الاثنين ٢٧ آذار (مارس) ٢٠٠٦
بقلم نعيم عودة

وما زال أبو العبد حيّا

انقضت ثلاثون سنة وهو في غربته القسرية.. ثلاثون سنة انسلخت من شجرة العمر التائه في الأوهام.. ثلاثون سنة محمّـلة صباح مساء، بكلّ ألوان الطيف الحزين المؤمّـل في عودة قريبة ذات يوم.. إليها، والرؤى الخضراء تمتـدّ على مـدّ النظر، والبساط السندسي الذي لا ينتهي يجول به ابتداء من قريته سابحا حتى يصل إلى يـافــا.. ويافا حزينة، لقد بحّ صوت النداء.

العائد- توقف هنا ! توقف هنا أيها السائق !! أريد أن املأ عينيّ من رؤى الجنة، أريد أن أملأ رئتيّ من عليلها. هنا أيها السائق ومن على هذه التلّة كنا نقف لنلقي نظرة على القرية في الصباح الباكر.. ونحن سارحون إلى الحقول.. كنا نرى الشمس في مهدها ترسل أشعة بيضاء ثم ترفع حاجبيها من فوق أمواج البحر الأبيض، ويافا الحبيبة تنفض عن ثغرها آهات النوم، ومن شفتيها المزدانتين بألوان الزهر تندفع موجات من عبق البرتقال والليمون.

أيها السائق، أما زلتم تذوقون طعم برتقال يـافــا؟

من هنا كنا نرى وادي (كانا) الأخضر، ها هو يمتدّ على أطراف القرية الناعسة، كم كنا نسعد يوم نأتيه.. أشــجار الزيتون.. التفاح.. عرائش الكرمة.. كلّ الوان الخضار التي تشتهيها النفس.. طيور الشنّار والدرّاج والقطا.. والنبع الذي يفيض في الجدول الرقراق.. يسقي الشجر ويروي العطاش.. غابة وحديقة في آن.

أيها السائق.. أما زالت صبايا القرية يحملن الجرار على رؤوسهنّ ذهايا وإيابا إلى حيث النبع؟ والشباب الذين يصفرون من بعيد؟ آه.. بانوراما حقيقية، جميلة. ثلاثون سنة من عمر الضياع، واليوم أعود. بانوراما.. أليس كذلك أيها السائق؟

السائق – لقد عدت متأخرا. فقد سافر الزمان واتخذ قطار النسيان رفيقا.

العائد – تبدو متعبا أيها السائق.. هيا بنا.. خذني إلى بيت أخي (أبو العبد)، سيفرح عندما يراني، لن يصدّق عينيه، سيشعر أنه

في حلم جميل. سأقبّل يده فهو في مقام أبي، في مثل هذا الوقت من كل يوم كان يدور حول بيته يسقي الحديقة ويشذّب

الأغصان ويعلف الدجاج ويجمع الحشيش ليطعم الأرانب. لا يغيّر عادته أبدا.

السائق – هذا هو بيت أخيك.

العائد – هــذا!! إنه يبدو مهجورا!! أين شجر اللوز؟ أين هي شجرة التين التي كنت أرتقي؟ أين أبو العبد؟!

السائق – هناك تحت العريشــة.

العائد – لا يمكن، هذا أبي! لا.. لا أبي مات منذ زمن بعيد. واندفع كالسهم الضالّ نحو العريشة، وقف أمام الشخص الماثل أمامه، رجل في أخريات سنيّه.. يجلس في كرسيّ خشبيّ عتيق..

رفع أبو العبد عينيه الكليلتين نحو العائد.. لم يستطع أن ينهض فمدّ يديه مرحّـبا.. وبسط على صفحة وجهه ابتسامة باهتة.

أبو العبد- أهـلا بالضيف.

العائد – أنا العائد.. أنا العائد.. ألا تقف فأحضنك. وتلقف يديه يقبلهما بينما غطّت سحابة سماءهما وانهمرت دموع.

أمقعـد أنت يا أخي؟

أبو العبد – أنا مقيم هنا مذ غادرتني أيها العائد.. هذه العريشة هي مقامي طيلة النهار، فإذا جنّ الليل نقلوني إلى غرفتي.

لشــدّ ما لاقيت بعدك من عنــت.

العائد – أين إبهام يدك؟ ماذا جرى لإبهامــك؟

أبو العبد – دفنته هنــا. وأنا أجلس فوقه منذ حينئذ.

العائد – إبهامك.. إبهام يدك مدفون هنــا؟

ابو العبد – إن لم أجلس فوقه طيلة نهاري، ولم يحرسه كلبي طيلة ليلي، فإنهم سيأخذونه.

العائد – يأخذونه !! من هم الذين يأخذونه؟

أبو العبد – المنافقــون، وهم كثير.

ألقى العائد نظرة نحو السماء، وتمتم بعبارات مبهمة، ثمّ أدار رأسه ناحية البيت. شاهد أم العبد تتقدم أبناءها الشباب.

العائد – أكاد لا أصدّق عــينيّ.. أأنـا هنا حقا؟

أم العبد – أنت هنـا أيها العائد، ولكن الزمن هو الذي لا يعود.

ناموا تلك الليلة في القرية.. وكان الكلب يحرس إبهام صاحبه، حـتى إذا أصبح الصباح أفاقوا.

زيت زيتون.. جبنة بلدية.. زيتون أخضر.. زيتون أسود.. بيض بلدي.. بصل أخضر وفجل أحمر.. فطـور أهل القرية.. ما أطيب رائحــة الأرض!!

العائد – يا أخي. يا بقية من ميراث أبي. أريد أن ازور وادي ( كـانـا ) فهناك ذكريات الطفولة.. أريد أن أستعيد صور الأيام وأن اقتلع الجزر من الأرض وأغسله في النبع كما كنت أفعل.

أبو العبد – يا بنـيّ. خذ عمّك إلى وادي كـانـا ليرى كيف يسافر الزمان ولا يعود.

اقترب من الوادي.. رائحة التفاح لا تفوح في البعيد، زقزقة العصافير لا تملأ الفضاء. واقترب أكثر فأكثر.. بطـن

الوادي أجرد.. الأشجار التي كانت تملؤه خضرة استحالت صفراء شبه ميتة. أين الصبايا! أين الجرار ! أين ماء النبع؟

الشاب – لقد حـوّلوا مجاري المستوطنة لتصبّ في وادي (كانا)، وها هو كما تراه مهجورا. لا خضرة ولا ماء ولا عصافير ولا صبايا. نزحوا جميعا مع الزمان الذي لا يعود.

العائد – (استدار نحو اليسار): هناك أرض عباس.. أين أهلها؟ لا تقل لي هجروها أيضا!

الشاب – هجــروها قســرا.

العائد – من الذي أجبرهم؟ لا تقل لي الزمان !

الشاب – ذات ليل، وصلت الجرافات إلى أرض عباس، كان الناس نياما، بدأت الجرافات بعمل حفر سطحية ألقت فيها براميل تحوي موادّ غريبة، ومنذ ذلك اليوم والأمراض السرطانية تنتشر بين الشباب الذين اعتادوا أن يمـروا منها.

ولم يعد أحد يمـرّ من هناك.. من يستطيع أن يمر ّ من بين أنياب الموت؟ أما صاحبك عباس فلم يمت بالسرطان

لكنــه مات قهـــرا. كثيرون ماتوا قهرا !! ألم أقل لك يا عمّ إن الزمان ينزح ولا يعود؟

كان المساء حزينا.. العائد ينظر في وجه أخيه، ثمّ يلقي نظرة على إبهامه المفقود، ولا يجرؤ على السؤال. ضحك أبو العبد وقال : أيها العائد. يا أخي. شــرّ البلية ما يضحك.. سأجيب عن سؤالك الذي يدور في قلبك.

أرضنا الواسعة التي تعرفها، أرادوا شراءها فرفضت. دفعوا أموالا طائلة فرفضت. هددوني بالقتل ورفضت. وأخيرا جاء المنافقون ذات ليلة، أوثقوني وكمموني وأخذوا إبهامي معهم وغادروا. ســلموه للسلطات فبصموا به على أوراق بيع أرضنا. تصــوّر.. بصموا على الأوراق بإبهامي وأنا مقيم هنا في بيتي.. تصوّر! بصموا بإبهامي هناك وأنا هنا!! ويوم المحاكمة طلبت منهم أن يحضروا الشاهد على فعلتهم. طلبت إبهامي وربحت القضية.

أما زلت تعجب لماذا أحرس إبهامي ليل نهار؟

العائد – هل عاد الذاهبون إلى مدريد؟

الشاب – يا عمـاه، يا عمـاه !

العائد – بماذا عاد الذاهبون إلى شرم الشيخ؟

الشاب – يا عمـاه، يا عمـاه !

العائد – إنكم تحرثون في البحر.

وســــاد ســكــون

تململت أم العبد في جلستها ثم اعتدلت وقالت:

أم العبد- لم تسأل عن صديق طفولتك – عيد-؟

العائد – لقد أضاعت المأساة نصف عمري يا أختاه.

أم العبد – يحسن بك أن تسمع قصة صديقك من أخيك.

العائد – أفيها من المآسي ما هو أكثر من إبهام أخي؟

أم العبد- فيها، وما أدراك ما فيها.

أبو العبد – صديقك عيد أيها العائد تزوج مبكرا وأنجب أولادا وبنات.. شبّوا وكبروا، بنى بيتا ريفيا جميلا في وسط أرضه، يحرث ويزرع، وفي المساء يعود إلى البيت، تأتيه ابنة عمه بإبريق الوضوء فيتوضأ ويصلي المغرب ويجلس بين أفراد أسرته يتسامرون..

وكما فعلوا بي.. أرادوا شراء أرضه، فرفض، هددوه فرفض، ساوموه فرفض. استولوا على الأراضي المجاورة وسدوا عليه المنافذ والمداخل والمخارج فصبر، وذات مساء..

دخلت عليه صبية حسناء من الجيران تطلب اللجوء السياسي عنده، تعجب..

عيــد – أيتركونك وأنت على دين آخر؟

الصبية – إني الجأ إليك، ولن يجبرني أحد على شيء.. تذكر أننا نعيش في دولة الديمقراطية
والقانون. أريد أن أتّبعك وأن أكون لك.

عيد- إني أخشاهم فهم يحيطون بي من كل جانب.

الصبية – سأطلب لك الحماية من صباح غد.

عيد – أو تفعلين كل هذا ! ولماذا؟

الصبية – نحن أصحاب مبادئ وسأقاتل من أجل تحقيق مبادئي. ثمّ إنني أحبك. أراك في المساء وأنت تحمل الإبريق وتتوضأ فينشرح صدري.. هل أقول أكثر من هذا؟

عيد – لا، لا تقولي شيئا. سأهزمهم جميعا بك.

وفي الصباح كانت تقف بجانبه أمام القاضي.

القاضي – ما هو المهر المقدم؟

الصبية – لا شئ يا سيدي القاضي.

القاضي – وما هو المهر المؤجل؟

الصبية – قطعة الأرض التي عليها البيت يا سيدي، هذا ضمان لمستقبلي ومستقبل أبنائي منه.

ويكتب القاضي (قطعة الأرض رقم ---- حوض رقم ---- لصالح الزوجة مريم إيشاي
عند الطلب)

ابتسم عيد ابتسامة المنتصر وأخذ نسخة من عقد الزواج، بينما اختطفت مريم إيشاي النسخة الأخرى، وخرجا من باب المحكمة إلى الشارع.

الصبية – ايها العربي، أنت طيب.. ولكنك لا تستحق هذه الأرض. بإمكانك أن تخلي البيت والمكان وتغادر خلال أربع وعشرين ساعة. ولوّحت له بعقد الزواج واتجهت إلى بيت أهلها.

العائد – وهل مات قهرا هو الآخر؟

أبو العبد – لا إنه ما يزال حيـا يجوب طرقات القرية مجنونا.

العائد – قلبي.. قلبي!!

واستطال العويل ذاك اليوم حتى افترش دروب القرية ولوّن منازلها بالحزن العميق.

انتهت


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى