إلى المحطة نفسها، كانت السماء تصرخ بالرعد وتضيء شموس برقها في الظلام، يمشي وعيناه تلتفتان يمنة ويسرة، كادت قدماه أن تنزلقا بأولى رشقات المطر المتساقطة على زيوت غطّت أرض المحطة.
أمسكه بيده وكأنّه يتشبّث بآخر ذرات تراب غطّت أشلاءهم في المقبرة الجماعية، انزلقت قدم صديقه المعتصم عن رصيف المحطة، وكادت أنْ تدوسها عجلات قاطرة اقتربت لتحطّ بجناحيها في المكان، صعدا معًا، وجلسا متقابلين ولا زالت قدم صديقه تنتظر الهبوط مجدّدا.
صرخ المعتصم من فرط خوفه:
– ابقَ قريبًا من الباب، سننزل في المحطة التالية.
ردّ عليه البراء بصوتٍ خافت، وعيناه تقلّبان إعلانات تجاريّة ولافتات وصور لأبطال أفلام ومسلسلات الصيف القادم:
– يا بركة سيدنا الخضر حِلّي...
لم يبقَ في يديه سوى مخطوط قديم وجده في حُطام لدولاب مهشّم، أخذ يُقلِّب النَّص في كفيه، ويتأمله، ويعيد تشكيله.
يلقيه للأعلى، ويتركه للريح القادمة من شبابيك القاطرة المتهالكة لكي يطير، فلا يطير.
يعيد تشكيله مرة أخرى، يلقيه للأعلى مرة أخرى، يتركه للريح مرة أخرى وأخرى وأخرى لكي يطير، فلا يطير.
يعيد تشكيله على هيئة مفتاح بيته الذي صار حطامًا هذه المرة- يلقيه للأعلى، يترك أمره للريح لكي يطير، تواتيه الشجاعة والمعجزات، ويطير النّص على هيئة فنجان من القهوة متجاوزًا كل الأعراف والحسابات...
يرمقه المعتصم بغبطة ويهمس:
– هذا هو النص الصحيح إذَن، فقد حلّت بعض البركة.
مسكينٌ صديقي البراء فهو لا يملك في ذاكرته البعيدة إلّا صورا مبهمة عن فتاة حبّه الأول (وردة)، وعن فنجان القهوة الوحيد الهارب إلى الخيام، وعن طفلهما الصاعد من رحم أمّه إلى بوابة السماء، وعن أشخاص يخبرونه أن شيئا غامضا وغير محدد فيه، يجعلهم يرونه صالحا للطيران وإحداث فرق وصناعة أثر واختلاس قدر من الخلود لربّما جاءهم من جنة في أعالي السماء.
ها هو يقترب من همساتهم ولمزاتهم، إنّه يصنعون قبيلة أو أكثر داخل هذا الصندوق الذي يسير ببطء شديد، يخيّل له أنّها بجعة تحمل أبناءها في حجرها لا عربة قطار ويُخيّل لهم أنّه حديث عهد بالجنون.
يصيح جابي التذاكر والعرق يتقاطر من ناصيته فيقترب من الركّاب المسافرين ثمّ ينفث سحر سيجارته في وجوههم دون مراعاة للأصول والأدب يصيح مجدّدا ويتراقص دخان السيجارة على لحن للست أم كلثوم (يا حبيبي طاب الهوى).
همست فتاة كانت تجلس بجوار المعتصم، وقد بلّلت الأمطار ثيابها وهي تنتظر القاطرة في الشارع المكشوف، كانت ترتجف قليلًا؛ فالريح تداعب شعرها، وتزور ثيابها بين الفينة والفينة.
شفتاها تتمتم معترضة:
– يا لك من موظّف ثقيل الظل، أي هوى سيطيب بوجود دخانك ذي الرائحة النتنة.
يصرخ الجابي مجدّدا:
ها قد وصلنا إلى المحطة التالية، ابقوا قريبًا من الباب، سننزل في المحطة التالية.
ها هما يفترقان الآن، كلٌّ إلى دربه وقدره المحتوم.
– البراء: وداعًا وداعًا أيها الغريب المسافر.
– المعتصم: وداعًا حزينًا حدَّ الجنون.
سنلتقي غدا، أو بعد يومين، أو بعد أسبوع، أو بعدَ شهر ربما بعد عام، وننسى من تكون...
– البراء: لعلّها تكون يا صديقي الأثير، ليتها ذاكرة مهشّمة من النسيان، وداعا حزينًا حدَّ الجنون.
قالت الفتاة الجميلة في المقعد المجاور: أريد قمرا كبيرا مستديرا وبدرا فالأهِلَّة أقمارٌ مريضة، وأنا أريد قمرا صحيحا وكاملا.
ألقى المسكين المخطوط من يده، أطال عناق رفيقه قبل أن يفلته، غَنَّى كثيرا للأم وللحبيبة ولابنه الذي لم يرَ النور وللوطن، وطار بجناحيه المتعبين حتى وصل إلى القمر...
توقع خلف القمر الكامل أن يرى كلّ اشكاله الناقصة، لكنّه لم يجد سوى خواء واسع وظلام مزدحم وصرخات وطيوف متكسّرة لأشلاء الغائبين!
أدرك حينها أنّ قمرا واحدا وكاملا يتبع الأرض كلّ أيام السنة، لكنّ ظل الأرض السخيف النرجسي يغطي أجزاء منه عن عيون الناظرين، فيظهره هزيلا ومتعبا في أرض وطنه!
لقد ألقى مخطوطه وفارق صديقه الوفي الوحيد- وطار كلّ تلك المسافة نحو السماء، ليجد أنّ الأقمار الناقصة التي أتى للتخلص منها، ليست ناقصة تماما، وإنْ كان لابدّ من شيء ناقص، فهو المنظور الذي يراقب به القمر النائم على صدر غزّة كلّ مساء!
صحيح أنّه لم يجعل كلّ أقمار الشهور كاملة الاستدارة، لكنّه أدرك الحقيقة، وأصبح كلما نظر إلى السماء ليلا -حتى في الليالي التي تبدو أقمارها متعبة هزيلة- يرى الجزء المُغطَّى بظلّ الأرض واضحا وصور الغائبين كاملة الرأس في مكانه والأطراف في مكانها والقلوب لا زالت تنبض بالحياة فهم أحياء عند ربّهم يُرزقون، فلا يعود القمر هزيلا أو ناقصا في عينيه...
معذورة تلك الفتاة في المقعد المجاور لم تصعد إلى السماء، ولم ترَ الحقيقة كما رآها ذلك الغَزّي، لذلك ظلت ترى القمر هزيلا، وترى قصة الطيران أمرا مستحيلا!
اتّكأ على باب القاطرة، وهبط بقدميه المصابتين، سيكون الأمر عسيرا في بدايته، لكنّه سيمضي كما مضى الآخرون.
تنفّس رائحة وقود المحطة وقال بأعلى صوته:
– يا بركات سيّدنا الخضر حِلّي، مضى نحو الأضواء البعيدة، وغاب عن الوعي مجدّدا.
التقط الطفل الذي يجوب المحطة ليبيع غزل البنات للمسافرين مخطوطًا مخضّبًا بالدم يفوح مسكًا، ركض خلف المعتصم، لكنّ خطاه لم تسعفه على اللحاق به، دسّ المخطوط في جيبه وعاد ليطوف مناديًا: عسل يا غزل البنات.
مرّ عامًا كريتًا على رحلة العلاج في أرض الكنانة ولا زالت قدما البراء تخدعانه وقلبه الذي في صدره يعاني الخواء والضعف، لعلها النهاية أو الاقتراب من نقطة صفر إليها.
كتب صديقه المعتصم رسالة إلى أمّ البراء يستعطفها لبذل كل المساعي والمحاولات للخروج عبر معبر رفح الحدودي لمشاهدته للمرة الأخيرة على حدّ وصف فريق الأطباء في غرفة العناية المركّزة، كتب لها ويداه ترتجفان والحبر يسيل مختلطا بدموع شديدة الملوحة.
ها هو يقف مرفوع الهامة كعادته مرتكزا على سرير البراء في مستشفى القصر العيني، ليكتب لها ما أملاه عليه البراء من قصة حبّه التي دكّت أعمدة الظلام لترى النور من بين الركام:
"تخيلي يا أمّاه لو أبصرتِهِ وأنَّى لكِ أن تبصريه في صباح ذلك اليوم لوجدته يمشي على الأرض ولا تكاد قدماه تلامسانها؛ يطفو من فرط سعادته وخفة روحه، توشك أحلامه أن تحمله بعيدًا إلى أعلى عمود الخيمة، ويوشك جناحاه أن يبلغاه النجوم في وضح النهار، كانت تلك النشوة تسري في عروقه فيفيض خدرٌ في جسده، هي ذكرى عزيزة جمعته بحبّه في خيام النازحين في مواصي خان يونس بعد رحلة تهجير قسرية من رفح.
يومها أخذها على غفلة ورشف رشفة إكسيريّة من فنجانها الناجي الوحيد من بيت عائلتها في رفح دون علم منها؛ ليتبرّك بلماها اللتين لا تنفكّان تبتهلان بالدعاء بعد أنْ فقدت كل الأهل والأحبة فكان الأب والأخ والزوج الحبيب.
ها هو يحلّق ويفقد سيطرته على المشي فلا يملك إلّا قدرة عجيبة على التوحّد مع سرب من السنونو وصل إلى المكان متسلّلا عبر منافذ بحر غزة المحاصرة، يرتفع شيئًا فشيئًا، إنّها بركة الأولياء والصالحين وأنّى له أنْ يبرَأَ منها..
نظر من أعلى إلى أسفل ملوّحًا بجناحه وقال:
يا بركة سيّدنا الخضر حلّي في الفضاء وابعثي مع هذه الريشة سلامي لمن قاسمتني قدحي.
جرّب مراتٍ عديدة أنْ يكتب العزيزة حتى انتهاءِ حدودِ اللغة في تعريفِ لفظ العزيزة، أو العزيزة القريبة حدَّ التعب؛ لكنّه لم يرتحْ لأيٍّ من الجملتين.
لذلك كتب: "العزيزة المباركة (وردة) وسكت، وبعضُ السكوتِ فصيحٌ وناطِق فجمع بينهما القدر".
كانت تلك الليلة الأخيرة لعاشقَين تسامرا تحت ضوء القمر من داخل الخيمة، فجأة أضاءت السماء وانشقّ القمر، فقد كان السقوط للقذائف المصحوبة بالأحزمة النارية قويًّا وصادمًا لكلّ ساكني الخيام حتى سوّتهم الشظايا أشلاء وغبارًا.
بعد عامين على الحرب وخلال هدنة قصيرة تمكنت (أمّ البراء) من الخروج عبر معبر رفح الحدودي والأوجاع تمزّق قلبها بعد أن باتت وحيدة تلتمس النجاة من نيوب المنيّة لفلذة قلبها الناجي الوحيد.
اقتربت منه فهالها المشهد، تمالكت نفسها والحشرجة تخنقها، وضعت كفّها على جبينه تتحسّس خلايا جلده فبعثت بحميم قلبها حرارة أيقظت جسده المتكسّر.
تقترب من سريره أكثر، تعيده إلى رحمها لتعيد ولادته من جديد تسكب على جروحه إكسير عيونها.
تتحسس بيديها الاثنتين بطنها المنفوخة بروحه، تتمتم والدموع تغسل وجهها:
رحماك يا ربي رحماك، يا بركة سيّدنا الخضر حلّي.
لا أريد شيئَا الآنَ الآنَ في هذا العالم بقدر ما أريد رؤيتك على قيد الحياة!
ينتفض جسده فيبدو مثل فينيق انبعث من رماده المحترق، يتنفس بصعوبة لكنّه ينجو مجدّدا.
تناقل الناس وقتها حديثًا عن غريب بعيد كان قريبًا من حلمه ذاك إلى الحدّ الذي يجعله قادرا على لمسه لو مدّ يده قليلًا بعد، لكنَّ شيئًا ما ضبابيًّا وحارقًا كطريقٍ صحراوي في نهار (النقب) انتزع وردة قلبه من أرضها إلى الأبد.
فتّح عينيه قليلًا، ورمق كل من حوله، اقترب منه الطبيب وقال: هل مررت بطريقٍ صحراوي في يوم حارقٍ مظلم من قبل؟
ردّ هامسًا: كان كيانًا ساديًّا أقصاني وانتزعني من حلمي انتزاعًا قاسيًا وغليظًا ومظلمًا.
بعد شهر رأيته على كرسي متحرّك ثقيلًا إلى الأرض كأنه الغريق يجذبه لقاع البحر قيدٌ وحجر، يطوف على ورود حديقة المشفى وردة وردة يسقيها بيده ويتعهدها بالنماء لآخر عمره!
على العموم هذا صديقي (البراء) كان طالبًا حالمًا في سنيّ دراسته الأولى، سرت نحوه فبرقت لمعة من عينيه وظهر اختلاج في ركن فمه يؤكد للحاضرين شكوكهم بأنّه عاد من الموت.
هذا من نبأ الغريب، أما عن نبأ القريب: فإنه يكتبكِ الآنَ يا فتاة الخيام وقد أرادَ أن يكتب لك متبرّكًا بلماك لكنّ آلة القتل كانت لقلبك أسرع.
في الثالث الإعدادي كنت و(البراء) نتسلل من بين الجمع كل يوم إثنين بعد درس التاريخ في مدرسة ذكور رفح الإعدادية، لنسلك الطريق الزراعي المهجورة علَّنا نصادف شبحًا أو لِصًّا أو ذئبًا، المهم أن نجد ما نحكيه في الغد التالي عن مغامرتنا الصغيرة...
مرة قابلنا قنفذًا، كانت المرة الأولى التي أصادف فيها قنفذًا في الحقيقة.
كان بنيًّا مائلًا للسواد، بأشواك مدببة وظهر محدب، اقتربتُ ولم أخَف؛ غلب فضولي مخاوفي، لازالت رائحة العشب وماء المستنقع، وصوت نقيق الضفادع تداعب ذاكرتي الفجة.
لا أعرف لماذا بالتحديد يخطر لي هذا القول الآن، لكنّه قول من جملة القول، ومادمت أحدثكم عن دواخلي وشواغلي، فلا ضرر من ذكر بعضي القديم وبعضي الجديد، ولا فرق بيني وبين صديقي المسكين (البراء) ما دامت مدافن الأسرار واحدة.
لكنّ القدر يحدثُ وأن يتغافل أحيانًا في مثل هذه الأمور، ويعطي الأشياء لمن لا يستحقونها تمام الاستحقاق بعد، لقد كان صديقي الغريب عن وطنه وحلمه وحبّه واحدًا من جملة هذا التغافل لكنّها البركة كانت قد أرخت يديها بعيدًا عن المكان فانكسر الفنجان وغابت وردة عن المكان!