الأحد ٢١ أيلول (سبتمبر) ٢٠٢٥
بقلم كفاح الزهاوي

وهج لا ينطفئ

كان الصمت يلتفّ حوله كأفعى تتربص بلحظة الانقضاض، يداهم حلمه الذي غدا نبراسًا للحرية والعدالة، ويخنق قصائد آماله قبل ان تلوح في الأفق الضبابي. لم يكن يعنيه ما يملكه من جسد أو متاع سوى أنه وسيلة للتضحية، فقد كان يحمل فكرًا متّقدًا يتنفس وجع المظلومين، ويصرخ بصمت في وجه السفاكين.

وفي الضفة الجسدية من حياته، كانت مرارة التجربة تصارعه، ومرض الجسد يطارده كالشبح، يتسلل بين أحشائه ويعبر ممرات الدم. فقد كرّس هذا الجسد بالكامل من أجل قضية آمن بها حتى النخاع. أما الفكر، فكان هو النور الذي يقوده، والوسيلة التي بها يسعى لتحقيق الأهداف. تسلّحه بمبادئ راسخة وإيمان لا يلين مكّنه من الوقوف منتصبًا في مواجهة الأهوال، رغم ما كان ينهشه من الداخل.

عندما أحس أن أنياب الشر تحف به، والخطر يتربص عند كل زاوية، هبَّ مسرعًا استعدادًا للرحيل قبل الوقوع في الفخ كفريسة سهلة في فم الوحوش. فكانت ساحته قمم الجبال ووديانها، وهناك وجد نفسه في صفوف الأنصار ليكمل مسيرته في وجه العاصفة.

لم يعد العمل السياسي السري ممكنًا، فالمطاردة اشتدت. كانت القوات الأمنية تداهم البيوت بلا رحمة، تقتحمها في الليل كما لو أن الظلام نفسه صار شريكًا في المطاردة.

بعد سنوات من تواجده في قواعد الأنصار، خضع لعملية جراحية دقيقة في ظهره، حيث كانت أكياس مائية تضغط على عموده الفقري. لم تكن الجراحة ناجحة، فانفجرت تلك الأكياس وتسببت له بعجز كامل عن الحركة من وسطه إلى الأسفل.

لم يعد جسده يستجيب، واشتدت معاناته الداخلية كعاصفة لا تهدأ. صار طريح الفراش، شاحب الملامح، لكن في أعماقه ظلّ لهيبًا صارخًا يتّقد، تمتد ألسنته نحو العلا، متحديًا حدود الجسد.

حين خذله الجسد، لم يتراجع العقل. وحين خفت الصوت، ظلّ الفكر يصرخ في صمت.

دخل في غيبوبة الكفاح استمرارًا لدوره النضالي المتفاني الذي لا تواريه الرماد لتحقيق أهداف إنسانية طالما وهب حياته قربانا ليجعل منها جسرًا يمنح العابرين الشعور بالأمان نحو أهداف إنسانية طالما حلم بها.

الضوء الخافت المتسلل من أبواب السماء كان يمنحه نبضًا للتحدي، فقد كان كائنًا شديد البأس، اعتمد في مسيرته على ما يحمله في جمجمته من وهج لا ينطفئ.

لم يكن اليأس خصمًا قادرًا على اختراقه. كانت إرادته جدارًا من صخر، لا تهزه أعاصير البحر ولا تغرقه أمواج العزلة. ظلّ واقفًا، شامخًا، كأنما الجسد لا يعني شيئًا أمام صلابة الروح.

كان حميد إنسانًا هادئًا، متواضعًا، خطاطًا يتقن التنظيم والتصميم، ويمنح الأشياء من حوله ترتيبًا يحمل بصمته الخاصة.

لاحقًا وصل إلى السويد، كأنما يبحث عن هدنة لجسده المُنهك، بعد سنوات من الإهمال والمعاناة. ورغم كونه جليس الكرسي المتحرّك، فقد أدار شؤونه اليومية بنفسه، متحديًا قسوة الحياة بابتسامة لا تنكسر.

تزوّج من امرأة رائعة، لم تتخلّ عنه يومًا، كانت له سندًا في لحظات الانطفاء، ورفيقة في أيام الضوء. لكن السعادة، كما لو أنها كانت تخشى البقاء، لم تطل كثيرًا.

في أحد الأيام، وبينما كان حميد يجلس في كرسيه الأبدي، داهمه ألم مفاجئ، كأن الجسد قرر أن يُعلن استسلامه الأخير. كان يناهز الثانية والخمسين من عمره حين اقتيد إلى المستشفى، عمرٌ لا يُعدّ متقدمًا، لكنه كان كافيًا ليكتب النهاية. أُجريت له العلاجات، لكنه ظلّ مستلقيًا في ردهته الخاصة، يراقب الضوء وهو يتسلل من النافذة كعادته.

حين نادى الممرضة كي ترافقه لقضاء حاجته، بدا كل شيء عاديًا. لكن الوقت مرّ، ولم يخرج.

فتحت الباب، فوجدت الصمت قد احتضنه إلى الأبد. رحل حميد، تاركًا وراءه نافذةً لا تزال تسرّب الضوء، وكرسيًا لم ينسَ جلسته الأخيرة.


مشاركة منتدى

  • شعرية السرد وتحديات البطل
    قراءة في "وهج لا ينطفئ" للقاص كفاح الزهاوي

    يقدّم القاص كفاح الزهاوي في قصته وهج لا ينطفئ نصًا سرديًا يقوم على تداخل المستويين الفردي والجماعي، من خلال معالجة سيرة شخصية "حميد" الذي يمثل نموذجًا للبطل المناضل في مواجهة المرض والمنفى والموت. وبذلك ينتقل النص من تسجيل تجربة فردية إلى إنتاج صورة رمزية تتصل بالهمّ الإنساني والوجودي العام.

    منذ افتتاح القصة، يلاحظ القارئ أن النص ينطلق من صورة "الصمت ـ الأفعى"، وهي دالٌّ رمزي يعكس حالة المطاردة الوجودية. فالجسد هنا يتحول إلى ساحة استنزاف، بينما يبقى الفكر محتفظًا بفاعليته. هذه الثنائية بين تدهور الجسد وصلابة الفكر تمثل البنية التحتية للرؤية السردية، إذ تضع المتلقي أمام معادلة النقص الجسدي مقابل الاكتمال الروحي، وهو ما يحوّل الكرسي المتحرك من أداة عجز إلى عنصر يمنح البطل بعدًا أسطوريًا.

    يتطور البناء السردي عبر أربع مراحل أساسية:

    1. المطاردة والجبال: تمثل اختبارًا فعليًا للانخراط في المقاومة.

    2. انهيار الجسد: تكشف هذه المرحلة عن لحظة الانكسار الجسدي وما يقابلها من صلابة روحية.

    3. الهجرة والمنفى: يتجسد فيها الانتقال من المواجهة المباشرة مع العدو الخارجي إلى صراع داخلي مع الزمن والشعور بالخذلان.

    4. الموت والصمت الأبدي: تشكل الخاتمة التي لا تنغلق على العدم، بل تُبقي على إمكانية الضوء، حيث يتحول الانطفاء ذاته إلى دلالة استمرارية.

    انطلاقًا من هذا التقسيم البنائي، يمكن القول إن القصة لا تكتفي برواية تجربة ذاتية، بل تقدم نموذجًا للمثقف ـ المناضل بوصفه رمزًا جمعيًا. فهي تطرح شخصية "حميد" في بعد يتجاوز الخصوصية، ليغدو قناعًا سرديًا يستوعب معاناة أجيالٍ متعددة من الحالمين بالعدالة، الأمر الذي يمنح النص طابعًا شبه ملحمي.

    أما العنوان وهج لا ينطفئ، فيتجاوز وظيفته الاستعارية ليؤسس لفكرة مركزية: الذاكرة بوصفها أداة مقاومة. فالوهج ليس محصورًا في الشخصية، بل يتوزع في الفضاء النصي كطاقة رمزية مضادة للظلام، وهو ما يجعل النافذة التي يتركها البطل بعد رحيله نافذة مفتوحة للنص ذاته، تسمح للمتلقي بقراءة التجربة الإنسانية في أفق يتخطى حدود الإحباط واليأس.

    وعليه، فإن القصة تنجح في الجمع بين البعد الفردي والبعد الإنساني العام، من خلال توظيف شعرية السرد وآليات التمثيل الرمزي، لتؤسس نصًا يتجاوز البنية الحكائية المباشرة نحو أفق تأويلي أرحب، يضع القارئ أمام إشكالية الإنسان في مواجهة الفناء، ويعيد الاعتبار لقيمة المقاومة بوصفها فعلًا رمزيًا يتجاوز حدود الزمن والمكان.

  • الأستاذ الناقد القدير صالح مهدي محمد،
    تحية تليق بوهج قراءتك، وامتنان لا ينطفئ.

    حين يكتب القاص، فإنه يزرع بذرة في تربة الوجدان، لكنه لا يعرف إن كانت ستنبت في أرض الآخرين. أما حين يقرأ ناقد مثلك، فإن البذرة لا تنبت فحسب، بل تُزهر وتثمر، وتُعاد إلى صاحبها وقد اكتسبت حياة جديدة.

    لقد أدهشتني قراءتك العميقة التي لم تكتفِ بتفكيك البنية السردية، بل أعادت تشكيلها في ضوء تأويلي يفتح للنص نوافذ لم أكن أراها من قبل. توصيفك لثنائية الجسد والفكر، وتحويل الكرسي المتحرك إلى رمز أسطوري، كان بمثابة إعادة اكتشاف لحميد، لا بوصفه شخصية سردية فحسب، بل كقناع إنساني يحمل وجع الجماعة وأملها في آن.

    توقفت طويلًا عند عبارتك: "الانطفاء ذاته يتحول إلى دلالة استمرارية"، فهي تختصر ما كنت أطمح إليه دون أن أجرؤ على تسميته. لقد منحت النص بعدًا ملحميًا لم أكن أزعم امتلاكه، لكنك كشفته بحس نقدي رفيع، وذائقة لا تعرف المجاملة بل تعرف الإنصاف.

    أما عن العنوان، فقد أضاءته بقراءتك كما يضيء الوهج العتمة، حين قلت إن الذاكرة هي أداة مقاومة، فذلك بالضبط ما أردت أن يبقى من حميد: نافذة لا تُغلق، وكرسي لا يُنسى.

    أشكرك من القلب على هذا التعقيب الذي لا يُرد عليه إلا بالصمت الممتن، أو بكلمات تحاول أن تلامس وهجك النقدي، وإن عجزت عن بلوغه.

    دمت ناقدًا يُنير النصوص، ويمنحها حياة ثانية.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى