الأحد ٨ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم أحمد محمود عبد المجيد

وظيفة

ترمقني أمي بنظراتها المعتادة، وتتبعها ببنت الشفة التي تعودت عليها"بطريقة دي ما بتتوظف". تبدو الأجواء في منزلنا قاتمة في ذلك اليوم، الجميع في صمت مريب، وكل يخالج نفسه. تجمعنا مائدة عشاء فاخرة بها أكثر من اثنا عشر صنفًا من الطعام، يشوبها هدوء مريب، لا تسمع فيه إلا قرقعة الملاعق، معبرة عن التفاعل بيننا وبين الإناء الذي نأكل فيه.

هكذا أمي دائمًا عندما تغضب، تطبخ لنا طعامًا كثيرًا، بل تقضي جل يومها في المطبخ، أو بالأحرى أنها تطهي كل مدخر طعامنا الأسبوعي في يوم واحد. أمي التي ربتنا أنا وإخوتي الأربعة دون أن تلين لها ذراع أو ينحني لها جبين، وقد أفلت لها أبي حبل تربيتنا وأنا ابن العاشرة، لا زلت أتذكر ذلك اليوم، يوم كأنه يوم القيامة في وصف أمي، يوم أن هاج الناس مهرولين من هول الموقف، انفجارات في كل مكان، طائرات تحلق، وهزيم مدفع كثيف يشبه الرعد في قرقعته، عويل نساء وصراخ أطفال، وبهائم تصول وتجول، تحاصرها النيران من كل مكان. كنا مستلقين على الأرض، وأبي يندفع مسرعًا بيده قنينة ماء، محاولًا إطفاء النيران التي طالت جدران المنزل. ثم استلقى مثلنا بعدما دخلت شظايا إلى منزلنا، ولكنه لم يحرك ساكنًا بعدها. آخر ما أتذكره دخان أسود اعتلى كل أركان البيت، وصراخ أمي وتربيت يدها على صدر أبي. أغمضت عينيَّ واستيقظت في مكان آخر، أكواخ صغيرة، جدرانها من البلاستيك المقوى، منصوبة على شكل هندسي واحد، مجتمعة على أبعاد متساوية في مساحة رحيبة واسعة. كنت أخطو بقدام ثقيلة، محاولًا فهم ماذا حدث. صفارات إنذار، نحيب نساء وصراخ أطفال، عربات تحمل شعارات لمنظمات دولية، وشباب يرتدون أزياء متشابهة يوزعون وجبات معلبة جاهزة، وحشود لقنوات إخبارية كنت أراها في التلفاز. حركوا حفيظتي واتجهت نحوهم لعلي أفهم ماذا حدث.قال أحد المراسلين، وهو ينظر للكاميرا:"الغارات كانت تستهدف إرهابيين تسللوا إلى المنطقة، وتم تحديد مواقعهم بدقة بينما يرى محللون معارضون للحكومة أن ما حدث هو محاولة تطهير عرقي، خاصة أن المنطقة منطقة حدودية متاخمة لمعاقل التمرد والحركات المسلحة".

لم يستفزني من خطاب المراسل إلا عبارة"تم تحديد موقعهم بدقة"، فاتجهت مهرولًا نحوهم وأنا أصيح:"لم يكن ببيتنا إرهابيًا ولا ببيت جيراننا، حتى يتم قصفنا !". ولكنهم لم يبالوا بي، فقررت منذ ذلك الحين أن أصبح مراسلًا لأخبر العالم بأن المئات لقوا حتفهم جراء ما حدث، أخبرهم أن الآلاف في العالم من الأبرياء يقصفون بتهمة أن بينهم إرهابيين. سمع أحدهم صياحي واتجه نحوي، أتذكر أنه كان شابًا طويل القامة، أبيض البشرة، يرتدي قبعة ملونة. سألني بلهجة لا أعرفها، ونظر للبطاقة التي كانت في عنقي، بطاقة لا أدري من البسني لها، ثم أخذني متجهًا نحو إحدى الأكواخ. هناك حيث التقيت بأمي وإخوتي الأربعة، كان الحزن يكسوهم، وترخي عليهم الكآبة سدولها، تحيطهم عطاءات كثيرة ، حلوى متباينة الألوان، لا أحد يقترب منها، لم يعيروها انتباههم، بل لم تغريهم كما تفعل حلوى أبي التي نتنازع عليها. مضت تلك الأيام الثقال وها أنا ذا كما كنت اعرف نفسي دائمًا، ابن الخامسة والثلاثين حربًا ، حاملًا لشهادة الإعلام والعلاقات العامة، ولكنني لم أوظف. أمي ما زالت تكرر عبارتها المعتادة:"بطريقة دي ما بتتوظف".

انتهيت من العشاء واتجهت نحو غرفتي ولم ألفظ بحرف. أطفأت النور، وأغمضت عينيَّ محاولًا استدعاء النوم، ولكنني لم أستطع. تنازعني نفسي وتلعب بي بنات أفكاري. هل أغضبت أمي؟ كيف أراضيها؟ أمي التي كانت تعتز بأبنائها الأربعة الذين توظفوا من أول مقابلة إلا أنا. قضيت ليلة كاملة وأنا أسامر نفسي، طال بي الأرق وتأرجح بي الليل كيما يشاء، حتى سلمني لجيوش الصباح. غسلت وجهي من قسمات الغفوة التي اعترتني، جمعت أوراقي المتناثرة في فضاء الغرفة وخرجت مسرعًا. لكني تركت رسالة على المنضدة لأمي، كاتبًا فيها:"صباح الخير أمي، بل أنت خيرنا الدائم في كل صباح. أعلمي يا أمي أني سأذهب اليوم إلى مقابلة في إحدى الوكالات الإخبارية، وأعدك أني سأعود منتصرًا موظفًا. لكني أريد أن أخبرك أني في كل مرة كنت أرفض بسبب المبادئ التي غرستيها فيني يا أمي. يوم أن علمتيني أن فلسطين مني وأنا منها. فأنا عربي ولا أرضى أن أعمل في وكالة تقف موقف الحياد في القضية الفلسطينية. عشت يا أمي تحت القصف يومًا واحدًا، يوم أن فقدت أبي، ولكن غزة تعيشه كل يوم. كل يوم هناك نساء وأطفال تحت الأنقاض، هناك شهداء وجرحى وأسرى لا صوت لهم ولا ذنب سوى أنهم ينتمون لفلسطين. ولكني رغم ذلك أعدك أني سأعود منتصرًا موظفًا يا أمي".

ركبت السيارة، ونفسي تنازعني ماذا لو كانت هذه الوكالة تشبه غيرها من الوكالات الرأسمالية؟ أزيح زجاج النافذة متناسيًا الموضوع. يعيدني السائق للفكرة بمحرك الراديو الذي انطلق منه صوت المغنية اللبنانية جوليا بطرس في أغنيتها للمقاومة:

الحق سلاحي وأقاوم
أنا فوق جراحي سأقاوم
أنا لن أستسلم، لن أرضخ
وعليكِ بلادي لا أساوم
بيتي هنا أرضي هنا
البحر السهل النهر لنا
وكيف بوجه النار أساوم؟!
سأقاوم.

تراودني نفسي أحيانًا باللامبالاة فأنا مجرد إعلامي، لكني سرعان ما أتذكر الإعلامية الشهيدة شيرين أبو عاقلة التي أغتيلت في الضفة الغربية ليكتم بها صوت الكلمة ويحيلوا بينها وبين إصال الحقيقة. أتذكر معاناة الإعلاميين وقهرهم بيد من يرتدون ثياب الديمقراطية ويدعون لإستقلالية الصحافة وحرية التعبير.

يوقف السائق محرك العربة في المكان الذي طلبت منه، أترجل منها لأجد نفسي أمام مبنى شاهق كأنما يضاهي السماء طولًا، في مدخله شاشة كبيرة بها توجيهات كان بينها"المتقدمون للوظيفة المدخل رقم 4". كان المدخل ذو إضاءة ذاتية، كأنه نسج من شعاع الشمس، مبعثر عليه ورود متفرقة. انتهى بي المطاف في غرفة استقبال باردة، كأن جدرانها من ألواح ثلج، بها موظف استقبال ذو كلمات محدودة. ما إن انتصبت أمامه حتى قال:"الأوراق"، وشار علي بالجلوس. قام بملء بياناتي، ثم رفع رأسه وقال:"أجبني، اسم الوظيفة التي تتقدم إليها؟"أجبته كما جاء في الإعلان:"مراسل ميداني".

ماذا تعرف عن الإعلام الحربي؟ أجبته بإسلوب مهني"الإعلام الحربي هو استخدام وسائل الإعلام في تغطية الحروب والصراعات العسكرية وتوثيق الأحداث وتقديم صورة واضحة لها". نظر إلي لبرهة ومص شفتيه، وقال:"نحن نقطي جميع القضايا، أبرزها القضية الفلسطينية، ما رأيك في القضية الفلسطينية؟"صعقت، وكادت بؤبؤتا عيناي أن تخرجا، لم أتوقع سؤالًا مباشرًا كهذا. نفس النقطة التي دائما ارفض فيها ، تذكرت أمي وكلمتها المعتادة، أصابتني غصة، لاح لي خيال أبي الذي قتل بدون ذنب، وانتشال الأطفال من تحت الأنقاض. تلعثمت، ربتُّ على صدري، نزلت دمعة من عيني، ثم رفعت رأسي وقلت بنظرة حادة وصوت جهور:"سجل فلسطين أمي و وطني حيث ديني ولو بزغ الأقوام بكل أرض بزوغي حيث معتقدي وديني". أومأ برأسه للأسفل، رمقني بنظرة كأنظرت أمي، ثم صمت برهة وابتسم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى