
جلال الدين الرومي: رسول الشعر العرفاني
جلال الدين المولوي الرومي أحد أقطاب الشعر الفارسي ومن أبرز وجوهه الأدبية خلال الألفية الماضية؛ إذ كان من المبدعين الذين حولوا وجهة الشعر الذي كان مُسخراً لخدمة أهل البلاط إلى شعر إنساني يهتم بالفئات الشعبية ويُمارس دوره الفعّال والأساسي في بناء المجتمع.
ومن هذا المنطلق أصدرت مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري وبالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) كتاب (جلال الدين الرومي: رسول الشعر العرفاني) وذلك بمناسبة احتفالية الأمم المتحدة بالذكرى المئوية الثامنة لميلاد الشاعر.
الكتاب الصادر بحلة قشيبة من تأليف سمير أرشدي أستاذ اللغة والأدب الفارسي بجامعة الكويت ومن أهم أعماله الأدبية تعريب ديوان الشاعرة الإيرانية المعاصرة بروين اعتصامي من انتشارات دار الدكتورة سعاد الصباح وترجمة عدة روايات ومجموعات أدبية منها كتاب (سبع نساء وسبع قصص) لسبع راويات إيرانيات من إصدار المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت.
شاعر متعدد الثقافات
يشير الأديب الكويتي عبد العزيز البابطين في تصديره للكتاب إلى أن الرومي شاعر متعدد الثقافات يدعو في قصائده إلى حوار الحضارات وتعايش الثقافات وتطهير النفوس من التحجر الفكري والتعصب الأعمى، وإن أبياته مهيأة لإقامة منهج عالمي مبني على توفير الخير والفلاح للإنسانية حيث إنه أبصر العالم برؤية جديدة وكان مجدداً في عالم الأدب.
أدب يزيل الصدأ عن النفوس
أما المؤلف سمير أرشدي فيتطرق إلى حاجة الأمة العربية والإسلامية إلى أدب يهذب النفوس ويصقل الأرواح ويزيل عنها الصدأ لتستعيد قيمتها المعنوية، إذ إن ما قيل في المتنبي قبل ألف عام بأنه مالئ الدنيا وشاغل الناس يصحّ اليوم في مولانا جلال الدين المولوي إذ ظهرت في أوروبا ترجمات لمختارات من قصائده وتراثه الصوفي المميز بين أهل السير والسلوك، وغدت ترجمة الشاعر الأمريكي (كولمن باركس) لغزليات الرومي في طليعة لائحة الكتب الأكثر مبيعاً في الولايات المتحدة.
إن الإقبال المتزايد على قصائد هذا الشاعر يبرهن على الخواء المعنوي والفراغ الروحي الذي يعاني منه الغرب إذ وجد ضالته في قصائد جلال الدين التي تروي ظمأه وتشفي غليله وترتقي به إلى عالم يؤمن بالله الواحد وترشده لبلوغ مرتبة الإنسان الكامل.
البطاقة الشخصية للرومي
في أحضان السهول الفسيحة لمدينة بلخ التاريخية العريقة وعلى سفح احد روافد نهر جيحون ولد جلال الدين الرومي بين عائلة اشتهرت بالوعظ وتدريس الشريعة والحديث حيث كانت هذه المدينة واحدة من مراكز الثقافة الإسلامية؛ ولم تمض فترة طويلة حتى اتضح تهديد المغول القادم من آسيا الوسطى وهو يقترب كالسيل الجارف مما دفع هذه الأسرة لترك مسقط الرأس والهجرة باتجاه المغرب مروراً ببعض الحواضر الإسلامية كنيسابور وخراسان وبغداد ودمشق حتى استقر بها المقام في قونية بأواسط الأناضول وكانت عاصمة السلاجقة وقد استقطب سلطانها خيرة العلماء والفقهاء وكان المسجد الذي استقر به جلال الدين يتسع لأربعة آلاف مصل.
الشمس تشرق على جلال الدين
شمس الدين التبريزي هو ذلك الدرويش الجوال الذي غيّر مسيرة جلال الدين من فقيه في علوم الدين إلى عارف غارق في التصوف الذي لم ينسه ثقافته الدينية التي نشأ عليها.
فبينما كان جلال عائداً من مدرسته محاطاً بتلاميذه وجمع غفير من أتباعه تقدّم إليه هذا الدرويش الغريب ماسكاً زمام بغله في قارعة الطريق ليطرح عليه السؤال التالي: ما المقصود من الرياضيات والعلوم؟
فأجاب جلال الدين: الاطلاع على آداب الشرع.
قال شمس:لا؛ بل الوصول إلى المعلوم؛ فإن العلم إذا لم يجردك عن نفسك فالجهل خير منه.
وسرعان ما تلازم الرفيقان مما أدى إلى انسحاب الرومي من غمار الحياة الاجتماعية ليغلق باب بيته بمفتاح الحب الإلهي ويتفرغ لهذه الشخصية التي اتسمت بالحماس الروحي العظيم.
لا حياة بلا حب
قدّم الرومي رسالته إلى الجنس البشري مُركزاً على الحب باعتباره المرشد الأعظم للطريق الروحي فلا حياة بلا حب؛ وأن تحب يعني أن تحيا، حيث ذاب في محيط الوجود الإلهي كما يذوب السكر في الماء، وعدّ نفسه روحاً تحترق حتى الجمر في أتون نشوة الحب الإلهي وحثّ على العمل والجهاد موجهاً سهام نقده للمتكبرين والمغرورين ومحذراً من إتباع المشعوذين من أدعياء الكرامات متصدياً للبدع ومحارباً الملحدين.
أحد أساطين الشعر العالمي
في ستين ألف بيت جمع هذا الشاعر المسلم العملاق عُصارة أفكاره ليكون واحداً من أساطين الشعر العالمي وفي الطليعة من شعراء الإسلام؛ يقول عنه العلامة محمد إقبال اللاهوري: لن يطلع من رياض شقائق النعمان في إيران رومي آخر!
يفتتح جلال الدين المولوي الرومي ديوانه بالناي لارتباطه بالقصة القرآنية للخلق حيث يقول سبحانه وتعالى:(( ونفخت فيه من روحي)) فالإنسان هو الناي الذي يتكلم عندما تلامسه نفخة المعشوق. انه قطعة من القصب قُطعت جذورها وأبعدت عن أصلها؛ إنه مُجوف، قلبه فارغ له ثقوب يُقدّم من خلالها كل النغمات التي يريد أن يصدح بها؛ من أدنى النغمات إلى أعلاها. يقول الرومي: أصغ إلى الناي، واسمع ما يُحدثك به. ما ذلك الشيء الذي يصدر عن الناي فيستبد بنفسك ويتخلل وجدانك؟
الإنسان عود من الخيزران، وما في القصبة من تجويف يجعلها اقرب إلى شفتي الحب الإلهي، ولن يجد الإنسان سر الحياة في أي مكان إلا في داخل نفسه.
قبسا ت من ديوانه
ذلك الذي يجعل الورد والشجر ناراً
قادر على أن يجعل النار برداً وسلاماً
ذلك الذي يُخرج الأزهار من قلب الأشواك
بإمكانه أيضاً أن يجعل الشتاء ربيعاً
ذلك الذي به يتحرر كل سرو (يظل دائم الخضرة)
قادر على أن يجعل الألم سروراً
ذلك الذي به يغدو كل معدوم موجوداً
ماذا يضيره لو أبقاه دائماً؟
أنين الناي
اسمع الشكوى من الناي الحزين
قصة الفـــــــرقة يحكيها الأنين:
قطعوا القصباء فالــتاع القصب
واستحالــت للــورى بُوق العتب
ليت صـدري يـــتشظّى بالفراق
كي أبــــــث الكون سر الاشتياق
شـــطت الــــــدار بنا عن أصلنا
يا حــــــنين الروح أرجع وصلنا
جلال الدين قطب من الأقطاب تدور عليه رحى القلوب التي تهيم بمحبة الله تعالى وتنجذب إليه أرواح السالكين فيقدح فيها زناد الشوق ويدفعها في طريق الحق.