السبت ١٨ نيسان (أبريل) ٢٠٢٠
بقلم مصطفى الغرافي

يد على القلب... وعين على البلد

(1)

"الإنسانية تشعر ببعضها هذه الأيام". هكذا فكرت وأنا أتابع أخبار وتطورات الفيروس (اللعين) منذ ظهوره في الصين أول مرة. تابعت، ويدي على قلبي، تغير ردود الفعل التي أظهرها المغاربة تجاه الأخبار المتواترة عن تفشي هذا الوباء في البلدان التي اجتاحها الفيروس في وقت مبكر. كنت أتابع، بقليل من الخوف وكثير من الأمل، كيف تتحرك الإنسانية في كل أقطار المعمور من أجل مواجهة هذا الوباء الذي حير العلماء والأطباء من حيث أعراضه وطرق انتقاله والكيفية التي يهاجم بها ضحاياه، الذين يجدون أنفسهم أمام عدو خفي وغير مرئي، يهددهم بالموت والغياب، وهم الذين يتشبثون بالحياة بكل ما أوتوا من رغبة ومن لهفة.

(2)

لقد كانت الإنسانية تعتقد، إلى وقت قريب، أنها نجحت في حل كثير من ألغاز الكون والطبيعة. وهي في أوج الثقة بإنجازات العلم، هذا المارد، الذي أفلح في نزع السحر عن العالم وكشف كثير من أسراره وخفاياه، وإذا بها تفاجأ بأنها ليست مهيأة بعد لإعلان سيطرتها وسيادتها على الطبيعة؛ فهناك كثير من المناطق لا زالت مظلمة وملغزة في هذا الكون، ولا يستطيع العلم الحديث فك مغاليقها. لقد بدت الإنسانية اليوم عاجزة أمام فيروس صغير (ولئيم). يهدد وجودها ويزعزع ثقتها في نفسها وفي إنجازاتها، مسببا لها بذلك "جرحا نرجسيا" لا أظن أنها ستشفى منه في القريب العاجل. في اعتقادي أن الإنسانية ستضطر إلى مراجعة كثير من الأفكار والتصورات حول ذاتها وحول علاقتها بالطبيعة والكون من حولها. حقيقة تخيفني هذه الرغبة الجامحة التي تستبد بهذا "القرد العاري" (كما يسميه موريس ديزموند) لإخضاع الطبيعة والسيطرة على الكون. هذه اللوثة هي التي ستضيع الكائن الإنساني (الجميل والمخيف) وتودي به إلى نهايته المحتومة. المطلوب حقيقة إظهار كثير من التواضع وتعلم الدرس جيدا؛ فربما تكون هذه هي المرة الأولى التي تجد فيها الدول والحكومات نفسها أمام وضع غير مسبوق ولم تعتد عليه: أول مرة يكون منسوب الوعي المرتفع وسياسة العيون (والعقول) المفتوحة هو السبيل لتجاوز الأزمة بدل سياسة التجهيل و"جيل الضباع" (التسمية لعالم الاجتماع المغربي محمد جسوس). الدرس الذي ينبغي استخلاصه من هذه الجائحة هو إعادة الاعتبار لمجموعة من القطاعات الصحية التي أثبتث الأيام أهميتها في بناء المجتمعات وتحقيق النهوض الاقتصادي والحضاري المطلوب. يتعلق الأمر بقطاع التعليم والصحة والأمن. لا بد من تخصيص ميزانية مناسبة لهذه القطاعات والاعتناء بأطرها إذا أردنا أن نرى المغرب الذي نحلم به جميعا (المغرب الذي في البال وفي الخاطر).

(3)

على المستوى الشخصي فقد فرضت على نفسي حجرا صحيا قبل يوم من إعلانه رسميا. لقد أدركت من تتبعي لأخبار هذا الفيروس منذ ظهوره ألا حل له حتى هذا الوقت إلا بالمكوث في المنزل وعدم الخروج إلا للضرورة القصوى مع الالتزام التام بالاحتياطات التي يعلنها المسؤلون عن التدبير الصحي للمجتمع في ظل هذه الأوضاع الخاصة التي يجتاح فيها الفيروس بلدان العالم. ولا أخفي هنا أنني تابعت الإجراءات التي المتتابعة التي أعلنت عنها مؤسسات الدولة بكثير من الارتياح والتقدير للجهود التي تبذل على مختلف المستويات لاحتواء آثار هذا الفيروس اللعين، كما أنني تابعت بمزيد من الاعتزاز والفخر انخراط المغاربة (من كل الفئات والأعمار والطبقات) بكل حماس ومسؤولية في مواجهة الظروف التي فرضها تفشي الوباء. نظرت بكثير من التقدير إلى جهود الأطباء والممرضين ورجال الشرطة والجيش والأساتذة وجميع المواطنين الذين كشفوا عن وعي عال وإحساس كبير بالمسؤولية الملقاة على عاتقنا جميعا في هذا الوقت العصيب. لقد رأينا من مظاهر التضامن بين أبناء الوطن ما جعلنا نرى المعدن الحقيقي للمغاربة الذين يسارعون لكل مكرمة. في المحن تظهر معادن الناس وليس في أوقات الرخاء. وقد كشف المغاربة حقيقة عن حس وطني وإنساني عال يجعلك تفخر بالانتماء إلى هذا الوطن العزيز، وتعتز لكونك واحدا من هؤلاء المواطنين الذين بادروا كل من موقعه وحسب استطاعته للإسهام في احتواء الآثار الناجمة عن الظروف الخاصة التي تمر بها البلاد بسبب تفشي الوباء.

(4)

أقضي فترة الحجر الصحي في المنزل محاولا التأقلم مع هذا الظرف الطاريء الذي غير كثيرا من عاداتي اليومية. صحيح أنني تعودت أن أقضي معظم الوقت في البيت، غير أن الفرق كبير بين عزلة تختارها وبين عزلة تفرض عليك. العزلة التي تختارها تخصصها للعمل والإنجاز. وعندما تفرض عليك العزلة، فإن التأثير النفسي يكون كبيرا على سير العمل، خاصة بالنسبة لأمثالي الذين تعودوا العمل تحت الضغط وفي زحمة الحياة.

عندما تجد نفسك أمام كمية غير محدودة من فائض الوقت فإن الملل يمتد أمامك شاخصا ملء الفراغ الممتد أمام ناظريك. وتحتاج لكي تملأه إلى كثير من اليقين والإيمان؛ الإيمان بالإنسان الذي يستطيع أن يتغلب على الظروف الصعبة مهما كانت. وأظن أننا نملك منه الكثير. فأنا على يقين تام بأن الإنسانية ستنجح في اجتياز محنتها كما تعودت دائما. وسيكون أمامنا متسع للتفكير والتعبير. أما الآن فيشعر كل واحد منا أن الإحباط يتسرب إليه مهما كانت مناعته وقناعته. ولا سبيل لمواجهة لحظات القنوط والملل سوى بمزيد من العمل... والأمل. فلنجعل من فترة الحجر الصحي مناسبة للتعلم وتطوير الذات. سيكون من المفيد استثمار الوقت الذي تتيحه هذه العزلة (المفروضة) وصرفه فيما يعود بالنفع على الفرد والمجتمع: قراءة بعض الكتب المؤجلة ومشاهدة الأفلام والمسلسلات التي لم نكن نجد لها الوقت في زحمة الحياة. تعلم اللغات وتطوير المهارات الخاصة ببعض الهوايات التي يمكن ممارستها في البيت.

(5)

من الضروري في هذه اللحظات العصيبة عدم الاستسلام لليأس والإحباط. لقد وجد الإنسان لكي يحيا وينجز ويكون. سيمرّ كل شيء. وستنجح الإنسانية في اجتياز محنتها (كما تعودت دائما) وسنكون بخير. واجبنا، في هذه اللحظة، أن نحقق ماهيتنا وهويتنا: أن نسير يدا في يد... نحو إنسانيتنا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى