الأحد ١٥ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم ضحى أحمد جواد

وسط المدينة المحاصرة

الغريب في ذلك اليوم أنَّ يافي لم يبكِ، على الرغم من أنَ أطرافه الصغيرة كانت ترتعش بشدة، ربما بسبب القصف، أو بسبب البرد، أو ربما من الجوع، إلاّ أنَّ عينيه لم تدمع!

يداه، التي أصبحت في الآونة الأخيرة خشنة، تسبقُ أيدي الكبار في لملمة حجارة بيته الذي دمرته صواريخ الصهاينة.
بحثَ بين الركام عن كتبه ودفاتره.. و"بيسان" أُخته الصغرى كانت تجمع أطراف دميتها، وتقطر من عينيها اللوزيتين دموعاً سخيّة تُبلِّلُ غبارَ الحجارة قبل أن تزيحها مفتشةً عن رأس دميتها المبتور.

"حين أجده سأسلمه لجدتي، من المؤكد ستعيد جدتي الرأس إلى مكانه"، فكرت بيسان أيضاً "فأنامل جدتي مباركة إن مرّت على الجرح تشفيه مثل ما تمررها على رأسي ورأس أخي يافي، فنشفى بسرعة مهما كُنّا محمومين."
أخذتْ خالته من بين يديه بقايا كتبه ودفاتره الممزّقة، تنهدت وهي تُعاينها: "إيه! سأحاول إصلاح ما أقدر منها." وأخذتْ جدَّته من بين يدي أخته دميتها المشوَّهة، نظرتْ فيها، قالت وهي تقلِّبُ الدمية وتحصي أشلاءها: "سأخيطها لك يا حبيبتي لا تحزني."

فتمتمتْ أمُّه، وهي تكفكفُ دمعها وتتلفَّتُ حولها تائهةً عن هذا المكان، الذي كان قبل ساعات قليلة حديقةً خضراء ندية: "آه! ومن سيخيط جروح القلب؟.. يا حسرة!"

دار يافي مع أخته بيسان يبحثان أيضاً عن الورود، والأشجار، والخضروات، التي كانت مزروعة خلف الدار في الحاكورة. فلم يجدا أيَّ لون من ألوان الحديقة الجميلة! كلُّ الألوان استحالت رماديّة!

اتسعت عينا بيسان، شهقت من هول ما فقدته: أين اختفت الياسمينة؟! اه! وأين النعنع؟!

وشجرة الزيتون؟ والأرجوحة؟!

 لم يبق شيء! قال يافي بصوت أجش وكأنَّه صدرَ عن شخص كبير؛ اِلتفتت بيسان ونظرت نحوه مستغربةً "هل هذا الصوت الذي سمعته صدر من حنجرة أخي يافي؟!"

اِنحنى يافي واِلتقطَ من الأرض غصناً لا لون له، عارٍ من أوراقه الخضر، مسلوب حبات الزيتون. تأمّله بحزن، ثمَّ راح يرسم به على التراب وجهاً اِشتاقه كثيراً، علَّ معجزة تبعثه من جديد، فما أحوجهم الآن إلى المعجزات!

اقتربت جدَته منه وجلست قبالته على كومة الحجارة تراقبه وهو يرسم.. ولمّا اكتمل رسم وجه ابنها الشهيد على الأرض، فتحت ذراعيها ونادت على يافي.. فرمى الغصنَ جانباً، وارتمى في حضنها كما يرتمي عصفور في أجمة طافحة بالزهر.
تلبّدت عيناها وسكبت ماء قلبها؛ سال حاراً على وجنتيها المُسمرتين، وهي تضمه لصدرها، وقلبها المتعب يخفق بسرعة.. تمنى يافي لو يبقى طوال العمر في هذا الدفء؛ غلَّ وجهه المحتقن بثوبها الذي تنبعثُ منه رائحة الخبز والحبق. لم يشأ رفع رأسه عن صدرها الحنون. قالت له وهي تمسح على رأسه، وتنساب يداها التي نحتتهما السنون بأناةٍ، في شعره الكستنائي المموج: "ارفع رأسك"

رفع يافي رأسه الصغير.

سألته: "اشتقتَ لوالدكَ، أليس كذلك؟"

هزَّ يافي رأسه دون أن ينظر إليها وغصّةٌ قاسية تسدُّ حنجرته وكأنّها حجر.

رفعت رأسهُ للأعلى بلطفٍ، وأشارت نحو السماء: "أترى يا بن بِضْعَة قلبي هذه الشمس؟

والدكَ الشهيد مثلها لا يخفتُ نوره، يشعُّ إلينا أبداً شرفاً وعِزّة، وينشر في الدنيا كلها حكايات بطولة وفداء تسكن في القلوب وتمنحها الحياة."

فتح يافي عينيه وشعّت فيهما جوهرتان عسليتان، وابتسم وجهه برِضاً ملائكي جميلٍ جداً!

قبّلتهُ، وطلبت منه أن يعطيها ذلك الغصن.

أسرع يافي وناولها الغصن، فاتكأت عليه كي تنهض. استغرب يافي "هل أصبحت جدتي عجوزاً ؟!"

كيف كبرت جدَّته بهذه السرعة؟! فقبل ستة أشهر، قبل أن يستشهد والده، كانت جدَّته "تمشي مثل الصبايا، ما شالله!" على قول أمه.

أمّا الآن فقد تقوّس ظهرها، وتغضَّن وجهها.. وها هي تتخذ من ذلك الغصن عكازاً تتّكِئُ عليه!

"آه يا زمن!" زفرت بحرقةٍ وهي تنهض.

في عصر ذلك النهار، سمع يافي صياح أولاد الحي ينادونه كي ينضم إليهم. نظر إلى أمِّه دون أن يطلب منها شيئاً، فهو يعرف أن الوقت غير مناسب للّعب.

ابتسمت له وهي تجيبه من دون أن يطلب هذه المرة: "اذهب واِلعب معهم."

ثم أردفت من خلفه الجملة، التي ستقولها مهما منعت نفسها من قولها: "كن حذراً ولا تتأخر!"

حمل يافي بين يديه كرته المثقوبة وأسرع إليهم..

رمى الكرة، نزلت ثقيلةً على الأرض، أخذت شهيقاً عميقاً، لكنَّ زفيرها أفسد كلّ شيء!

خجلت الكرة من ثقلها، وأرادت أن لا تكون هي أيضاً عبئاً ثقيلاً على أولاد غزّة، كفاهم ما يحملون كلَّ يومٍ من أعباء الكبار من نتح المياه ونقلها، وتكسير الحطب، والمساعدة في إشعال النار، فحصار مدينتهم سلبهم كل مظاهر "الحضارة"!
وعندما ركلها يافي بقدمه القوية، طارت! ثمَّ حطَّت على قدم ولد آخر، ومن قدمٍ إلى أخرى نسيت ثقلها وصارت سعيدة. ومع تعالي هتافات الحماسة والمرح ظنَّت نفسها في ملعب دولي تتقاذفها أرجل الاعبين المحترفين؛ وحلَّقت منتشيةً خفيفةً في الهواء.

ياه! من أيقظها من سكرتها هذه؟

دوي صفارة الإنذار جعلها تهبط اضطرارياً إلى الأرض، وتعود كما كانت ثقيلة كصخرة حزينة!

حملها يافي وركض إلى المأوى، اِلتجأ إليه مع الأطفال والنساء والعجائز، ممن تحولت بيوتهم أيضاً إلى ركام. تكوّم مع أخته وبقيّة الأطفال تحت غطاءٍ واحدٍ، عبثاً حاول أن يصمَّ أذنيه عن عواء الصواريخ، الذي ملأ المكان رعباً من حوله..

لكنَّ شيئاً من الطمأنينة سرى بداخله وكأنّ أحدهم همس له في أذنه، فابتسم وأغمض عينيه وغفى، هو يعلم أنَّ عيون المقاومين، رفاق والده، لن تغفل عنهم، ستبقى ساهرةً، تذود عن المدينة، تحرسهم، وتردُّ ما تقدر من الأذى عنهم.
في الصباح، كما كلّ الصباحات المعتادة في العالم، أولادٌ يذهبون إلى المدرسة، وأولاد الحصار يذهبون أيضاً!

وضع يافي في محفظته ما تبقى من كتبه الممزّقة، أمَّا المكان المخصصُّ للطعام فبقي فارغاً، لم يأبه يافي لذلك؛ بل خرج ممتنّاً لطريق مدرسته المخلص.

مشى يافي إلى المدرسة ترافقه صغار العصافير ترقص فوقه في السماء بمرح طفولي نظر إليها فانتقلت إليه عدوى السعادة، وتذوق بطرف لسانه طعم الحرية، ياه! من أحلاها!

في المدرسة، اقتصرت الدروس على حصص: الرياضيات والعلوم واللغة.

في الحصة الأخيرة، قرصَ الجوعُ معدةَ يافي بشدةٍ، فوضع يديه فوق بطنه الخاوي وضغطها بقوة، ليوقف بطنه عن تذكيره بلفافة خبز شهيّة، ما هذا الإزعاج ألا يعرف أن الخبز صار من الأحلام البعيدة؟!

اِنتظر يافي بفارغ الصبر أن تهزّ أيدي المدرس الجرسَ معلناً انتهاء الدوام، ولم يكن يدري أنَّه ليس الوحيد الذي كان ينتظر، فهناك أيدٍ وحشيّة في الطرف الآخر، تنتظرُ هذا الموعد أيضاً!

دُقَّ الجرسُ، وهمَّ يافي بالخروج مع زملائه، فاستوقفه صوت المعلم: "يافي، اِنتظر قليلاً.."

مضى يافي مع أستاذه إلى مستودع الكتب. وهناك راحا يبحثان بين الكتب القديمة عمّا يمكن أن يعوّضه عن كتبه التي فقدها.

وفي تلك الأثناء، فتحت أجسادٌ أفواهها متعطّشةً للدماء والخراب، وراحت تزعق وتزعق.

سقطت رسائل حقدها الصهيونية في عدَّة أماكن وسط المدينة المحاصرة؛ لهبٌ تطاير ودَوّت انفجاراتٌ ضخمة، وعلا الدخان والغبار وطال أطراف السماء؛ شعر يافي أنَّ الدنيا زُلزلت من حوله، وأنَّ مدرسته انقلبت رأساً على عقب؛ قفز قلبه الصغير من مكانه؛ وأحسَّ أنَّ كلَّ زجاج النوافذ وخزَ جسمه الغض.

وما إن استوعب ما حدث، حتّى انطلقت قدماه إلى الخارج تسابق الريح..

لحق به المعلم منادياً: "يافي توقف! يافي! انتظر حتى يتوقف القصف..."

لكنَّ يافي ظلَّ يركض ويركض.. رأت عيناه ناراً ودخاناً.. دماراً ودماءً.. وتعثّرتْ قدماه بالكثير من صغار العصافير التي سقطت على الأرض هامدةً بلا حراك، حاول جاهداً أن لا يدوس عليها اعتذر منها وتخطّاها، فليس لديه وقت ليجمعها ويدفنها في التراب تحت شجرة توت أو عند جذع زيتونة، قلبه الآن ينبض بقوة كقلب حصان، عليه أن يسرع!

وصل إلى المأوى، الذي صار قبل أن يصل إليه خراباً، توقف يلتقط أنفاسه كأنفاس ظبي صغير مذعور نجا تواً من ملاحقة عشرات الوحوش المفترسة. بحثَّ بعيون قلقة؛ وَجدَ أخته تبكي خائفةً تبحث عيناها عن شيء ولا تجده، بدت وحيدة ضائعة في هذا العالم الكبير جداً المملوء حتى التخمة بالبشر!!

ركض إليها، قالوا له أنَّ أمَّه بخيرٍ لقد أخذت جدته _

ثمَّ انقطعَ الكلامُ، لم تجب وجوه الناس القلقة الواجمة عن سؤاله الذي خاف أن يسأله، إنَّما عينيه وجدت الإجابة.

رأى غصنُ الزيتون، الذي اتخذته جدَّته عكازاً، وجده وحيداً مسجّى على الأرض مدمىً.

اقترب ببطءٍ منه، انحنى واِلتقطه، أمسكه مازال ساخناً! لم يشأ أن يتركه؛ شدَّ قبضته عليه اصطبغ كفُّه بحمرة الدماء؛ تذكَّر وجهَ جدَّته المنير، وحضنها هل يوجد في الدنيا أدفأ منه؟! يديها الحانيتين، وصوتها وهي تحدثه عن ابنها والده الشهيد؛ فامتلأ قلبه الصغير بأشياء كبيرة جداً وراح يمتلأ ويمتلأ حتى شعر أن قلبه لم يعد يسعها!

رفع الغصنَ بكلتا يديه عالياً إلى أقصى ما يستطيع، ثم هوى به بغضبٍ، وبقوة أعتى محاربٍ غرزه عميقاً في صدر الأرض. صرخت الأرض، أم هي صرخةٌ كانت من السماء؟!

اختلطت الصرخات أبرقت السماءُ وأرعدت، هطلَ مطرٌ غزير؛ وتفجَّرت سماءُ عينيه العسليتين وأغدقت ماءً امتزج مع المطر وسال بغزارة إلى التراب..

تشرَّبَ الغصن كلّ قطرة ماء من حوله، وامتصَّ أرواح تلك الأرض روحاً روحاً وتجذَّرَ فيها يوم بعد يوم.

صار الغصن ينمو، ويافي يسبقه بالنمو..

شبَّ يافي وتجلّت فيه ملامح والده؛ لم يتخل عن أرضه.

ظلَّ يحرسُ الغصن، الذي غرسه في الأرض، حتى أورقَ وصار شجرة زيتون، مازالت راسخة وسط المدينة كبيرةً وارفة تجلس الأمهات في ظلّها، ويتأرجح الأطفال على أغصانها الخضراء أبدا، لثمارها لون الشهادة ولزيتها نكهة الأرض المشبّعة بطعم الكرامة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى